أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
نبذة عن القوى الأربعة الأساسية في الطبيعة، لكن هل من مزيد؟
 مسابقة بين كوكب الأرض ومغناطيس صغير
حين سقطت تفّاحة نيوتن، كانت الجاذبيّة هي المسؤولة عن جذب التّفاحة نحو الأسفل، لكن ونظرا لأنّ القوّة الكهرومغناطيسيّة هي المسؤولة عن صلابة طبقة الأرض وتماسكها فهي التي منعت التّفاحة من أن تواصل استمرار سقوطها نحو مركز الأرض. إنّ القوّة الكهرومغناطيسيّة أكبر من قوّة الجاذبيّة بمقدار 10 أس 36(1). يا لضخامة هذه القوّة إذا ما قورنت بقوّة الجاذبيّة. فالجاذبيّة من ضعفها لا تتغلّب على ثمار التّفّاح المدلاة من أغصان الشّجرة، إنّها لا تتغلّب إلاّ على تلك التي ضعفت قوّة الشّدّ التي تمسكها بالغصن. إنّها ضعيفة جدّا لكن مدى تأثيرها يمتدّ حتّى حدود الكون،  على خلاف الكهرومغناطيسيّة التي تمتد إلى حيّز بسيط في حدود السّنتيمترات. 
ولكي تفهم مقدار الشّدّة النّسبيّة بين القوّتين، الجاذبيّة والكهرومغناطيسيّة، تدبر الأتي: تحتوي ذرّة الهيدروجين على إلكترون وحيد سالب الشّحنة وبروتون وحيد موجب الشّحنة، وكلاهما ينجذبان نحو بعضهما بفعل قوى الجاذبيّة «النّاتج عن كتلتيهما»، لكن وفي نفس الوقت تظهر خاصّية جديدة وهي الشّحنة، فيتجاذبان أيضا لكن هذه المرّة بفعل جديد نشأ من الكهرومغناطيسيّة. وكمثال آخر يبيّن بوضوح مدى ضآلة الجاذبيّة، فإنّنا إذا أجرينا مسابقة بين كوكب الأرض بعظمته ومغناطيس صغير وقطعة معدنيّة صغيرة بينهما، سنجد أنّ هذا  المغناطيس الصّغير قد تغلب على كوكب الأرض بجذبه للقطعة المعدنية نحوه. إنّ الجاذبيّة التي تؤثّر بها الأرض بكتلتها الضّخمة على القطعة المعدنيّة الصّغيرة لا تساوي شيئا يذكر أمام القوّة الكهرومغناطيسيّة التي يؤثّر بها ذلك المغناطيس الصّغير على نفس القطعة المعدنيّة. ومع ذلك فإنّ ضعف قوّة الجاذبيّة بهذا الشّكل هو ما يجعلنا نتحرّك بسلاسة في هذا المجال ونؤدّي نشاطاتنا اليوميّة دون مجهود يذكر تقريبا، ولو زاد مقدارها قليلا لأجهدتنا كثيرا حتّى في أبسط الحركات مثل الصّعود إلى الطّابق الأعلى للمنزل أو الحركة داخله.
