في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
مَلاَمِحْ نِظَامٍ مَالِي قَوِيٌّ ومُنْصِفْ المقال الأول
       تمهيد
ضِمن البحث عمّا يضمن تدفّق الأموال إقامة للأعمال لكلّ القادرين على النّشاط الاقتصادي، فتحا لآفاق الكسب الكريم وإنصافا لهم، من خلال وضع حدٍّ لظواهر عدم الإدماج والإقصاء والتّهميش، النّاتجة عن طبيعة النّظام المالي القائم، ومِن ثَمَّةَ تحريكا للنّشاط الاقتصادي امتصاصا لمعدّلات البطالة الّتي ما فتِئت تزداد، نتيجة للرّكود الاقتصادي، ومعالجة للفقر، ومظاهره المُستشرية وتداعياته الخطيرة. 
وفي ظلّ هيمنة نظرة مُزدوجة للإنسان ضمن تَبَنٍّ لرؤية دُنيا للحياة وتصوّر عبثي للوجود، ننطلق في عرض بحثٍ لَنا في ملامِح نِظام مَالي قَوِيّ وَمُنْصِف، مُساهمة منّا في الجهد الذي ما فتِئ يبذله منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل وضِمن سلسلة جديدة من المقالات على أعمدة مجلة «الإصلاح» الالكترونيّة في سنتها الرّابعة عشرة.
ولبيان الخلفيّة الفلسفيّة للنّظام المالي الدّولي السّائد والّتي تنبع منها مجموع التّصوّرات المؤسّسِة له وكذلك الهدف وراء تشييده نعرض لفلسفة النّظام المالي الّتي أفرزت مراحل تطوره، على امتداد عقود، تداولا ما بين ظاهرتي التّضخّم(INFLATION) المُبخّر لقيمة المال الاستهلاكيّة والركود(STAGNATION) المُبخّر لقيمة المال الإنتاجيّة، الى أن استقرّ مقام الظّاهرة المزدوجة والتي أصبحت ملازمة له منذ مُدّة والمتمثّلة في التّضخّم والرّكود في نفس الوقت والمُعبر عنها باللّغة الانجليزيّة (STAGFLATION)  المُبخّر لقيمة المال الاستهلاكيّة والإنتاجيّة معا، ظواهر أثبتت عُقم النّظام المالي عن توليد المال لإقامة الأعمال ولتلبية احتياجات كلّ النّاس تيسيرا لعيشهم وتحسينا لنوعيّة حياتهم مِمّا يجعله هو وفلسفته في قفص الاتهام فيما آلت إليه أوضاع البشر من فقر وحرمان.
والفلسفة التي تَسْنُد النّظام المالي السّائد هي ذاتُها الّتي تمنح التّحليل العلمي للواقع إطارا عاما بما يحتويه من مفاهيم وقيم وأحكام تُوجّه عمليّة تشخيص الواقع والنّظرة لمشاكله وكذلك طبيعة الحلول لها والتي وبمعاينة إحصائيّة لم تزد ذلك الواقع الّا تعقيدا واشكالاته الاّ استفحالا، مِمّا يُبرّر سعينا نحو فهم حقيقة هذا النّظام وخلفيّته الفلسفيّة بحثا عن عِلّة ما جعل البشر في غالبيّتهم العظمى يُعانون صنوف الاستضعاف والحرمان.
1 - الخلفيّة الفلسفيّة للنّظام المالي
الفلسفة هي التّصور للإنسان والحياة والوجود ككل، والّتي يتمّ ترجمتها في صورة الأسس والمبادئ العامّة التي يُراد أن يُقام عليها واقع المجتمع في مختلف مجالاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها، وهي أسس ومبادئ في حقيقتها من وضع البشر، ولكن ثمرة أفكار العلماء إن كانت موضوعة كما هو الحال في المذهب اللّيبيرالي وغيره، وثمرة تدبّر العلماء للقرآن الكريم وما توافق معه ممّا رُوِيَ من سُنّة من أرسِل رحمة للعالمين في تفاعل مع الواقع المعاصر، الذي هو واقع متحرّك وديناميكي، بما يُبلوِرُ فلسفة مُميّزة.
