بحوث

بقلم
م.لسعد سليم
البحث الثّاني: «الكبائر الفرعيّة» أكل الميتة و الدّم و لحم الخنزير وما أهل به لغير الله، صيد البرّ (
 مقدّمة
تطرقنا في سلسلة المقالات السّابقة إلى الكبائر «الأساسيّة» الاثنتي عشرة: 1.الشّرك باللّه، 2.قتل النّفس، 3. إتيان الفواحش، 4.عقوق الوالدين، 5. أكل مال اليتيم، 6.تطفيف الكيل وَالْمِيزَانَ،7.عدم الوفاء بالعهد، 8. التقول على اللّه جلّ جلاله، 9. شهادة الزّور،10.عدم إقامة الصّلاة، 11. عدم إيتاء الزّكاة،  12.السّرقة. وقد وصفناها بـ «الأساسيّة» لأنّ اللّه جلّ جلاله أمر بتجنّبها منذ أوّل البعثة بمكّة وأعاد تكرارها في العديد من الآيات المكّيّة والمدنيّة، متوعّدا من يقوم بها بغضبه وعذابه ومبشرا متجنّبها برضاه وثوابه. فتجنّب هذه الكبائر «الأساسيّة» كما ذكرنا واجب في كلّ زمان ومكان، وكلّ الرّسل كانت تدعو إلى ذلك. فهذه الأحكام هي أسس الدّين «القيم» وبالتّالي النّهضة ومن ثمّ الحضارة واستدامتها.
فالسّور المكّيّة لم تكن تقتصر فقط على الإيمان والعقائد (كما وقع التّرويج إليه في التّراث «الفقهي») بل كانت تركّز أيضا وبصفة متكرّرة على اجتناب هذه الكبائر بكلّ صيغ التّحريم والنهي والاجتناب وعدم القرب والقضاء.  فكلّ مؤمن مطالب بعدم القرب منها في كلّ الحالات، إن كان غنيّا أو فقيرا، ضعيفا أو قويا، الخ... فلا حاجة إلى المجموعة أو السّلطان للتقيد والعمل بها، بعكس الكبائر «الفرعيّة» المتعلّقة مثلا بأحكام الطّلاق/الحدود.... التي بيّنها اللّه عزّ وجلّ وورد ذكرها في السّور المدنيّة فقط، (يستثنى منها تحريم أكل الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه والتي وقع ذكرها في سور مكّية في مناسبتين أيضا) حيث صار للمسلمين سلطان بقيادة الرّسول ﷺ، والتي هي محور بحثنا هذا. وتسميتها بالفرعيّة جاء من باب التّمييز فقط لا الأهمّية، لأنّها لا تتعلّق بكلّ فرد من المجموعة، كما أنّها تحتاج إلى سلطان وسيادة لتنفيذها أو تكون هي نفسها متعلقة بالسّلطان أو الفئة المسيطرة فهي مكمّلة للكبائر الأساسيّة ولازمة للنّهضة واستدامتها.
وهي كما هو الحال في الكبائر الأساسيّة، تتعلّق أيضا بالغرائز وإشباعها بالطّريقة الصّحيحة مع أحكام تفصيليّة تتعلّق خاصّة بالزّواج والطلاق والمواريث والعقوبات..... هذه الأحكام التي وإن كان يصعب التّقيد بها، وتتطلّب الصّبر والتّضحية لمخالفتها الهوى (الشّهوات)، فهي تراعي حاجات المجموعة وكلّ فرد منها على المدى القصير والبعيد. بعكس الأحكام والقوانين الخاطئة التي تكون دوما آنية وعلى حساب الطّرف الضّعيف، فتسيء بالتّالي إلى المجموعة على المدى البعيد، فينتشر الفساد ومن ثمّ التّخلّف والانحطاط وحتّى الاندثار(1).
و الكبائر التي وردت في القرآن الكريم نوعان:
1. ترك فرض: وهو ما أمر اللّه سبحانه بعمله، كالإحسان بالوالدين والوفاء بالعهد وإيتاء الزكاة.. 
2.ارتكاب حرام: ما أمر اللّه بتركه، كالشّرك باللّه وقتل النّفس والزّنا ...
وصيغ النّهي والأمر المتعلّقة بهاتة الأحكام سبع: التّحريم، والكتابة، والاجتناب، والأمر، والنّهي، وعدم القرب، والوصيّة.  
وفي هذا الجزء الأول سنتطرق إلى الكبائر التي وردت بصيغة التّحريم في السّور المدنيّة، وهي: 1.أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه، 2.صيد البر، 3.أكل الرّبا، 4. زواج المحارم.
1. أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه
وردت صيغة «التّحريم» في النّهي عن الكبائر منذ أوّل ما نزل من القرآن الكريم بمكّة المكرّمة، في سورة الأعراف: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(الأعراف: 33) 
ثمّ في سورة الأنعام: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلون...﴾(الأنعام: 153)
وفي نفس السّورة حرّم اللّه سبحانه أكل الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه:﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾(الأنعام: 119)  وقوله:﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(الأنعام: 145) 
ثمّ في سورة النّحل:﴿إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(النحل: 115)
وفي المدينة المنوّرة، كان أكل الميتة والدّم أوّل ما حرّم سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ*إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(البقرة: 172-173)
وفي أواخر ما نزل من القرآن، سورة المائدة، أعاد اللّه سبحانه، التّحريم نفسه لآخر مرّة (الخامسة)، مع تفصيل في أنواع الميتة (لغلق باب الاختلاف):﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ  ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(المائدة: 3-4)
فالمأكل (مع الملبس والمسكن) من الحاجات الأساسيّة التي يؤدّي عدم إشباعها إلى هلاك الإنسان، بعكس الغرائز التي لا يؤدّي عدم إشباعها الى الهلاك بل يُحدث اضطرابا وقلقا في حياة الإنسان. وهذا الاضطراب والقلق تزيد حدّته كلّما وقعت إثارة هذهه الغرائز(من الخارج كالشّهوة الجنسيّة، عكس الحاجات والتي تثار من الدّاخل كالإحساس بالجوع والتّعب)عن طريق الإعلام وخاصّة الأفلام السّنيمائيّة التي تدعو في نفس الوقت إلى إشباعها بالطّريقة الخاطئة بجعل أبطال الأفلام يلجؤون للقتل والزنا والتحيّل إلخ... مع إظهارهم بمظهر إيجابي حتّى يحدث التّأثير المطلوب.
وإشباع هذه الحاجات يكون ضروريّا في الحدّ الأدنى الذي يخشى فيه من الهلاك والذي يقرّره كلّ إنسان على حدة بدون الحاجة إلى فتاوى. فالتّحريم أتى لحماية الإنسان لا هلاكه، فالدّم هو النّاقل الأساسي للأمراض، فلذلك وجب إفراغ البهيمة من الدّم عند موتها (ناهيك عن شربه) وهذا لا يتمّ إلاّ عن طريق الذّبح. أمّا بالنّسبة للحم الخنزير فباتت معلومة أضراره التي لا تحصى ولا تعد، أمّا التّقرب لغير اللّه بالذّبيحة فلا يحتاج تحريمها إلى تبيان، وهل يسمح المِؤمن لنفسه أن يأكل منها.... 
فعلى هذا الأساس تُبيح الضّرورات من حاجات المأكل والملبس والمسكن المحرّمات، ولا تتعدّى لغيرها من المحرّمات المتعلّقة بالغرائز كما صار شائعا عند المسلمين، نتيجة تعميم قاعدة «الضّرورات تبيح المحظورات» على غير الحاجات العضويّة، فصار يباح أخذ الرّشاوى والكذب وحتّى الكبائر كشهادة الزّور الخ.... بدعوى الضّرورة، في مخالفة لما ورد في الآيات القرآنيّة التي ذكر فيها الاضطرار في الخمس مناسبات التي سبق ذكرها، وكلّها(2) متعلّقة باستثناء التّحريم حصرا بالحاجات العضويّة.
2. صيد البرّ للمحرم
مع تحريم أكل الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به إلاّ في حال الاضطرار، حرّم اللّه جلّ جلاله صيد البّر للمُحرِم وذلك في أوّل ما نزل من سورة المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا  وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(المائدة: 2)
ثمّ أعاد اللّه سبحانه التّأكيد على هذا التّحريم في آخر السّورة، متوعّدا من يعود إلى مثل هذا العمل بالإنتقام منه وبالعذاب الأليم مستثنيا من ذلك صيد البحر: 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ  وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ* أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾(المائدة: 94-96)
وإن لم يكن هناك حاجة إلى الصّيد في وقتنا الحاضر بالنّسبة لحجّاج بيت اللّه الحرام، إلّا أنّه وعلى مدى قرون عديدة، كان هذا التّحريم أساسيّا للمحافظة على الثّروة الحيوانيّة البرّية وبالتّالي التّنوع البيئي، الأمر الذي غاب إدراكه عن «الفقه التقليدي»(3). 