القوّة النّوويّة القويّة
لكن إذا كانت القوّة الكهرومغناطيسيّة هي المهيمنة على عالم الذّرّة، فكيف إذن تتجمّع بروتونات موجبة الشّحنة داخل نواة الذّرة دون أن تتنافر مع بعضها وفقا لقانون كولوم في الكهرومغناطيسيّة الذي يقول أنّ الشّحنات المتماثلة تتنافر؟ 
إنّ قدرة النَّوَيات على البقاء دليل على وجود قوّة أخرى أكبر من القوّة الكهرومغناطيسيّة، وهي تعمل فقط في حيّز النّواة، لذلك لا نشعر بها، وهي مصدر تلك الطّاقة الرّهيبة التي تنتجها المفاعلات النّوويّة، وتُسمّى القوّة النّوويّة الشّديدة وهي أكبر بمقدار137 مرّة من القوّة الكهرومغناطيسيّة. ولو أمكن للقوّة الكهرومغناطيسيّة أن تتغلّب على القوّة النّوويّة الشّديدة، لتنافرت البروتونات وابتعدت عن بعضها، ولما كان لدينا مادّة في الكون، غير الهيدروجين، لأنّه يحتوي على بروتون واحد داخل نواته. إذن فما طبيعة تلك القوى التي تجعل كلاّ من «البروتون» و«النّيوترون» متماسكين؟ كلاّ من «البروتون» و«النّيوترون» لا يعتبران جسيمات أوليّة حقيقيّة -كالإلكترون- لأنّهما مكوّنان من عناصر أوليّة أخرى هي «الكواركات» Quark، فكلاهما مكوّن من 3 كواركات من «نكهات» مختلفة، فالبروتون مكوّن من «كواركين» علويين شحنة كلّ واحد منهما ثلثا الشّحنة التي يحملها «البروتون» بالإضافة إلي «كوارك» سفلي، شحنته ثلث الشّحنة التي يحملها «الإلكترون». وبالتّالي فمقدار ما تحمله الكواركات الثّلاثة مجتمعة هو ما يعطي «البروتون» شحنته بالضّبط. بينما يتكوّن «النّيوترون» من «كوارك» علوي و«كواركين» سفليّين، وهو ما يجعل شحنته متعادلة. والقوّة النّوويّة القويّة هي التي تربط «الكواركات» ببعضها لتشكّل هذا الجسيمات. سمّيت هذه القوّة بالقويّة لأنّ ترابط «الكواركات» ببعضها قويّ جدًا، لدرجة أنّه من شبه المستحيل أن تجد «الكواركات» بمفردها دون أن تكون مرتبطة مع بعضها البعض، وفي حالة تفككها فإنّ أعمارها تصبح قصيرة جدًا وسرعان ما تتحلّل.  
يفسّر البعض القوى النّوويّة القويّة بأنّها قوى تجاذبيّة قويّة جدّا أقوى بكثير من القوى الكهرمغناطيسيّة ولكن مدى تأثيرها قصير جدّا إذ لا يتعدّى بكثير قطر «نكليون» (النّوترون والبروتون)، وبالتّالي كلّ منهما يستعملها للتّماسك مع جيرانه المباشرين له، وتأثيرها الاجمالي لا يتعدّى حدود النّواة، ويتضاءل مقدارها بشكل كبير مع زيادة المسافة، أي أنّ «الالكترونات» ليست معنيّة بها. تتفاعل «الكواركات» مع بعضها البعض من خلال تبادل ما يسمّى بالجلونات Gluons، وهي الجسيمات الحاملة للقوّة التي تتوسّط القوّة النّوويّة القويّة. يؤدّي هذا التفاعل إلى تماسك «الكواركات» داخل «البروتونات» و«النيوترونات».
القوّة النّوويّة الضّعيفة
هي القوّة التي من خلالها أمكن تفسير سرعة النّشاط الإشعاعي لبعض العناصر المشعّة واحتماله، ولفهمها بشكل جيّد يتطلّب ذلك التّعمّق في معادلات فيزيائيّة معقّدة ليس هذا موضعها، ويضرب الفيزيائيّون مثالاً عليها بتفكّك «النّيوترون» في نواة الذّرات المشعّة إلى «بروتون» و«إلكترون» وجسيم آخر يسمّيه العلماء «النّيوترون المضاد»، فتحتفظ النّواة بالبروتون وتقوم بإطلاق «الإلكترون» و«النيوترون المضاد» على شكل أشعّة، ومقدار هذه القوّة وتناسبها مع القوى الأخرى دقيق جدّاً، فهي أكبر من قوّة الجاذبيّة بمقدار عشرة أس 25، والقوّة النّووية القويّة أكبر منها بمقدار عشرة أس 13. ينشأ مصدرهذه القوّة وطبيعتها من تفاعل «الكواركات» مع «اللّبتونات» (2) عبر تبادل بوزونات W الموجبة والسّالبة وZ. تكون القوّة النّوويّة الضّعيفة فعّالة على مسافات قصيرة جدًا، أصغر بكثير من تلك التي تتفاعل فيها القوّة النّوويّة القويّة.
