في الفكر السياسي

بقلم
نعمان العش
دولة المؤسسة وتعدد أجهزة السلطة
 المقدّمة
إنّ القواعد الأساسية لثقافة ما، وهي الّتي تحكم لغتها وصورها الحسّية وتبادلاتها وتقنياتها وقيمها وتناسق ممارستها، تحدّد منذ البداية لكلّ إنسان، النّظم التّجريبية الّتي يلتزم بها ويوجد فيها، ومن جهة أخرى، فالنّظريات العلمية والتّأويلات الفلسفية تقوم ببيان:
•  أسباب وجود النّظام،
•  والقانون العامّ الّذي يخضع له،
•  والمبدأ الّذي يوضّح بدوره لماذا كان هذا النّظام دون غيره،
إلاّ أنّه، بين هاتين المنطقتين المتباعدتين، يطغى مجال وسيط لا يقلّ أهمّية عن الأوّلين، إنّه يبدو أكثر غموضا وتداخلا، فهو بالتّالي أشدّ استعصاء منهما على التّحليل. هكذا تتنقّل الثّقافة تدريجيا، بالنّظم التّجريبية الّتي تحدّدها قواعدها الأوّلية، لتؤسّس مسافة أولى تفصلها عنها وتفقدها شفافيتها الأساسية، وعلى قاعدة الوضعية تتكوّن -في عمق هذا النّظام- النّظريات العامّة لنظام الأشياء والتّأويلات الّتي تستدعيها.
هذه التّجربة هي الّتي نريد إخضاعها للتّحليل ونريد، بالتّبعيةّ، معرفة مصيرها في الحضارة الغربية الّتي أبرزت أنّه كان ثمّة نظام يحكمها وأنّ قواعد هذا النّظام هي الّتي تمنح للتّبادلات قوانينها ولعبارات اللّغة تسلسلها وقيمتها المميّزة. هذا التّحليل لا يعتمد تاريخ الأفكار أو العلوم بل إنّه دراسة تبذل جهدا كبيرا للتّنقيب عن الأسباب الأولى الّتي جعلت من هذه المعرفة أو تلكم النّظريات ممكنة ووفق أيّ نظام تشكّل العلم وفي عمق أيّ « ما قبليّ » تاريخيّ وفي أيّ إطار لأيّة وضعيّة positivité ظهرت الأفكار وتكوّنت العلوم وانعكست العلوم في الفلسفات وتكوّنت العقلانيات الّتي قد تنتكس أو تندثر فيما بعد.
إذن، لا يتعلّق الأمر بمعارف موصوفة في مسارها التّاريخي تتّجه نحو موضوعية يعرف بها العلم الغربي حاليا. ما نريد إيضاحه هو الحقل الإبيستيمولوجي الّذي تقدّمه خارج كلّ خاصّية ترجع به قيمته العقلانية أو كلّ الأشكال الموضوعية الّتي تدّعّم وضعيته positivité.
دعونا في بحر هذا عمقه نستبيح الإطلال، منذ شاطئه المتحرّك التّساؤل عنّا، نحن العرب المسلمون: فهل من الممكن أن تنطبق فكرة موت الإنسان على مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟
من المؤكد أنّ هذه المقولة « موت الإنسان » هي مقولة غربية ومرتبطة بالتطوّر الصّناعي والعلمي والتّكنولوجي في الحضارة الغربية، إضافة إلى تأثير الرّأسمالية عليها، كلّ ذلك جعل هذه المقولة أكثر صلاحية لدى هذه المجتمعات التي تعيش بشكل مقنّن للقيم والأفكار والسّيطرة كما يرى ذلك هربرت ماركيوزHerbert Marcuse حيث يقول:
« إنّ الدّيمقراطية تدعم السّيطرة بشكل أقوى من الحكم المطلق، وهكذا تصير الحرّية المداراة والكبت الغريزي مصدرين دائمي التّجدد للإنتاجية »(1).
لا تزال مجتمعاتنا تحكمها بنى وانساق مختلفة جدّا عن تلك الّتي توجد في المجتمعات الموصوفة بالمتقدّمة، حيث سيادة « العشائري والطّائفي والدّيني » إلى حدّ كبير، ومن ثمّ فالإنسان موجود -كفرد وكسلطة اجتماعية- داخل نسق العشيرة أو الطّائفة، أمّا الوجود الجمعي للأفراد existence collective، فإنّه محكوم بقدرة الزّعامات وجميع الّذين يملكون كاريزما اجتماعية معيّنة charisme sociale، ولكن، إذا كانت الدّيمقراطية قد خلقت، لدى المجتمعات الحديثة، السّيطرة، كما يقول هربرت ماركيوزHerbert Marcuse، فإنّ الحكم المطلق، لدى مجتمعاتنا اشدّ سيطرة وخصوصا بعد التّجربة الّتي عاشتها مجتمعاتنا متمثلّة بالأحزاب الشّمولية partis totalitaires ودولة الحزب الواحد État à parti unique، إذ يمثّل، أي الحكم المطلق، رمزا للخناق المستمرّ والمعطّل لأيّة إنتاجية معيّنة من شأنها أن تضفي التطوّر والحراك الاجتماعي.