3. أكل الرّبا:
تحريم (أكل) الرّبا هو من أسس الدّين، الأمر الذي كان اللّه سبحانه وتعالى ينهى عنه ويبعث الرّسل للتّذكير به ويتوعّد من يقوم بأكل الرّبا بالخلود في جهنم، كما ورد في سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾(البقرة: 275-276)
بعد آيات الوعيد هذه للمرابين (آكلي الرّبا) بالخلود في جهنم، يخاطب اللّه جلّ جلاله أولئك الذين حمّلوا التّحريم على القروض الجديدة فحسب، وواصلوا أخذ الرّبا على الدّين (القرض) القديم، وعلى هذا الأساس خاطبهم بـ «المؤمنين» وأمرهم بتقواه وعدم أخذ ما تبقّي من الرّبا حتّى على الدّين القديم وهدّدهم في الوقت نفسه بحرب منه ومن رسوله ﷺ إن لم يمتثلوا لهذا الأمر، مع إمكانيّة الحفاظ على رأس مالهم إن تابوا :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كنْتُمْ مُؤْمِنِينَ*فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ*وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾(البقرة: 278-281) 
وبعد سنة تقريبا، وفي وسط سورة آل عمران يكرّر سبحانه أمره المؤمنين، ولآخر مرّة، بعدم أكل الرّبا مع ترغيبهم في الإنفاق والإقلاع عن المعاصي:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ*وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ*وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ*قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ*هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَـةٌ لِلْمُتَّقِينَ* وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(آل عمران: 130-139) وكانت بذلك آخر آية تتطرّق إلى تحريم الرّبا(4)، وفي ذلك إشارة إلى انتصار رسول اللّه (مع أنصاره) في حربه على الرّبا، على الأقل في العلن، لينتقل الصّراع  إلى مرحلة الخفاء، فصار الصّراع بناء على ذلك مع  النّفاق والمنافقين الذين التزموا بتجنّب الكبائر في الظّاهر (الحياة العامّة) بينما واصلو إتيانها والدعوة إليها في الباطن (الحياة الخاصّة) وخاصّة الرّبا والزّنا(5). 
ولئن كان تحريم الرّبا، أي «بيع» المال، أتى عامّا إلّا أنّ اللّه توعّد آكل الرّبا(البنوك الخاصّة في وقتنا الحاضر)(6) بالخلود في جهنم وذلك لأنّ الدّين القيّم ينحاز دوما للطّرف الضّعيف، فآكل الرّبا هو الطّرف القويّ في المعاملة الرّبويّة والذي يفرض شروطه على الطّرف الضّعيف المحتاج للمال خاصّة لتلبية الحاجيّات الأساسيّة للحياة، من أكل وملبس ومسكن(7). هذا بالنّسبة للقروض «الاستهلاكيّة» أمّا بالنّسبة للقروض «الاستثماريّة» فيجب على المستثمر أن يشترط شراكة المموّل في تحمّل الربح والخسارة في آن، فيخرج من دائرة الرّبا، وهذه المعاملة هي التي كانت منتشرة في بداية القرن18 والتي أدّت إلى نهضة الغرب، وهي لا تزال موجودة إلى يومنا هذا ولو بنسبة قليلة خاصّة في مشاريع التّقنيات الحديثة.
والرّبا هو اشتراط أخذ نسبة على الدّين (القرض) مهما كان غرض استعمال هذا الدّين أي «بيع» هذا الدّين، ومهما تطوّرت الأدوات والأليّات فيبقى الأمر على حاله. فأخذ نسبة على الدّين أي ربح على المال نفسه لا على جهد أو بضاعة أو قيمة مضافة يغني صاحب المال بدون أي جهد ويفقر (ينقص ملكيّة) المدان فقط لاحتياجه لهذا المال. ونتيجة هذا الأمر يتكدّس المال لدى فئة صغيرة من النّاس (المرابين والمنتفعين منهم) تصغر مع مرور الزّمن، بينما يغرق باقي النّاس في الفقر، فتتعطّل عجلة الاقتصاد الأمر الذي يزداد خطره خاصّة في زمن الأزمات أو الحروب. 
والوعيد بالخلود في جهنّم، وضع هذه الكبيرة في نفس مستوى الكبائر الثّلاث الشّرك والقتل والزّنا: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾(الفرقان: 68-69). فكما يدمّر تفشّي الزّنا العائلة، يقضي تفشّي القتل على الأمن والأمان اللاّزمين لازدهار المجتمعات وتطورها، بينما يفضي تفشّي أكل الرّبا إلى حصر المال في فئة قليلة من النّاس، فينكمش الاقتصاد وينتشر بالتّالي الفقر بين عامّة النّاس فتكون بذلك بداية خراب العمران. 
ولأن كان حصول هذا الخراب يستغرق الوقت الطّويل على مستوى المجموعة إلّا أنّه وفي كلّ يوم يدمّر حياة العديد من الأشخاص (وذويهم) الذين لم يعودوا قادرين على سداد ربا الدّين نفسه (الفائدة بلغة اليوم). في نفس الوقت تعمل الفئة المسيطرة على تبييض الشّرك باللّه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ثمّ فرضه عندما تفقد باقي الأدوات الأيديولوجيّة تأثيرها المطلوب (كالعلمانيّة/اللّيبرالية، ألخ...) فتصير هذه الكبائر نسبيّة إن لم تكن مباحة، فالأرباب كثيرة وبالتّالي تتعدّد «الحقائق».  
