نوافذ

بقلم
د.علي رابحي
الفتوى والمفتي: تأصيل وتحصيل
 لمحاصرة فوضى الإفتاء، وتحقيق صلاح الفتوى، وتفعيل الدّور الحضاري للفقيه المجتهد، وضع علماء الإسلام معايير تضبط التّوقيع عن اللّه عزّ وجل، وقواعد حاكمة لمؤسّسة الفتوى. والمفتي موقع عن اللّه تعالى(1) الذي يقول في كتابه العزيز الحكيم: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (النساء: 59)؛ والمفتي وارث الأنبياء، فهو «قَائِمٌ فِي الْأُمَّةِ مَقَامَ النَّبِيِّ ﷺَ»(2).
الفتوى تطلق ويراد بها بيان الحكم الشّرعي في المسألة عن دليل لمن سأل عنه، يقول اللّه سبحانه وتعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ..﴾ (النساء: 176)، و﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..﴾ (الأنعام: 151) و﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ..﴾ (الأعراف: 33).
الاجتهاد لغة هو بذل تمام الجهد، واستفراغ الوسع في تحقيق أمر لا يكون إلاّ بكلفة ومشقّة. وعرّفه علماء الأصول اصطلاحاً بأنّه بذل الفقيه جهده العقلي في استنباط الأحكام الشّرعيّة من مصادرها(3). فلا يكون المجتهد مجتهدا حتّى يستفرغ تمام جهده الفكري لاستخراج حكم شرعي يلزم المكلّفين، والمراد بالمجتهدين كلّ من بلغ درجة الاجتهاد، وهي الملكة التي يستطيع بها الشّخص استنباط الأحكام من أدلّتها، فيخرج بها القيد المقلّد والعوام.
ذهب علماء المسلمين إلى حجّية الاجتهاد، وأنّه جائز عقلاً وشرعاً، بل هو واجب عندما تدعو الحاجة إليه. واستدلّ الفقهاء على وجوب الاجتهاد من القرآن بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (النساء: 59). فالمراد بطاعة اللّه ورسوله العمل بما ورد في القرآن والسّنّة، أمّا الردّ إلى اللّه ورسوله عند التّنازع فالمراد به التّحذير من اتباع الهوى، ووجوب الرّجوع إلى ما شرع اللّه ورسوله، بتطبيق القواعد العامّة، وإلحاق الشّبيه بالشّبيه، والعمل بما يحقّق المصالح التي اعتبرها الشّارع، وهذا من الاجتهاد بالرّأي في دائرة تَفَهُّمِ النّصوص وتطبيقها. واستدلّوا أيضا بقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾(الحشر: 2)، والاعتبار هو اجتهاد من هو أهل له، فالآية تفيد وجوب اجتهاد أهل الاجتهاد لا غيرهم.
واستدلّوا من السنّة بما روي عن الرّسول أنّه قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر»(4)، وكذا بما رواه معاذ بن جبل h : أنّ رسول اللّه ﷺَ قال له عندما أراد أن يبعثه إلى اليمن: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء»، قال: «أقضي بما في كتاب اللّه». قال: «فإن لم يكن في كتاب اللّه» قال: «فبسنّة رسول اللّه ﷺَ». قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله»، قال: «اجتهد رأيي ولا آلو». قال معاذ: «فضرب رسول اللّه ﷺَ صدري»، قال: «الحمد للّه الذي وفّق رسولَ رسولِ اللّه لما يُرضي اللّه ورسوله»(5). 
فينبغي على كلّ مجتهد إذا عُرضت له واقعة أن ينظر أوّلاً في كتاب اللّه فإن لم يجد نظر في سنّة رسول اللّه ﷺَ، فإن لم يجد في النّصوص أخذ الحكم من ظواهر النّصوص. وذلك من الألفاظ أي ضمن دائرة تفهمّ النّصّ ومفاده (الاجتهاد البياني) الذي يجري ضمن دائرة النّصّ وتفهّم معانيه، فإن لم يجد نظر في الإجماعات، فإن لم يجد أخذ الحكم عن طريق القياس أو الاستحسان وغير ذلك من الأدلّة، وهو ما يُسمّى بالاجتهاد بالرّأي، فإن لم يجد أخذ الحكم من القواعد الكلّية مراعاة لمصلحة أو درءاً لمفسدة. والصّحابة الفقهاء وإن لم يعرفوا هذه المصطلحات، لأنّها لم تنشأ إلاّ في العصر العباسي، فإنّ تطبيقاتها واردة في أثناء اجتهاداتهم.