 
السّلطة: مؤسّسة تعدّد الأجهزة
تنطلق دراسة « ميشال فوكو » Michel Foucault الأركيولوجية من نتائج عصر التّنوير الّذي كان مصدر تشريع مبادئ حقوق الإنسان واحترام جسده قاطعا مع أشكال التّعذيب الجسدي. يقول « ميشال فوكو »:
هذه الحاجة إلى المعاقبة بدون تعذيب ظهرت في بادئ الأمر كصرخة قلب أو كصرخة الطّبيعة (...). المسألة إذن هي : كيف كان هذا الإنسان-الحدّ موضوعا وهدفا لممارسة العقوبات التّقليدية وبأيّة كيفية أصبح المبرّر الأخلاقي الأكبر لحركة الإصلاح؟ ولماذا هذا الكره الإجماعي للتّعذيب؟ ولماذا مثل هذا الإلحاح الغنائي على «عقوبات تكون إنسانية» ؟ (2)
صورة التّعذيب، قام فوكو بتصويرها عبر مثال« داميان»، في منظومة منهجية متميّزة، وهي التّشريح والتّفكيك، وهي لا تعبأ بتاريخ الأفكار الّتي أنتجت هذا النّمط من السّلطة، بل بالبحث عن المبدأ أو الأصل الّذي كان نواة ظهورها الأوّل. وتعتبر أركيولوجيا فوكو، بصيغتها الّمقدّمة آنفا، محاكمة تحليلية للخطاب (القوانين الجنائية والإصلاحية...) في علاقته بالمعرفة.
سنعود لتفصيل هذا المسار الأركيولوجي الّذي يعتمده فوكو للكشف عن طبيعة السّلطة وعن طبيعة الخطاب المعرفي الّذي أنتجها وعن طبيعة علاقة هذا بذاك، فإنّنا نرى أن نعود إلى « حنّة أرنت » Hannah Arendt لما لها من تأثير على أطروحات فوكو الأركيولوجية.
تقول « حنّة أرنت »:
فالحال أنّ أدوات العنف قد تطوّرت تقنيّا إلى درجة لم يعد من الممكن معها القول بأنّه ثمّة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التّدميرية(...) بما أنّ العنف، في تمايزه عن السّلطة أو القوّة أو القدرة، بحاجة دائما إلى أدوات، فإنّ ثورة التّكنولوجيا، كثورة في صناعة الأدوات، ارتدت أهمّية فائقة في المجال العسكري، فالحال أنّ جوهر فعل العنف نفسه إنّما تسيّره مقولة « الغاية » و«الوسيلة » الّتي كانت ميزتها الرّئيسية، إن طبّقت على الشّؤون الإنسانية، أنّ « الغاية » محاطة بخطر أن تتجاوزها « الوسيلة » الّتي تبرّرها والّتي لا يمكن الوصول إليها من دونها. (3)
ويعتمد نظام البرهنة عند «حنّة أرنت» على إنجاز ضرب من التّنسيق المنهجي بين الغاية والوسيلة، فهي تعتبر أنّ الغاية مرتبطة تلازميا مع الوسيلة المعتمدة لتحقيقها، وهي تنفي، في سياق عملية الرّبط هذه، إمكانية «التّنبّؤ بالغاية المتوخّاة من أيّ عمل بشريّ ككيان مستقلّ عن وسائل تحقيقه». (4) لابدّ أنّ الغايات لا تفوق أهمّيتها أهمّية الوسائل طالما أقررنا بالتّلازم بينهما ولذلك تكشف «حنّة أرنت» عن معاضدة لوسيلة تحقيق الغاية، في حال العجز عن السّيطرة الرّقابية على النّتائج الّتي تتبدّى منفلتة من رقابة من يقومون بالعمل، وهو ما تعبّر عنه في قولها: فإنّ العنف يحمل في ذاته عنصرا إضافيا تعسّفيا (5) وإذا كان العنف والتّعسّف ملازمين بدورهما للتّلازم بين الوسيلة والغاية، فإنّ مفهوم السّلطة، الّتي تبدو في هذا المجال مخفيّة، مفهوم، ينبغي على الباحث في الفلسفة السّياسية، أن يسوق له تحديدا مفهوميا، يكون بدوره، في علاقة مع مفهومي العنف والحرّية.
