رسالة فلسطين
بقلم |
![]() |
أ. د. محسن محمد صالح |
حرب نتنياهو العبثيّة ... |
وهكذا، اختار «نتنياهو» تمزيق اتفاق الهدنة مع حماس، واستئناف عدوانه على قطاع غزّة.
تجاهل «نتنياهو» وفريقه الموغل في التّطرّف الإجابة عن سؤال إذا كان الاحتلال الإسرائيلي بكلّ جبروته وقوّته، مدعوماً بالقوّة العالميّة الكبرى الولايات المتّحدة وعدد من الحلفاء الكبار الغربيّين فشلوا بعد 471 يوماً من العدوان والمعارك في كسر حماس وكسر شوكة المقاومة، فما الجديد الذي سيحقّقه في عدوانه الجديد؟!
وإذا كانت الكوارث الإنسانيّة الهائلة التي تسبَّب بها العدوان الوحشي والمجازر البشعة، واستشهاد أكثر من 60 ألفاً وجرح أكثر من 115 ألفاً بما في ذلك استشهاد نحو 18 ألف طفل و12 ألف امرأة، وتدمير أكثر من 300 ألف منزل وشقّة، وتدمير المدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والبنى التّحتيّة…، كلّ ذلك لم يمنع الحاضنة الشّعبيّة من الالتفاف حول المقاومة، وزادت تمسّكاً بالأرض ورفضاً للتّهجير…، فما الجديد الذي سيفعله، حيث لم تبق طريقة وحشيّة إلّا سلكها وجرّبها؟!
ومنذ إنشاء الكيان الصّهيوني قبل 77 عاماً، فشلت كلّ محاولات تطويع الشّعب الفلسطيني، وفشلت كلّ محاولات إغلاق الملف الفلسطيني…، ومع الزّمن ازدادت المقاومة قوّةً وعنفواناً وإبداعاً. صحيح أنّ الأثمان والتّضحيات تزايدت…، لكنّ خيار المقاومة صار هو الخيار الذي يلتفّ حوله الشّعب الفلسطيني أكثر وأكثر، بينما تراجع وسقط خيار التّسوية السّلميّة.
***
في هذه الجولة، يحاول «نتنياهو» تعويض الشّعور بالفشل تجاه عدم تحقيق أهدافه من حربه على غزّة، وتسجيل عدد من النّقاط لصالحه، ومحاولة استعادة زمام المبادرة لفرض شروط جديدة. وسيسعى للهرب من استحقاق إنهاء الحرب والانسحاب الكامل من القطاع؛ وسيستفيد من الغطاء الأمريكي لجرائمه ووحشيته، كما سيستفيد من بيئة العجز العربي والإسلامي والدّولي غير القادرة على وقف عدوانه ومجازره؛ بل سيستفيد من تواطؤ بعض الأنظمة العربيّة المشاركة في الحصار والرّاغبة في سحق حماس، وكلّ ما يَمتُّ إلى المقاومة وإلى «الإسلام السياسي» بصلحة.
وسيتابع «نتنياهو» عدوانه ونقضه للهدنة، للمحافظة على حكومته والإبقاء على «سموتريتش» ولعودة «بن غفير» إليها، ولتمرير ميزانيّة الحكومة، وللهرب من إجراءات محاكمته، ولمتابعة برنامج اللّيكود والصّهيونيّة الدّينيّة في السّيطرة على مفاصل «دولة الاحتلال» في صيغتها «اليهوديّة القوميّة» المتطرّفة. ولكن إلى أيّ مدى يستطيع «نتنياهو» الهروب من الاستحقاقات الدّاخليّة… حيث تتصاعد عليه الضّغوط من كلّ الاتجاهات، مع تزايد القناعات لدى التّجمّع الصّهيوني أنّ العدوان على غزّة محكوم بأجندة «نتنياهو» وفريقه، وليس بالضّرورة المصالح الاستراتيجيّة للمشروع الاستيطاني في فلسطين المحتلة. وبعد الخسائر العسكريّة الكبيرة، والنّزيف الاقتصادي الشّديد، وحالة فقدان الأمن… فإنّ أغلبيّة إسرائيليّة واضحة وفق استطلاعات الرّأي لا ترغب في استئناف الحرب على غزّة، وترغب في الدّخول في المرحلة الثّانية من الهدنة. وبالتّالي سيجد نفسه عاجلاً أم آجلاً مجبرا للذّهاب لخيار وقف الحرب والعودة لترتيبات الهدنة من جديد.