أمّا النّظام فهو الإطار التّشريعي، الذي تتّخذه سلطة المجتمع من خلال دولة أو ما شابه، بغية التّأثير في الحياة في مختلف مجالاتها لتحقيق أهداف معيّنة، وهو نظام يقوم على أصول وقواعد تمنحها الفلسفة المعتمدة وتكون ثمرة استقراء أفكار العلماء، إن كانت موضوعة، كما هو الحال في المذهب اللّيبيرالي وغيره وثمرة تدبّر العلماء للقرآن الكريم، إن كانت إسلاميّة، وما توافق معه ممّا رُوِيَ من سُنّة من أرسِل رحمة للعالمين ودرايتهم بمستلزمات النّظام المعاصر، بما يُثمِرُ نظاما يضمّ مجموعة من مؤسّسات تحتكم إلى منظومة قيميّة تمنحها الفلسفة أيضا، وتؤطّر التّشريعات الّتي تمثّل وجها رئيسيّا من أوجه النّظام، وتهدف إلى رسم طريق إنشاء واقع معاصر مأمول، أو تعديل لواقع قائم وذلك لتحقيق النّفع الفردي أو المجتمعي أو كليهما في مجالات الحياة والذي يقوم على تحقيق مجموعة من المقاصد وفقا للرؤية والفلسفة المتضمنة في المذهب المُعتمد، فقد يسعى نظام معين إلى إشاعة الحرّية في المجتمع بمعزل عن القيم الإسلاميّة وتحقيق أقصى ربح ممكن لمالكي وسائل الإنتاج كالنّظام الرأسمالي، وقد يسعى نظام آخر إلى تحييد رأس المال وجعل الملكيّة جماعيّة لوسائل الإنتاج وإدارة الاقتصاد إدارة تعاونيّة كالنّظام الاشتراكي، وقد يسعى نظام آخر إلى إقامة ميزان إشباع الحاجات المادّية الجسديّة والنّفسيّة والذّهنيّة  معا، وتحقيق حدّ الكفاية لأفراد المجتمع ككل، وتمكينهم من أسباب القوّة والتّمكين ليحيوا حياة كريمة كالنّظام الإسلامي. 
2 - عَلْمَنَة النّظام المالي
العلم هو ذلك النّشاط العقلي البحثي الذي يدرس السّلوك والظّواهر في مختلف مجالات الحياة ويقوم بفهمها وتحليلها في إطار عام تمنحه إيّاه الفلسفة المعتمدة ويحتوي على مسلّمات(عقيدة بالنّسبة للمسلمين) وقيم(مكارم الأخلاق بالنّسبة للمسلمين) وأحكام(الحلال والحرام بالنّسبة للمسلمين) وفقا لأسس التّصوّر المُعتمد للإنسان والحياة والكون، والمتضمّن في المذهب، وذلك بقصد استخلاص القواعد والقوانين التي تحكم هذا السّلوك والظّواهر حسب مجالات الحياة، ليقع في الأخير وضع النّظريّات التي تفسرها، ومن ثمّة تقديم الحلول والسّياسات الاقتصاديّة المناسبة على أرض الواقع، وكذلك صياغة النّماذج العلميّة التي تصوّرها، وتجسيد ما توصّل اليه العلم من خلال أدوات ومستلزمات وآلات ومواد وغيرها من تقنيات تنفع النّاس وتلبّي احتياجاتهم، حينها نتحدّث عن العلم.
ومن النّظريات المعتمدة في عمل النّظام المالي السّائد النّظريّة الماليّة الكلاسيكيّة والنّيو كلاسيكيّة ولكليهما هدف وحيد وهو تحقيق أعلى قدر ممكن من الرّبح لأصحاب المال أو للمستثمرين أو للمساهمين، وتعتمد على عقلانيّة المستثمرين الكاملة وكفاءة الأسواق والحدّ الأقصى من أمل النّفع الفردي ضمن مقاربة نفعيّة فرديّة نقديّة.
وضمن هذه النّظريّة التي تتمحور حـــول تحقيـــق أقصى قــدر ممكـــن للرّبـح لأصحاب المال وللمستثمريــن المساهمين تعـــدّدت التّحاليــل بيــن التّحليــل الأساسي(1) «FUNDAMENT ANALYSIS» والتّحليــل حســب السّــــوق(2)«MARKET ANALYSIS»، إلاّ أنّ كلا التّحليلين يهدفان الى معرفة كيفيّة تحقيق أقصى قدر ممكن من الرّبح للمساهمين بعيدا عن البحث في كيفيّة توليد المال وتوفيره لمحتاجيه، تلبية لاحتياجاتهم في جميع أنحاء العالم، ولعلّ ذلك يُوضح هدف النّظام المالي السّائد والذي هو هدف فئوي ضيّق جدّا.