فهل ينبغي، ونحن نتناول السّلطة، أن نكتفي بفهمها كمؤسّسة واحدة؟ أم أنّ السّياق المعرفي الّذي يحدث، بالتّوازي مع التطّوّر التّكنولوجي كوسيلة لتحقيق الغاية، انقساما في بنية السّلطة، لتصبح مجموعة من السّلط؟ وما هو الهدف من ذلك ؟
تعتقد «حنّة أرنت» أنّ التّضليل والمخادعة هما ما تتّسم بهما «الدّولة الأحادية» l’Etat unilatéraliste الّتي تحتوي على مصدرين للسّلطة وهما الحزب والدّولة. هذا المظهر هو منطلق إخفاء السّلطة الّتي تبدو واحدة، وهو ما يشرّع المساءلة الفلسفية حول مفهومها، وهكذا فهي تنطلق لبذل التّحليل للصّعوبة المعروضة في السّؤال أعلاه، وفي سياق إنجاز هذا المنعرج الفلسفي إذ تقول: «إنّ البنية الأحادية الّتي تتشكّل منها الدّولة التّوتاليتارية ليست للمراقب أمرا أكثر جلاء من غيره، بل إنّ العكس صحيح، ذلك أنّ كلّ الّذين عالجوا المسألة بجدّية وعمق أجمعوا على أنّ مصدرين للسّلطة يتعايشان أو يتواجهان في الدّولة التّوتاليتارية الآنفة، وهما الحزب والدّولة، في حين أنّ العديد من المحلّلين شدّدوا على الطّابع «عديم الشّكل» الّذي يتّخذه الحكم التّوتاليتاري.(...) كنّا قد أشرنا غالبا إلى أنّ العلاقات بين مصدري السّلطة، أي الدّولة والحزب، إنّما كانت تنمّ عن سلطة ظاهرة وسلطة واقعية، بحيث يوصف الجهاز الحكومي بعامّة على أنّه الواجهة الّتي تتوارى خلفها السّلطة الواقعيةّ الّتي يمارسها الحزب وتشكّل حماية لها. (6)
على أنّ إطار ما عبّر عنه بازدواجية السّلطة في الدّولة يقوم بدوره على غاية الإحاطة بالنّتائج غير المرتقبة، فالازدواج في السّلطة وانقسامها وتحقّق التّعايش بين سلطة واقعية وسلطة ظاهرة، كما بيّنّا ذلك آنفا، يخلق، والعبارة لحنّة أرندت، الاضطراب وهي تعبّر عن هذا الاضطراب كما يلي: «إنّ النّاطقين المعاصرين باسم الدّولة، الّذين يعرفون أنّ قضيّتهم هي تقريبا قضيّة خاسرة، حتّى في الفترات القليلة الّتي يهيّئ فيها الرّأي العام مناخا مناسبا للمحافظة الجديدة، لا يغفلون عن التّأكيد على الفصل بين الاستبداد والسّلطة، وهنا ينبري الكاتب اللّيبرالي ليرى في ذلك اليقين الأساسي لتقدّم في اتّجاه الحرّية الّتي لم تنقطع إلاّ بصفة عرضية بأيدي قوى الظّلام القادمة من الماضي. (7)
تشير «حنّة أرنت » إلى أنّ الازدواج في الأجهزة باعتباره ظاهرا لمسألة الحزب-الدّولة في الأنظمة التّوتاليتارية، وهي أنظمة الحزب الواحد، هو تمظهر لظاهرة « تعدّد الأجهزة»، وتختار هذه العبارة لتفضّلها على عبارة الازدواج، وتضيف « حنّة أرنت » إلى هذا بقولها: «... إنّ العلاقة الأصلية بين السّلطة الواقعية والسّلطة الظّاهرة تتكرّر أنّى كان، وإن بأشكال متبدّلة، على الدّوام (...) ذلك أنّ المواطن المذكور لم يدرك الأمور بوثوق، ولن يقال له البتّة وبصورة علنية، أيّ سلطة هي جديرة بأن توضع أعلى من كلّ السّلطات الأخرى، لذا وجب عليه أن ينمّي نوعا من الحسّ السّادس لكي يدرك، في اللّحظة المناسبة، الشّخص أو المؤسّسة الّتي يجدر الخضوع لها أم الشّخص الواجب أن يستهزأ به. (8)
انطلاقا من هذه العبارات، يحقّ لنا أن نندفع مع تيّار هذا التّحليل إلى إبراز أنّ صفة التّضليل والمخادعة تستهدف المواطن بتعاضد، لتحقيق ذلك الهدف، بين عناصر السّلطة ذات أجهزة المتعدّدة والأجهزة الفكرية الّتي أنتجتها، ولئن أدركنا بأنّ المواطن هدف للتّضليل، فإنّه كذلك يحقّ بيان أنّ المستهدف الثّاني هو الحرّية والحال أنّ هذه القيمة هي السّمة الأساسية الّتي دافعت عنها الحداثة منذ ثورة الأنوار.
