فقه الميزان
بقلم |
![]() |
الهادي بريك |
الحلقة الأولى : مقدّمات أوّلية. |
سؤالان كفيلان بتأطير الموضوع ولا مناص منهما. أوّلهما : ما معنى فقه الميزان؟. وثانيهما : لماذا يُعالج هذا الموضوع؟
الميزان لغة :
إسم آلة أصله (الميْزان) بسكون الياء التي أستعيض عن سكونها بجعلها حرف مدّ تيسيرا للنّطق. أصلها الإشتقاقيّ (موْزان). ولكن استعيض عن الواو هنا بياء لثقلها. الإشتقاق من فعل (وزن يزن وزنا). هو وازن (إسم فاعل) وهو موزون (إسم مفعول). هو فعل معتلّ الفاء فهو (مثال). الوزن لغة هو التّقدير لأجل تسعير الأشياء والأمور بدون إخسار ولا طغيان. الأصل أنّ الوزن (مثل الكيل) للأشياء. ولكن يطلق على الأمور كذلك مجازا.
الميزان في الشّريعة :
ورد بمعناه الآليّ الماديّ ﴿..وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ..﴾(الأنعام: 152). كما ورد بمعناه المجازيّ المعنويّ ﴿..وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾(الرحمن: 7). كما ورد في مشاهد الدّنيا ومشاهد الآخرة كذلك ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ..﴾(الأنبياء: 47). وبذلك تتكافل المعاني المادّية مع المعاني الرّوحيّة لقيمة الميزان لأجل إحكام تقدير الأشياء والأمور معا، فلا يُبخس أحد في بضاعته ولا في قدره ومكانته. الميزان الآليّ الماديّ يؤمّن للمرء العدالة كما يؤمّن الميزان المعنويّ له كرامته. الميزان آلة مادّية ومعنويّة معا. ولكنّ المكيال (إسم آلة من كال يكيل كيلا) آلة مادّية فحسب ولا توزن به القيم المعنويّة. الميزان آلة أدقّ من المكيال. ولذلك يستنجد به (وليس بالمكيال) لتقدير القيم التي يكون الإضرار بها أشدّ أثرا من الإضرار بما يُكال من البضاعة والسّلع وغيرها.
الميزان صنو القرآن :
ذُكر الميزان المعنويّ القيميّ (وليس الآليّ الماديّ) في القرآن الكريم في مواضع ثلاثة. إذ جاء في سورة الرحمان ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾(الرحمان: 7-9)، وجاء في سورة الشّورى ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ..﴾(الشورى: 17) وجاء في سورة الحديد ﴿ .. وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ..﴾(الحديد: 25) وهم الأنبياء. ميزان سورة الرحمان يحتمل المعنيين (الآليّ الماديّ والقيميّ المعنويّ). وليس هذا عجيبا بسبب أنّ الإنسان مكرّم بالبعدين معا (البعد الماديّ الذي يشمل ماله والبعد الروحيّ الذي يشمل كرامته). ولكنّ الموضعين الآخرين (سورة الشورى وهي مكية وسورة الحديد وهي مدنيّة) يؤكّدان كلّ تأكيد أنّ (الميزان) شيء منزّل مع الكتاب (الذي هو القرآن الكريم في آخر رسالة خاتمة) جنبا إلى جنب. كما أنزل الكتاب بالحقّ أنزل الميزان معه جنبا إلى جنب وذلك في الموضعين كليهما معا. هذا أمر محكم قطعيّ راسخ ثابت.
السؤال الأخطر هو : أين الميزان؟
لا مناص هنا من إستجماع شروط الفهم والتفسير والتأويل لسانا وسياقا وشريعة حتّى نظفر بالمقصود بالميزان. المشكلة فينا جميعا - إلاّ قليلا - هي أنّنا نقرأ بأعيننا وتتحرّك بالقرآن شفاهنا وقليل من قليل منّا من يتدبّر ليفهم ويفقه، إذ التدبّر هو الوسيلة الوحيدة لفهم صحيح ودقيق. سلْ نفسك: هل سألت يوما ما هو الميزان؟ وأين هو؟.