شروط الاجتهاد التِي قرّرها الأصوليّون(6)فيها بعض الاختلاف من حيث الزّيادة والنّقصان، وتنقسم إلى شروط تكليفيّة وشروط تأهيليّة؛ فشروط التّكليف ثلاثة، هي: الإسلام والبلوغ والعقل؛ فأمّا شروط التّأهيل فهي نوعين: خمسة شروط أساسيّة، هي: معرفة الكتاب، ومعرفة السّنة، ومعرفة اللّغة ومعرفة أصول الفقه، ومعرفة مواضع الإجماع؛ وثلاثة عشر شرطا تكميليّا، هي: معرفة البراءة الأصلِيّة، ومعرفة مقاصد الشّريعة، ومعرفة القواعد الكلّية، ومعرفة مواضع الخلاف، والعلم بالعرف الجاري في البلد، ومعرفة المنطق، وعدالة المجتهد وصلاحه، وحسن الطّريقة وسلامة المسلك، والورع والعفّة، ورصانة الفكر وجودة الملاحظة، والافتقار إلى اللّه تعالى والتّوجّه إليه بالدّعاء، وثقته بنفسه وشهادة النّاس له بالأهليّة، وموافقة عمله مقتضى قوله.
لذلك يشترط في المجتهد أن يكون، عالما بلسان العرب بلاغة وأسلوبا؛ وعالما بعلوم القرآن من أسباب النّزول والنّاسخ والمنسوخ والأحكام وغيرها، ولا يشترط فيه الحفظ؛ وعالما بالسّنة، مدلولاتها وأسباب ورودها والأحكام في الكتب السّتة؛ وعالما بمواقع إجماع السّلف في العلوم السّابقة؛ ويشترط الغزالي كذلك أن يكون المجتهد عالما بأصول الفقه. 
هل كان الرّسول ﷺ يجتهد؟ 
الأشاعرة وبعض المعتزلة قالوا بأنّ الرّسول ﷺ لم يكن يجتهد، ودليلهم أنّه كان ينتظر في كثير من الوقائع نزول الوحي. أمّا الجمهور فيقول بجواز الاجتهاد لرسول اللّه ﷺ، ويقيّد الغزالي ذلك في الفروع، ودليلهم أنّ الّله قال ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ (الحشر: 2) ورسول اللّه ﷺ داخل في هذا العموم إضافة إلى أنّ غير رسول اللّه متّفق له بجواز الاجتهاد وهو غير معصوم، فمن باب أولى أن يجتهد رسول اللّه ﷺ . وجاؤوا بتلك الوقائع التي اجتهد فيها رسول اللّه ومنها ما أخطأ فيه وجاء القرآن يصحّح فيها كأسرى بدر: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ (الأنفال: 67)، وقضية الأعمى ﴿عبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ (عبس: 3-1).
أمّا الصّحابة فكانوا يجتهدون سواء في حضرة رسول اللّه ﷺ أو في غيابه، وها هو رسول اللّه يسأل معاذ ويقره حينما بعثه إلى اليمن(7). ومن أمثلة الاجتهاد هنا عندما حضرت الصّلاة صحابيّين فلم يجدا الماء وتيمّما وصلّيا، وبعد ما وجدا الماء أعاد أحدهما ولم يُعِد الآخر، وذكرا أمرهما لرسول اللّه ﷺ فقال للأوّل أجزأتك صلاتك، وقال للثّاني فاتك الأجر مرّتين. وكذلك مسألة الصّحابي الذي أصبح جنبا وتمرّغ في التّراب، فقال له يكفيك أن تضرب على الأرض وتمسح بوجهك وكفك.
الهوامش
(1) أسهب ابن القيم في بيان أن المفتي في الأمة قائم مقام النبي ﷺَ، وذلك في «إعلام الموقعين»، ونقل القاسمي في «الفتوى في الإسلام» ص49-54 كلام المصنف هذا، وانظر: «المعتمد»1/338، و«أفعال الرّسول ﷺَ» 1/94، و«الفتيا ومناهج الإفتاء»ص119، وكلاهما للشّيخ محمد الأشقر.
(2) كتاب الموافقات، الطرف الثاني فيما يتعلق بالمجتهد من الأحكام فيما يتعلق بفتواه، المكتبة الشاملة الحديثة، ص253.
(3) إرشاد الفحول للشوكاني ص 250.
(4) متفق عليه.
(5) أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد في مسنده، والدرامي والبيهقي.
(6) كتاب إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، شروط الاجتهاد، المكتبة الشاملة الحديثة، من ص8 إلى ص10
(7)  حديث معاذ بن جبل : أنّ رسول اللّه ﷺَ قال له عندما أراد أن يبعثه إلى اليمن: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء»، قال: «أقضي بما في كتاب اللّه». قال: «فإن لم يكن في كتاب اللّه» قال: «فبسنّة رسول اللّه ﷺَ». قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله»، قال: «اجتهد رأيي ولا آلو». قال معاذ: «فضرب رسول اللّه ﷺَ صدري»، قال: «الحمد للّه الذي وفّق رسولَ رسولِ اللّه لما يُرضي اللّه ورسوله»