فهل نحن ملزمون برؤية «هوبز» Hobbs الّذي يعتقد أنّ  «المواثيق في غياب السّيف ليست أكثر من كلمات».
دفاعا عن الفصل بين السّيادة والحرّية، وردّا على موقف «هوبز»، الّذي لا تقرّه إلاّ في حالة تعرّض الاستقلال الوطني إلى الانهيار وأنّه لن يكون قادرا على الظّهور طالما لن يكون من الممكن فصله عن سيادة الدّولة، فإنّ «حنّة أرنت» تستشهد بمثال الولايات المتّحدة الأمريكية فتقول: «إنّ الولايات المتّحدة الأمريكية واحدة من بين دول قليلة العدد يبقى فيها التّمايز بين السّيادة والحرّية ممكنا ولو على الصّعيد النّظري، طالما أنّه ليس ثمّة أيّ خطر يحيق بأسس الجمهورية نفسها. (9)
وتضيف « حنّة أرنت » بأنّ دارسي العلاقات الدّولية ظلّوا إلى زمانها الرّاهن يعتقدون أنّ أيّ قرار عسكريّ يكون على تناحر مع التّراث الثّقافي العميق لأمّة ما، سيكون قرارا غير راسخ بالتّأكيد، أو كما يقول « أنغلــــز »Engels «في كلّ مكان تتناقض فيه بنية سلطة لبلد ما مع النّموّ الاقتصادي لهذا البلد تكون الهزيمة من نصيب السّلطة وأدوات العنف الّتي تلجأ إليها».(10) قبل الاستمرار في متابعة تطوّر نسق الحجاج لدى » حنّة أرنت » فإنّي أرى وجود مبالغة في توثيق عرى العلاقة بين النّتائج الّتي توصّلت إليها بامتياز، الكاتبة، في كتابيها « في العنف» On Violence و«أسس التّوتاليتارية»  Les Origines du Totalitarisme وبين قضيّة اليهود في ألمانيا، ولقد أشرت إلى امتيازها في إنجاز بنية فكرية شديدة الدّقّة في تسلسلها المنطقي، إلاّ أنّي أراها بنية غافلة عن قضايا أخرى تصيب أمما، أخرى وأرى نجاعة يمكن أن تحقّقها هذه البنية لفهم حدّ مؤسّسة السّلطة ومقاربة علاقتها بمفهوم الحرّية.
تعتقد « حنّة أرنت » أنّ نتيجة المستجدّات السّابق إدراجها هو ما تعبّر عنه بالانقلاب في مستوى العلاقة القائمة بين السّلطة والعنف وهو ما عبّرت عنه كما يلي: «لقد كان تكاثر الأجهزة غاية في الإفادة بالنّسبة لتنقيل السّلطة تنقيلا ثابتا، ومع ذلك، فكلّما طال مكوث نظام توتاليتاريّ في السّلطة، تعاظم عدد الأجهزة والمراكز الّتي يرتبط وجودها بالحركة، بصورة أخصّ، طالما أنّ أيّ جهاز لن يلغى البتّة، رغم أنّ النّفوذ النّاشئ عنه يكون ملغيّا. (11)
لكنّ ذلك يعتبر نتيجة موثوقة تهيّأ لإنتاجها منظّرو السّلطة التّوتاليتارية وجهّوا لها مستلزمات حمايتها واستمرارها. غير أنّ ما قدّمناه من عودة إلى تصوّرات « حنّة أرنت » هو ما يقدّم لنا عرض المسألة كما ناقشها « ميشال فوكو »، صاحب « جينيالوجيا المعرفة »Généalogie du Savoir إذ يقول هذا الأخير، في تقديمه للمنهج الّذي يعتمده لدراسة مفهومي المؤسّسة والسّلطة :
البحث عن المصدر لا يؤسّس، إنّه يربك ما ندركه ثابتا ويجزّئ ما نـــراه حــدّا. أيّة قناعــة قد تصمــد بعد هــذا؟ نستطيع أنّ نقول أنّ المصدر مشدود إلى الجسد ومندرج في منظومته العصبية وفي مزاجه وجهازه الهضمي (...) وضمـــن الجســـم وخوره أمــور موروثة عن أسلاف اقترفوا (...) قد نعثر فوق الجسد على آثار الحوادث الماضية (...) إنّه حجم يخضع دائما لتفتّت مستديم، والجينيالوجيا باعتبارها تحليلا للمصدر تجـــد نفسهـــا في حـــال تلاحـــم مع الجسد والتّاريخ، عليها أن تبيّن أنّ الجسد ينقشه التّاريخ ويخرّبه التّاريخ. (12)