علاقة القوّة النّوويّة الضّعيفة بالتّحلّل الإشعاعي
ليس للقوى النّووية علاقة مباشرة بإمكانيّة تحلّل النّيوترون (أو أي جسيم آخر) أو عدمها، إنّما تؤثّر هذه القوى فقط في سرعة هذا التّحلّل واحتمالاته. والتّحلّل هو الانتقال من مستوى طاقة معيّن إلى مستوى آخر أقلّ منه، والطّبيعة تختار دائما مستويات الطّاقة الأقل (حتّى لو كان الفرق صغيرا جدا متّى توفر ذلك)، والذي يحدّد ذلك هو الأعداد الكموميّة الخاصّة بالجسيمات (مثل الشّحنة الكهربائيّة والشّحنات اللّونيّة، الخ ...)، وتركيبتها الدّاخلية لا غير. 
يحدث التّحلّل بفعل تفاعله مع اضطراب الفراغ، ولأنّ هذا الأخير وسط عشوائي بحساب الاحتمال، لا يمكن التّنبؤ بدقّة متى يحدث التّحلّل. ففي حالة النّيوترون الحرّ والسّاكن، يخفّض تحلّله إلى بروتون مستوى طاقته بحوالي 0.08 % فقط مقارنة لما كانت عليه لدى النّيوترون، بسب أنّ كتلة البروتون أقلّ من كتلة النّيوترون. وفي حالة نيوترونات نواة الذّرة، فإنّ تحلّلها أكثر تعقيدا وبطرق مختلفة يطول شرحها. 
أخيرا، لا تتفاعل النّيوترونات كثيرا في ما بينها، ليس بسبب «علّة» القوى النّوويّة، بل لأنّ بنية النّيوترون تعزل تأثير هذه القوى الدّاخليّة بشكل كبير عن العالم الخارجي، بالإضافة لكونها متعادلة الشّحنة الكهربائيّة.
هل للقوّة النّوويّة القويّة والضّعيفة جاذبيّة قويّة وضعيفة؟
هذا التّساؤل يأخذنا في اتجاه مدهش، هل يمكن تفسير القوّتين النّوويتين القويّة والضّعيفة على أساس خاصّية الكتلة(3). إن كان ذلك كذلك فإنّ الاختلاف هو فقط في مقدار الفصل بين الكيانات. يُزعم أنّ الجاذبيّة هي أضعف القوى، فهي ما يربط الكون في حالته المداريّة المعقّدة للغاية. ومع ذلك، فإنّ الجاذبيّة التي تحدث بين مسافات تقل عن 10 أس سالب 22 من المتر، تُعرف بالقوّة النّوويّة القويّة وهي أقوى قوّة في الكون. في هذه الحالة يقع التّجاذب بين مجالي الطّاقة المحيطين بشحنتين موجبتين، عندها يكون الانفصال متوازنًا مع قوّة كولوم الطّاردة التي تمثّل الشّحنات الموجبة والتي تشكّل نواة مستقرة. وعندما يجتمع كيانان معًا على هذه المسافة، يحدث الاندماج، مصحوبًا بانبعاث كبير من الإشعاع الضّوئي، في البداية على مستوى جاما. 
إنّ التّفكير الحالي قد يجعلنا نعتقد أنّ هذا الانبعاث سحري إلى حدّ ما، لكن هذا بعيد عن الحقيقة، لسبب بسيط هو أنّ الكيانين اللّذين يجتمعان معًا يشكّلان شحنة موجبة محاطة بمجال من الطّاقة، ليس فوتونًا متحرّكًا بل «سحابة ثابتة»، وحجمها ثابت عالمي. بعد الاندماج، تقلّ كمّية الطّاقة المتبقّية حول الشّحنتين المندمجتين بمقدار الطّاقة المنبعثة، لأنّ المنتج المدمج أو المندمج يتمّ تعريفه، كعنصر فريد، بكمّية أقلّ من الطّاقة مقارنة بالكيانين المنفصلين الأصليّين. وتشارك النّيوترونات أيضًا عبر منطق متّسق، لكن وصفه معقّد إلى حدّ كبير. أي أنّ هذه القوى لا تنشأ من كتلة المادّة بحدّ ذاتها، وإن كان لها دور في ذلك، بل من الخصائص الجوهريّة للجسيمات والتّفاعلات التي تحدث بينها. 
