نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
إرادة القوة ... هل يمكن لهذا المفهوم أن يكون نموذجا تفسيريّا؟
 يُعدُّ الفيلسوف الألماني فريدريش فيلهيلم نيتشه Friedrich Nietzscheا (1844-1900)من الذين زرعوا مفهوم «إرادة القوّة» في حقول الفكر الفلسفي، وأصبح معه مقولا تفسيريّا، ليس بالنّسبة لصراع القوى في التّاريخ، وإنّما بين الأنساق الفلسفيّة أيضا، فهو يتفحَّصُ تاريخ الفلسفة، ليس باعتباره حكاية التعقُّل الإنساني في البحث عن الحقيقة واستكناه جواهر الموجودات؛ وإنّما يُبصر فيها علامات أو أعراض على قوى حيويّة نشطة، تستعمل العقل والمعرفة استعمالها للأداة فقط؛ لأجل الهيمنة رمزيّا والسَّيطرة واقعيّا، وبالتاَّلي، فالغريزة وأقواها غريزة القوّة، هي المحرك الفعلي لنشاط العقل والسّلوك، ولقد ترتَّب على هذا، إعادة بناء حركة التّاريخ، فالتَّاريخ ليس نموّا منطقيّا نحو الحقيقة، إنمَّا هو تاريخ القوى التي تُؤَوِّلُ العالم تبعا لمصلحتها؛ والمعاني تتبدَّلُ ، لأنَّ القوى تتبدل أيضا، فكلّ هيمنة أو سيطرة تعادل تأويلا جديدا للحياة وللوجود. فالمعنى تابع لإرادة القوّة؛ أكثر من كونه شيئا يُسْتنبط من العقل أو من الواقع. 
ولقد ترتَّب عن هذا، ربط منظومات الأخلاق بالقوى التي تحايثها، فالقوى الفاعلة لا تعرف قيم الرّحمة والمساواة ومثيلاتها اليوم :حقوق الإنسان والقانون العالمي والحقّ في الحرّية والعدالة ! بل هي التي تخلق قيمها الخاصّة وتفرضها على القوى الضَّعيفة أو إرادة الفعل، التي تبحث عن ذاتها أي القوى الضّعيفة من خلال أشياء تبرر بها ضعفها ووجودها؛ فهي التي تنادي بالمساواة كي تكبح جماح القوى المسيطرة عليها، وحقوق الإنسان والاعتداء على الضَّمير وغيرها من مصفوفة الأخلاق التي هي أنماط وجود وصيغة من صيغ الحياة أكثر منها معان مثاليّة أو واقعيّة . بمعنى أنّ القوى الفاعلة ليست في حاجة إلى حقوق الإنسان أو  إلى الحقّ في الحرّية؛ بل هي تفعل بحرّية لأنّها قويّة، ومصالحها الحيويّة  هي الدَّوافع التي تحرّكها، ولا مكان للقيم المثاليّة مثل الرّحمة والتّسامح والعدالة في تأويلها وفي فعلها؛ بينما الضَّعيف الخاضع، يتعلّق دوما بحقوق الإنسان المثاليّة وبحرّية الإرادة وبالعدالة وبالكونيّة والعالميّة، لأنّه خاضع وغير قادر على الرّدّ أو السّيطرة؛ فهو يتغذّى في فعله من ضعفه ووهنه وفتور قواه؛ ولعلّ ما يحدث على مرائينا ومسامعنا، يُشَرِّعُ لنا استعمال مفهوم إرادة القوى من أجل تفسير واقع العلاقات بين القوى، فالمسيطر اليوم؛ يدوس على ما تعتبره الإنسانيّة قيما مقدّسة: مثل الحقّ في الحياة وحقوق الإنسان والعدالة العالميّة والحرّية والمواطنة والرّحمة والتّسامح؛ إنّه يتحرّك تبعا لقواه الحيويّة ومصالحه المادّية؛ ولما تؤمر به غريزة القوّة، وليس استجابة لأوامر أخلاقيّة مثاليّة؛ بينما الدُّول الضّعيفة والخاضعة والمحكومة بشبكة من السّيطرة؛ ترافع عن الحقّ في الحياة وعن العدالة الكونيّة وعن حرّية الشّعوب؛ وتجد في اللّغة والكلام متنفّسها الذي يريحها من مسؤوليّة التّصدّي أو المواجهة، إنّها تُنَصِّبُ ذاتها حامية لقيم الرَّحمة والتَّسامح، بينما السّبب البعيد إنّما هو ضعفها ووهن إرادتها وفتورها الغريزي؛ إنّها لا تجد طريقا آخر تبرّر به وجودها سوى تصوير القوى الفاعلة بكافة صور العنف واللّاإنسانيّة والجريمة، إنّها قوى عارية عن الفعل، عاجزة عن إثبات ذاتها في الفعل والتّصدّي والمقاومة وتحرير الذّات من مشاعر العدم والنّفي، وفي الواجهة الأخرى، تستمرّ القوى الفاعلة ذات الغرائز القويّة والمسيطرة، في إدامة التّحكّم والإذلال واستباحة الفعل في حقّ الضعفاء .
بقي لنا، صرف القول، إلى أنَّ هذا المفهوم رغم أنّه وجيه تفسيريّا، إلاّ أنّه محدود، من جهة أنّ نتائج الصّراع ليست دوما هي المعيار في اشتقاق القيم، بمعنى أنّ المسيطر ليس هو الصّحيح لأنّه مسيطر، بل نحن في حاجة اليوم إلى قلب القيم من جديد، لأنّ الإنسانيّة الضّعيفة هي التي أعطت لقيم الحرّية والإنسانيّة والعدالة منظرا كئيبا؛ لقد تشبّثت بها لأنّها لم تجد غيرها، بينما القول الجدير بالإقرار، هو أن تتلازم القوى الفاعلة مع منظومة القيم الرّوحيّة، كي تعطي للحياة بهجتها الإنسانيّة وليس بؤسها العنيف، ولو أنّنا عبّرنا عن هذا اللقاء بين القوى الفاعلة والقيم الإنسانية، لوجدناه في اللّقاء بين ابن عربي ( 1165/1240)م ونيتشه، فابن عربي بنى الفعل على الأنفاس الرّوحيّة، ونيتشه بناه على إرادة القوّة، ولو تتحقّق اللّحمة  بين الأنفاس الرّوحيّة وإرادة القوّة؛ فإنَّ الإنسانيّة ستكون لها دروب أخرى.