وأمام النّتائج الكارثيّة لمسلّمة «التّمويل العقلاني» (RATIONAL FINANCE) ظهرت أطروحات أخرى اعتبرت أنّ الاحتفاظ بهذه المسلّمة ليس موضوعيّا وطرحت «التّمويل السّلوكي» (FINANCE BEHAVIORAL) كمسلّمة بديلة والتي تضيف البعدين الاجتماعي والنّفسي للاقتصاد، وقد بدت أكثر اتصالا بالواقع(3)، وتفتح أُفقا رحبة لإعادة النّظر في الخلفيّة الفلسفيّة للنّظام المالي القائم، ومن ثمّة إعادة وضع إطار عام للتّحليل العلمي للظّواهر الماليّة والاقتصاديّة، بحيث يجعل التّحليل أكثر قدرة على استيعاب الواقع وتعقيداته وأكثر قدرة على تمكيننا من نظريّات نافعة للنّاس وغير مقتصر نفعها على المستثمرين.
3 - آفاق البحث
بعد أن خَصّصنا المَقَالِ الأوّل لتأطير بحثنا الذي سنصاحبكم فيه طيلة هذه السّنة من خلال أعمدة مجلة الإصلاح الالكترونيّة، نعرض في مقال ثَانٍ في العدد القادم، إن شاء اللّه، كيف تطوّر النِّظام المالي العالمي منذ نشأته أواخر القرن التّاسع عشر الى يومنا هذا، مُبرزين مسؤوليّته في ما آلت إليه أوضاع البشر في غالبيتهم العُظمى في مختلف مناحي حياتهم وعلى مستوى معيشتهم، لنصل في مقال ثالث الى الشّروع في بلورة ملامح نظام مالي يكون قوِيًّا ومُنصِفا، يجعله قادرا على توليد المال بما يتناسب مع احتياجات حياة النّاس وعيشهم مع الحفاظ على قيمة ذلك المال، حفاظا على مقدرتهم الشّرائيّة وكذلك الإنتاجيّة، مقالٌ نُخصّصُهُ لعرض بِنْيَةٍ تصوّريّة كفيلة بتأطير ذلك النّظام ضمن تصور أصيل للإنسان ودوره في الحياة وموقعه في هذا الوجود وعلاقته به واستتباعات كلّ ذلك على طبيعة النّظام المالي المُنتظر ودوره تُجاه الإنسان أينما وُجِد، أيضا وذلك سعيا منّا، بعد تحرير العقول من التّصوّرات المنحرفة، إلى إنارة العقول بتصوّرات بديلة للإنسان والحياة والوجود ككلّ وبيان قدرتها على التّأسيس لنظام مالي قوِيّ ومُنصف، على الأقل على المستوى النّظري.
وبناء على ما سلف نقدّمُ في مقال رابع نموذجا لنظام مالي جديد يرتكز على طبيعة أصيلة لعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالأشياء تقوم على الرّحمة، طبيعة قادرة على إفراز إطار جديد نتجاوز من خلاله سيّئات إطار النّظام المالي المُتسبّب في ما آلت إليه أوضاع البشر من استضعاف، ويكون خيمة لاتفاقيّات قانونيّة ولعمل منظمّات وجهات فاعلة اقتصاديّا سواء رسميّة أو غير رسميّة، تُسَّهِّلُ التّدفّق الدّولي لرؤوس الأموال بغرض الاستثمار والتّمويل التّجاري وكذلك التّمويل التّعاوني والتّكافلي. 
وبما أنّ النّظام المالي لا يكتمل تشييده إلاّ بأنماط تمويل وهياكل وأسواق ومؤسّسات فإنّنا سنستعرض في المقالات الموالية تلك الأنماط، كنمط التّمويل الجماعي والزّكاة والوقف، وتلك الهياكل، كالجهاز المصرفي البنكي وصناديق الاستثمار وسوق المال، ولتلك المؤسّسات، كمؤسّسات التّمويل الصّغير والتّأمين والإيجار المالي، كلّ ذلك مساهمة منّا في بلورة دراسات وبدائل ضمن نشاط منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل، واللّه المقصد وهو ولي التّوفيق.
الهوامش
(1)   (F. Modigliani et M. Miller  (1958
(2)   (H. Markowitz  (1952
(3) Théorie financière et réalité des marché, Auteur Cloot, Amandine Editeur Réseau Financité ; juin 2014