القرآن الكريم يبيّن بعضه بعضا.
ورد - بديلا عن الميزان وفي مكانه في مواضع قليلة من الكتاب العزيز - أنّ الحكمة هي الميزان. ورد في سورة البقرة ﴿..وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ..﴾(البقرة: 231). كما ورد في سورة النساء ﴿..وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..﴾(النساء:113). بل إنّ (الحكمة) ليست خاصّة بالرّسالة الخاتمة. إذ أنزلت على الأنبياء السّابقين ﴿ ..لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ..﴾(آل عمران: 81). وورد مرّات بعدد أصابع اليد الواحدة تقريبا أنّ محمّدا مكلّف بتبيين الكتاب بوسائط ثلاث (تلاوة الكتاب ويكون هذا خاصّة في الصّلاة الجهريّة + التّزكية وهي على الأرجح نفسيّة قلبيّة وعقليّة فكريّة معا + تعليم الكتاب والحكمة). كما ورد أنّ نساء النبيّ ﷺ يتلون في بيوتهنّ (من آيات اللّه والحكمة). نخلص هنا إبتداء إلى أمرين : أوّلهما أنّ هذه (الواو) التي تعطف (الميزان على الكتاب والحكمة على الكتاب) هي (واو) مغايرة، فليس الكتاب هو الحكمة ولا الميزان، وليس الميزان ولا الحكمة هي الكتاب. ثاني الأمرين أنّه يكاد ينعقد الإستنباط على أنّ (الحكمة) هي (الميزان). إذ هي التي تكون بدلا عنه. وردت (الحكمة) في مواضع أخرى، ولكنّها تعني فروعا منها، وليس معناها الرّئيس الذي هو بديل عن (الميزان). من مثل ذلك أنّ الحكمة هي إنفاق المال في سبيل اللّه وليس المراباة في أموال النّاس ﴿.. وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا..﴾(البقرة: 269) ورد ذلك في يمّ الحديث عن الإنفاق وفي أطول سياق إنفاقيّ في القرآن كلّه. كما وردت الحكمة بمعناها اللّغويّ الأصليّ الأوّليّ الذي يعني وضع الشّيء (أو الأمر) في مكانه المناسب وزمانه المناسب وتحرّي كلّ مناسبة لكلّ فعل وصنيع من قول وعمل. ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ..﴾(النحل: 125)، وهي من (أحكم) إيقاع الشّيء وتنزيله ليكون حكيما. ولذلك سمّى اللّه نفسه حكيما. الحكمة لغة من الحكم بالحقّ والعدل والقسط في كلّ آن وأوان وفي كلّ مشهد ومن كلّ حاكم سواء بعقله (المفتي مثلا) أو بسيفه (القاضي مثلا).
المقصود كفيل ببيان المعنى .
بيّن سبحانه في سورة الحديد أنّ المقصد من إنزال الكتاب والميزان جنبا إلى جنب هو (ليقوم النّاس بالقسط). هذا التّعيين للمراد المقصود يفتح لنا أفقا آخر نتبيّن منه طبيعة (الميزان) وماهيته، إذ هو وسيلة للقسط وليس هو غاية. ومن فقه المقصود من هذه الوسيلة (الميزان) أوشك أن يفقه طبيعتها وماهيتها وحقيقتها. الميزان هو إذن وسيلة إلى القسط وآلة له، كما أنّه وسيلة وآلة للقسط الماديّ فهو كذلك وسيلة وآلة للقسط المعنويّ.
ما قول اللّسان ؟
مازلنا في طور إستجماع ما أمكن من الوسائل لأجل تحرير معنى سديد ودقيق للميزان. المبزان لسانا هو آلة تحقيق العدل والقسط ونبذ كلّ جور وقهر. إذ هو يزن الأشياء ويقدّر الأمور ويعالج المشاهد حتّى يأخذ كلّ ذي حقّ حقّه. هو نظير المكيال في المكيلات. الميزان هو تحقيق العدل والعدالة والقسط والحقّ. الموزون من الأشياء والأمور هو المعتدل غير مائل ولا مضطرب. أخبر سبحانه عن معايش الأرض أنّها (من كلّ شيء موزون). أي معتدل مقسط لا إخسار فيه ولا طغيان.