والدّعوة موجّهة للمختصّين لتعميق البحث في هذه الآفات الأربع، حتى يقع تبيان مفاسدها، وهذا هو التفقّه في الدّين(الاجتهاد)المطلوب. لكن للأسف لا نجد من المفكّرين المسلمين المختصّين من يبحث في هذه القضايا، بل جلّ الباحثين المندّدين بإباحة الفواحش(8)/الرّبا(9) هم من الغرب. بل صار الأمر عند المسلمين أشنع من ذلك بظهور مشايخ تبيح أخذ الفائدة بدعوى أنّها ليست ربا، ولن ندخل في مثل هذا النّقاش العقيم، فالنّظام الاقتصادي في البلدان الإسلاميّة مرتبط كلّيا بالنّظام الرّأسمالي العالمي القائم على الرّبا والذي قام أصحاب النفوذ الحقيقي في هذه البلدان بفرضه على شعوبها بدعوى أن لا خيار لهم وأنه هو السبيل الوحيد للرخاء الاقتصادي إلخ. 
4. زواج المحارم
مباشرة بعد قوله تعالى:﴿وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(النساء: 22) الذي دعا فيه إلى ترك عادة الزّواج من أرملة الأب (عادة كانت منتشرة عند العرب)واعتبرتها فاحشة من الفواحش الأربع المنصوص عليها في القرآن الكريم(10)، جاءت الآية التي تنص على تحريم الزّواج من ثلاثة عشر صنفا من النّساء وهي: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(النساء: 23)
نواصل بعون الله في الجزء المقبل التّطرق إلى الكبائر الفرعيّة التي نهى عنها سبحانه في السّور المدنيّة بصيغة عدم القرب.
 الهوامش
(1) نلاحظ أن بعض الأمم كانت صاحبة تقدم ورقي وآثارها الحاليّة وإن كانت دليل على ذلك، لكنها، تدلّ في نفس الوقت على تخلّف وانحطاط شعوبها في فترة من الفترات وبالتّالي لم تكن قادرة على مواصلة العمران وتجديد هذه الآثار (التي هي في واقع الحال مبانٍ في حال خراب)
(2) ورد الاضطرار أيضا في مناسبتين ولكن لم يكن متعلّقا بأحكام بل في سياق إضطرار اللّه الكافرين إلى عذاب غليظ(لقمان:24) وعذاب النار(البقرة:126)
(3) أنظر آراء الباحث ياسر العديرقاوي، برنامج «نحو تدبر جديد 2-/ صيد البرّ»
(4) ذكر الرّبا مرّة أخرى فقط ولكن في سياق الإخبار عن اليهود في سورة النّساء(3هـ)
(5)بالمقابل تواصلت محاربة الزنا/القذف (إشاعة الفاحشة) حتى السنة 7هـ (سورة النور) وذلك أن الزنا جريمة تتعلق بعامة الناس بينما آكل الربا محصور بفئة صغيرة من الناس
(6)يختلف الوضع بالنّسبة للبنوك العموميّة، التي تديرها الدولة، فـ «الرّبح» في هاته الحالة لا يتكدّس عند مجموعة صغيرة من الناس «المرابين» لكن هذا لا يعني الدّعوة لإباحة الأمر(الدعوة إلى بحوث مستفيضة في الموضوع من طرف الإخصائيين «النّزهاء»)، الأمر الذي تعرقله الفئة المسيطرة بدعوى عدم كفاءة كلّ ما هو عمومي وبالتّالي خصخصة كلّ نشاط اقتصادي (في واقع الأمر هي التي تقوم بتدمير القطاع العمومي بشتّى الأساليب خاصّة عن طريق منظومة الرّشاوي والقطاع الموازي). 
(7) كلما ابتعد دافع الرّبا من دائرة الاحتياج (الحاجات) إلى دائرة الرّفاهة (الغرائز)،كلما اقترب من مرتبة آكل الرّبا 
(8) »Kinsey: La face obscure de la revolution sexuelle»  Judith Reisman:
(9)»استعباد العالم--نهب على الطريقة اليهودية» فالنتين كاتاسونوف/ترجمة د. إبراهيم استنبولي
(10) مع الزّنا والشّذوذ الجنسي بين الرّجال والشّذوذ الجنسي بين النّساء، انظر: «الفاحشة في القرآن الكريم» الإصلاح عدد191» و«الكبائر  في القرآن الكريم- الحلقة 1» الإصلاح عدد206