الخاتمة
إنّ التّقدّم العلمي والحضاري أضاف إلى الغرب رصيدا جديدا يضاف إلى ثورة الحداثة الّتي حقّقها وهو رغبة جامحة للسّيطرة على المجتمعات الأخرى أي على حضارات أخرى. لا تنحصر هذه الرّغبة في السّيطرة على مقدّرات هذه المجتمعات الضّعيفة، بل يضاف إليها محو لخاصيتها الحضارية بما تشمله من لغة وفكر وعلوم وبنى أخلاقية ودينية وسياسية وغيرها، إلاّ أنّ الشّمولية الّتي عادت لتظهر في مجتمع الحداثة وما بعد الحداثة، يبدو أنّها شمولية يصوغها العلم وفلسفة ما بعد الحداثة، وليست الميتافيزيقا أو اللاّهوت، وما نقصده بالشّمولية هو ما يتجلّى من بنى لمؤسّسات سياسية تخطّط، وذلك عبر منظّريها، لصهر الأفراد والمجتمعات وكذلك المؤسّسات في كلّ يفرض عليها فرضا أو يملي عليها نمط وجودها. هذا الكلّ ليس أمّــــة أو عرقا أو دولـــــة، بل هو حضارة « الكوكــــا »، بعبـــــــارة « صمويل هنتنغتون » Samuel Huntington، عن طريق مؤسّسات دولية تمارس العنف بمختلف أنماطه المغلّفة بأنظمة الخادعة والتّميوه. إنّ اجتهاد ميشال فوكووكذلك حنّة أرنت، متميّز بالإضافة إلى عبّر عنه ميشـــال فوكـــــو في « الكلمات والأشياء » Les mots et les choses بقوله: هناك انطباع سائد أنّه بمجرّد أن قام الإنسان كتشكيل وضعي في حيّز المعرفة وكان أن تمكّن ثمّة فكر موضوعيّ من أن يغطّي الإنسان بأكمله، فلن يكون فوكو وغيره، رغم الصّفة النّقدية الّتي التزم بها لتطوير حضارته وتطويعها للاستزادة من السّيطرة، إلاّ رقما جديدا يستحقّ جوابا عليه بالمثــل، وفي هذا يمكـــن أن نــــورد عبـــارة « جيل دولوز»  Gilles Deleuze: «أن نفكّر فهو أن نخلق».
 الهوامش
(1) الفكر العربي المعاصر /العدد 6/7/ د. بشارة صارجي/ البنيوية... غياب الذات؟/ ص17
(2) ميشال فوكو، المراقبة والمعاقبة-ولادة السّجن، ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي بيروت، 1990، ص 107
(3) حنّة أرنت، في العنف On violence-، ترجمة إبراهيم العريس، دار السّاقي بيروت، 1992، صص 5-6
(4) نفس المصدر، ص 6
(5) نفس المصدر، ص 7
(6) حنّة أرنت، أسس التّوتاليتارية،  Les Origines du Totalitarismeترجمة أنطوان أبو زيد، دار السّاقي بيروت، 1993، ص148
(7) Hannah arendt, Crrise de la Culture, Trad. Sous direct. Patrick Levy, idées/gallimard, p.129
(8) حنّة أرندت، أسس التّوتاليتارية، Les Origines du Totalitarisme ترجمة أنطوان أبو زيد، دار السّاقي بيروت، 1993، صص152-153
(9) حنّة أرندت، في العنف On violence-، ترجمة إبراهيم العريس، دار السّاقي بيروت، 1992، ص 7
(10) حنّة أرندت، في العنف On violence-، ترجمة إبراهيم العريس، دار السّاقي بيروت، 1992، ص 8
(11) حنّة أرندت، في العنف On violence-، ترجمة إبراهيم العريس، دار السّاقي بيروت، 1992، ص 155
(12) ميشال فوكو، جينيالوجيا المعرفة، Ginalogie du savoir ترجمة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي بيروت، 1990، ص 58
----------
- باحث في الفكر السياسي
noomen_e@yahoo.com