حديث عن قوّة خامسة
ثمّة حديث خلال العقود الأخيرة عن قوّة خامسة، هناك فريق من الفيزيائيّين يعتبر أنّ معظم كتلة الكون يتمّ حسابها بواسطة شكل غير معروف من المادّة والطّاقة تسمّى بالمادّة المظلمة والطّاقة المظلمة، وهي عبارة عن جسيمات جديدة دون ذريّة غير معروفة. هذه القوّة مرتبطة بما يسمّى فرط الشّحنة وهو عدد كمّ يوحّد بين مفهوم اللّف النّظائري والنّكهة، إنّه حاصل جمع أعداد كمّ الغرابة والسّحر والقعريّة والقمية والعدد الباريوني. ثمّة فريق آخر يرجّح ظهور القوّة الخامسة من خلال ما يسمّى بتأثير «نوردتفدت» في الفيزياء الفلكيّة النّظريّة الذي يرجّح انتهاك مبدأ التّكافؤ القويّ والذي ينصّ على أنّ جميع الأجسام، بغض النّظر عن تركيبها الدّاخلي (بما في ذلك تفاعلاتها النّووية القويّة)، تتبع نفس المسار في مجال الجاذبيّة، شريطة أن تكون في نفس الظّروف الأوّلية متحقّقة. بمعنى آخر، لا يؤثّر التّركيب الدّاخلي للجسم (مثل التّفاعلات النّوويّة القويّة) على حركته في مجال جاذبيّة ما. 
وللتذكير فإنّ مبدأ التّكافؤ الذي يعدّ من أعمدة نظريّة النّسبيّة العامّة، ينصّ على أنّ تأثير الجاذبيّة محليًّا لا يمكن تمييزه عن التّسارع «العجلة». بمعنى آخر، إذا كنت في صندوق مغلق في مجال جاذبيّة، فلن تستطيع معرفة ما إذا كنت تتعرّض لتسارع أو كنت في حالة سكون في مجال جاذبيّة. لذلك يعدّ مبدأ التّكافؤ القويّ اختبارًا قويًّا للنّسبيّة العامّة، فإذا تمّ انتهاكه، فقد يشير ذلك إلى وجود قوى جديدة أو حاجة إلى تعديل النّسبيّة العامّة. والمتخصّصون في نظريّة الأوتار، يزعمون أنّ اكتشاف أبعاد إضافيّة قد تخفي قوى جديدة، ومن ثمّ فهم يبحثون عن انحرافات عن مبدأ التّكافؤ القويّ في مستويات طاقة عالية جدًّا أو في ظروف قصوى. وكلّ ذلك يجري باستخدام أنظمة فلكيّة مثل النّجوم النّيوترونيّة أو الثّقوب السّوداء، حيث تكون تأثيرات الجاذبيّة والقوى النّوويّة القويّة كبيرة جدّا.
الهوامش
(1) في الرّياضيات، الأسّ العشري هو رفع أي رقم إلى الرّقم 10 أو مضاعفاته. ويمكن كتابته على الشكل التالي 10n . 
10 أس 36 = 1036 أي واحد صحيح وعلى يمينه ستة وثلاثون صفرا
(2) جسيمات أوّليّة مثل الإلكترونات والنّيوترينوات
(3) حتّى ولو كان ذلك يتمثّل في تحوّل جزء من تلك الكتلة إلى طاقة لربط تلك المكوّنات الدّقيقة والتّغلب على قوّة التّنافر بينهما