لقاء عجيب بين الميزان والحكمة .
وبذلك يأوي كلّ من الميزان والحكمة - لسانا - إلى خيمة واحدة. هي خيمة الحقّ والوسطيّة والإعتدال والعدل والعدالة والتّوازن والقسط ووضع كلّ شيء في مكانه وزمانه وحجمه ليكون إيجابيّا نافعا وجالبا لمصلحة.
خلاصة شديدة الخطورة :
القرآن الكريم وحده لا يقيم قسطا. الميزان وحده مثل ذلك لا يقيم قسطا. ولو كان أحدهما كفيلا بإقامة قسط لما إحتاج إلى صنوه. هذه خلاصة شديدة الخطورة ويوشك من يحرّرها أن يقذف بالحجارة. اللّه نفسه هو من رسّخ تلك الخلاصة، ولكنّا نقرأ بعيوننا وليس بأفئدتنا.
ولكن ما هو الميزان وأين هو؟
يجب أن نتواضع هنا بداية على أنّ الميزان المنزّل جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم إبتغاء تحقيق أسمى مقاصد الدين (إقامة القسط والحكم بين الناس بالحقّ) هو ميزان معنويّ وليس ماديّا بالأساس الأوّل. إذ لا يتحقّق القسط الماديّ في الموازين والمكاييل حتّى يستقر ذلك في العقول قيما. إقتربنا كثيرا من تحرير سديد لمعنى دقيق للميزان. مازال تأويل واحد نعالجه إن شاء اللّه.
السنّة هي الميزان وهي الحكمة.
هذا التّأويل صحيح ولكن بشروط صارمة هي :
أ- التّواضع على أنّ السنّة هي حياته ﷺ مذ خرج من بطن أمّه حتّى لقي ربّه. فليست هي ما نسب إليه من قول وفعل وتقرير فحسب وخاصّة من البعثة. وليس قبلها. السنّة حتّى تعتمد ميزانا منزلا مع الكتاب العزيز هي حياته كلّها، وهي سيرته في كلّ جوانبها. وهي منهاج معالجته للتّديّن والدّنيا معا وفي كلّ شأن إلاّ ما يعرفه طلبة العلم من إختلافات في مقامات التّشريع والمشرّع. السّنّة هي خلاصة المرحلة النّبويّة وحصيلة معالجاته : رأسها الدّعوة إلى اللّه ثمّ بناء أمّة بأمّة الإجابة ثمّ بناء دولة بتلك الأمّة ذاتها وبما تقتضيه كلّ دولة ثمّ معالجة ذلك بقيم الإسلام وما تقتضيه من مؤسّسات ثمّ البدء في تحرير النّاس شرقا وغربا من نير الإستعباد والقهر قدر الإمكان بالكلمة إبتداء فإن صُدّت فبالجهاد الذي يحطّم العوائق التي تحجز النّاس عن إستعادة إرادتهم الحرّة، وليس إكراههم البتّة. أمّا إبتسار السّنّة فيما دون ذلك فهو وعي مزيّف.
ب- فقه السنّة أنّها تبيين للقرآن الكريم، فهو الحاكم وهي المحكومة. وهي التّابعة وهو المتبوع. وكذا فقهها بالأدوات العلميّة ذاتها التي يفقه بها القرآن الكريم نفسه (أولوية اللّسان العربيّ وأولويّة السّياق وأولويّة المقصد على الوسيلة وأولويّة الخصوصيّة عندما توجد على العموم وأولويّة المقام عند وجوده على حمل السّنّة كلّها بلاغا دينيّا).
ج- فقه السّنّة أنّها التّرجمة العمليّة للكتاب العزيز بما في ذلك ما يعرفه طلبة العلم من تقييد مطلق أو تخصيص عامّ أو تبيين مجمل وتفصيله أو تأويله. ذلك يعني أنّه لا يفهم القرآن إلاّ بالسّنة التي تبيّنه. وكلّ ما تعارض مع البيان القوليّ والعمليّ والتقريريّ لها هو مردود مردود.