كان من الواضح أصلاً أن «نتنياهو» ليس جادّاً في تطبيق اتفاق الهدنة، وأنّه يستخدم سيطرته على المعابر والتّحكّم في دخول احتياجات قطاع غزّة كأداة ابتزاز. وتحوّل الأمر إلى حالة وقحة مكشوفة مع الإغلاق الكامل للمعابر. ولعلّه وجد فيما جمعه من معلومات استخباريّة جديدة فرصة لضرب قيادات وكوادر في حماس اضطرت في إطار العمل المدني للتّحرّك والظّهور لترتيب الحياة اليوميّة في القطاع؛ أو أيّ كوادر عسكريّة وأمنيّة توصل إلى معلومات عنها. وربّما حقّق بعض النّقاط في عدوانه الجديد الواسع، مترافقاً مع استشهاد نحو 700 فلسطيني وجرج 900 آخرين. ولكن بنك أهداف «نتنياهو» سرعان ما سينضب، وسيعود إلى دائرته العبثية المفرغة من جديد، بما في ذلك استنزاف جيشه وإمكاناته، بلا أفق يضمن له نتائج حاسمة.
يتجاهل «نتنياهو» طبيعة حماس والجهاد الإسلامي كحركات مقاومة إسلاميّة عقائديّة ذات أيديولوجيّة صلبة، وقائمة على أسس فكريّة وحضاريّة وتاريخيّة وثقافيّة عميقة في وجدان الشّعب الفلسطيني والأمّة العربيّة والإسلاميّة؛ وأنّ محاولات سحقها واجتثاثها محكوم عليها بالفشل، وأنّ مراكمتها لشهدائها وتضحياتها يزيدها مصداقيّة وقوّة وتجذُّراً.
وسيحاول «نتنياهو» استخدام أساليب الاستعمار التّقليديّة في قتل المدنيين والضّغط على الحاضنة الشّعبيّة، وسيكون هدفه المرحلي ليس فقط تحرير أسراه، وإنّما نزع أسلحة المقاومة، وربّما تهجير من استطاع من أهل القطاع. غير أنّ رصيد التّجربة يثبت أنّه سينتقل من فشل إلى فشل. وصحيح أنّ ثمّة المزيد من الآلام والتّضحيات وسفك دماء الأبرياء؛ لكنّ ذلك كلّه سيوجد مبرّرات أقوى لتصاعد العمل المقاوم، وليس للاستسلام لإرادة الاحتلال.
ولعل «نتنياهو» يتطلّع إلى تغيير خريطة المنطقة، وإعادة تشكيلها أمنيّاً بما يتناسب مع المصالح الإسرائيليّة، وفرض التّطبيع وإغلاق ملف المقاومة؛ غير أنّ رغباته وتطلعاته لا تتناسب مع قدراته وإمكاناته. وبالرّغم من الغطاء الأمريكي ومن العجز العربي الرّسمي؛ إلاّ أنّ المنطقة تموج بأجواء التّغيير، وتتراكم فيها العناصر نفسها التي أدت إلى موجة «الربيع العربي»؛ وما زالت تعيش حالة من التّشكل وإعادة التّشكُّل، وما نموذج سورية عنّا ببعيد. وما زالت شعوب المنطقة شعوباً حيّة تُجمع على رفض التّطبيع وعلى دعم المقاومة، وإنّ محاولة «نتنياهو» فرض مزيد من شروط الإذلال على البيئة العربيّة لن يزيد إلاّ من عناصر التّفجير في المنطقة. وبالتّالي، فإنّ تحريك ملفّات التّهجير وضمّ الأراضي في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة وتهويد الأقصى والقدس، سيصبّ في.
اتخاذ الصّراع مسارات حاسمة تُسقط مسارات التّسوية، وتدعم خيارات المقاومة باعتبارها اللّغة الوحيدة التي يفهمها الاحتلال.
وفي النّهاية، فإذا كان «نتنياهو» وفريقه يتّجهون نحو محاولة «حسم» الصّراع، فإنّما هم في الحقيقة يتجهون إلى تسريع «حسم» عمليّة إنهاء احتلالهم لفلسطين.
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع «عربي» ، 21/03/2025 |