د- السّنّة هي التي تنزّل الإسلام خير تنزيل وفي كلّ حقول الحياة. وكلّ ما يتّخذه النّاس قربا من ذلك أو بعدا عنه هو يلزمهم هم، ولكنّ السّنّة غير ذلك. وأنّ ما سكتت عنه السّنّة موضوع للإجتهاد كما فعل الصّحابة. وأقرّ هو نفسه ﷺ معاذا - واليه وقاضيه إلى اليمن - إذ قال أنّ ما لا حكم له لا في الكتاب ولا في السّنة يجتهد فيه. أصاب أم أخطأ. ولكنّ الإجتهاد من أهله وفي محالّه - سيما الجماعيّ منه - لا يضلّ.
ه- مرجع آخر يستعان به كثيرا بعد السّنّة. وهو المنهاج العامّ الذي سارت عليه الخلافة الرّاشدة الأولى - وخاصّة في حقبتها الأولى - معالجات سياسيّة وماليّة وعسكريّة وغير ذلك. مهما اعتصم معتصم بردّ هذه المرجعيّة فهي كفيلة بتبيين السّنّة نفسها. إذ هم شهدوا السّنّة فقها عمليّا، وليس كما هو حالنا نحن، أي فقها نظريا فحسب.
خلاصة أخرى :
يمكن أن نفسّر الميزان (الحكمة) بالسّنّة. ولكن وفق ما ورد وليس انتقاء طائفيّا أو انتخابّا مذهبيّا أو اختيارا فكريّا. السّنة هي حكمة تنزيل القرآن الكريم في واقع مختلف، ككلّ واقع فيه ما يناسب وما لا يناسب. ونعالج بإذن اللّه في الحلقات الموالية في هذه السّلسلة الجديدة على صفحات « الإصلاح» أمثلة تبيّن أنّ السّنّة هي الحكمة المتوازنة التي تنزل قيم الإسلام تفاعلا مع الواقع وما يتيحه ويتحمّله من جهة والعقل وما يكون منه بمثل ذلك كذلك. الحكمة والميزان هما : إحسان معالجة قيم الإسلام بالعقل الحصيف الرّشيد الذي أدّبه الوحي وعلّمه وفي واقع متحرّك متغيّر. ذلك هو ما فعله ﷺ.
ولكنّ الحكمة عموما هي كلّ رشد.
أيّما القيمتين إخترت فأنت على صواب. إن قلت أنّ الميزان (الحكمة) هو معالجة قيم الإسلام (قرآنا وسنّة معا) بعقل راشد واع معاصر لأجل معالجة واقع معقّد متغيّر بما يحقّق الهدف الأسنى (إقامة القسط) فهو قول صحيح. وإن قلت أنّ الميزان هي حكمته ﷺ في تنزيل الإسلام (قرآنا وسنّة) على الواقع بما يحقّق القسط فهو كذلك قول صحيح. ذلك أنّه ﷺ هو منبع الحكمة بكلّ وسطيتها وإعتدالها وتوازنها. ذلك يعني أنّ الميزان (الحكمة) هو حسن الإجتهاد لأجل تحقيق القسط. سواء عند وجود نصّ من الوحي (قرآنا أو سنّة) ولكنّه ظنيّ أو قطعيّ ولكنّ دلالته ظنّية أو عند عدم وجود نصّ أصلا إنّما كلّيات عامّة أو مقاصد عامّة. أي حسن معالجة الواقع فيما هو مسكوت عنه، وهو كثير، بل هو الأكثر. كذلك عالج الصّحابة الواقع بعد موته ﷺ. وكلّ تجربة من بعدهم ليست للإتباع ولا للتّقليد. إذ هي تاريخ نفيد من خيره ونتجنب سوءه ولكن بحفظ مقامات النّاس والتّواضع أنّ كلّ إجتهاد - ومهما كان في محالّه ومن أهله - فهو خاصّ بزمانه ومكانه وحاله.
خلاصة أخيرة .
أين الميران؟ ذلك هو السّؤال الأخطر الذي صمت عنه النّاس طويلا وآن لنا طرحه ومعالجته. الميزان هو كتاب منظور منزّل جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم. وهو لمن يفقهه ويعمل به حكمة بالغة. القرآن الكريم دليل نظريّ لا يقوم بالقسط عمليّا عدا بالميزان. الميزان دليل عمليّ ينضح به عقل من مشكاة عقل حبر الأمّة الذي نال شرف الميزان بلسان سؤول وفؤاد عقول. فلا يقوم قسط بين النّاس وبهم عدا بتعانق وتكافل بين الكتاب والميزان. السّنّة هي الميزان على معنى أنّه هو الأحكم ﷺ في فقه ما نزل عليه وتنزيل ما نزل عليه. وما لا نجده هناك نرده إلى ذينك الأصلين العظيمين (القرآن والسّنّة)، ويستنبط أهل الإجتهاد منهما أصولا تحسم كلّ نزاع. أمّا الخلاف فيما دون ذلك فهو ملح حياة لا تستساغ بدونه. الميزان هو الحكمة وهو الرّشد وهو النّضج وهو السّنّة لمن يفقهها كلّ فقه في بوصلتها العامّة (دعوة ثمّ دولة ثمّ قوّة ثمّ تحرير ثمّ عمران وقسط). الميزان هو الفقه بالكتاب وبالسّنّة وبالواقع وبالتّاريخ وبالأولويّات وبالإنسان والنّاس. الميزان هو معالجة التّديّن (وخاصّة الجماعيّ والعامّ) بعقل وواقعيّة ومعاصرة وبتدرج. الميزان هو كما قال الغزالي (سياسة الدّنيا بالدّين). الميزان هو (تأسيس قيم الدّين لأجل الوجود والتّجدّد والقوّة وتأسيس سلطان يحرس ذلك البناء أن يضيع تحت أقدام عبيد سلف يجعلون التّاريخ أسوة أو عبيد خلف يجعلون العقل الفاجر قدوة). إذا قام فينا القسط فإنّ الميزان قائم والكتاب كذلك دون ريب. وإذا قام فينا الجور والقهر فإنّه لا ميزان فينا ولا كتاب.
بقي سؤال واحد وهو لماذا نعالج هذا الموضوع؟ الأمر بسيط وهو أنّه لا قسط بدون ميزان من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ حياتنا يخترمها القهر والجور في كلّ البيئات تقريبا (الأسرة والمدرسة والفضاء العام والدولة والأرض) بسبب غياب الميزان. وحتّى لو ادّعينا وجود كتاب فلا معنى لذاك إمّا بسبب أنّ الكتاب وحده لا يقيم قسطا أو بسبب أنّها دعوى كاذبة. بلاغ لمن هو له أهل : إذا كنّا اليوم نتلظّى في محارق التّبعيّة والإحتلال والعبوديّة والرقّ والتّمزّق والتّشتّت والطّائفيّة والأمّية والإحتراب والإستلاب والقهر والجور وفينا الكتاب وفينا له حفظة ومنه أئمّة، فإنّ ذلك الكتاب نفسه يدمغنا بقوّة ويصدمنا بعنف لا مناص منه قوامه أنّ القسط الكفيل بتحريرنا من أدوائنا وأمراضنا وآصارنا وأغلالنا مشروط بالجمع - كلّ جمع - بين ذلك الكتاب الذي هو بين أيدينا ولنا منه حفظة وبين الميزان. فإن وعينا هذا وعملنا به نجحنا في التّحرّر وتأهّلنا لتحرير البشريّة التي تنتظر تحرّرنا لنحرّرها. وإن أصررنا كما أصررنا من قبل أنّ الكتاب وحده كفيل بتحريرنا وتحرير أرضنا وعرضنا فطوبى لنا بعقود أخرى طويلة من الدّجى والقهر والجور.
|