وفي أنفسكم...
بقلم |
![]() |
أ.د. ناصر أحمد سنه |
حِـياكة الجـِينوم |
تشاركت، في سابقة فريدة، سيّدتان في جائزة «نوبل» للكيمياء عام (2020)، فمُنحت للبروفيسورة الفرنسيّة «إيمانويل شاربنتييه»(1)، وللبروفيسورة «جينيفر دودنا»(2). وذلك لتطوير طريقة للتّحرير الجيني، ولاستحداثهما تقنية (CRISPR-Cas9) أو «المقصّ الجيني» لتحرير الجينوم (Genome). ففي يونيو(جوان) 2012 نشرتا ـ مع آخرين ـ بحثاً في مجلة «العلوم» بعنوان: Programmable Dual-RNA–Guided DNA Endonuclease in Adaptive Bacterial Immunity. ثمّ كان إنجازهما الرئيس ببرمجة «كريسبر»، و«كاس9» لتعديل سلاسل الحمض النّووي الرّيبوزي (المرتبطة بصفات معيّنة) في الخلايا، والكائنات العضويّة. مما يُصلح الجينات المعطوبة، واستبدالها بأخرى سليمة أو معدّلة. واكتُشف «كريسبر» لأوّل مرّة عام 1987 من باحثي جامعة «أوساكا»باليابان، في بكتيريا «الإشيريشيا القولونيّة» E. coli. ومع تطوّر تقنيات التّحليل الجيني، وجد باحثون تتاليات «كريسبر» في ميكروبات أخرى. وكان «فرانسيسكو موخيكا»(3) ، أوّل الواصفين لخصائص «كريسبر» بعد أن ذُكر اسمه لأوّل مرّة في مقال بمجلة الميكروبيولوجيا الجزيئيّة لـ «رود جينسن» من جامعة «أوتريخت» عام 2002. وهناك تطوير لتقنيات أخرى مشابهة مثل «تالينز» (TALENs)، و«نوكليزات أصابع الزّنك» (Nucleases Zinc-finger)، الخ لتحقيق الأمر ذاته.
فهم الآليّة
تستخدم «بدائيّات النّوى» كالبكتيريا العقديّة المُقيحة (Streptococcus Pyogenes)، والبكتيريا العقديّة المنتجة لحمض اللّبن (Streptococcus thermophilus) وغيرهما آليّة مناعيّة دفاعيّة ضدّ الفيروسات التي تتكاثر داخلها. حيث تحتفظ البكتيريا بأجزاء من الحمض النّووي للفيروس (يضمّ أجزاء فيروسية حاليّة وأخرى سابقة كتوثّق للتّاريخ العدواني على الخليّة البكتيريّة) داخل جزء من حمضها النّووي، يُسمّى «كريسبر» أي: (Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats)، (التّكرارات العنقوديّة المتناظرة القصيرة، منتظّمة التّباعد، كنوع من تسلسلات الحمض النّووي الرّيبوزي المتكرّرة). وللبكتيريا مقدرة لإفراز إنزيم «كاس 9» فيقترن بجزء من الحمض النّووي للفيروس (القاتل) ويعيق نسخه، فيمنع تكاثره داخلها، وتسلم من موت محقّق. وإذا دخل هذا الفيروس مرّة أخرى للخليّة البكتيريّة، تتعرّف على حمضه النّووي ـ بمساعدة سلسلة «كرسبر» ـ وبواسطة إنزيم «كاس 9» ، فتقطعه وتتلفه.
و«كاس9» هو بروتين مرتبط بكريسبر مضادّ لفيروسات الحمض النّووي الرّيبوزي. أمّا «تراكرانا»: فهو «كريسبر» الحامض (رانا/ RNA) المنشّط الذي يتيح لسلسة (رنا) الطّويلة المنشأة من سلسلة «كريسبر» النّضج والنّشاط. وتمت بالاستفادة من هذا النّظام البكتيري الطّبيعي، وتعميمه لتعديل جينومات الكائنات الحيّة عبر قصّ أجزاء من حمضها النّووي بسهولة وحياكتها. وفور قصّ الحمض النّووي، تبدأ آليّات الإصلاح الطّبيعيّة للخليّة بالتّدخّل، فتعمل على إعادة تجميع الحمض النّووي. وتتمّ تعديلات الجينوم، بطريقتين: إمّا بلصق القطعتين معًا مرّة أخرى «ضمّ النّهايات غير المتجانسة». وقد تؤدّي هذه الطّريقة إلى حدوث أخطاء، بإدخال النّيوكليوتيدات أو حذفها بطريق الخطأ، ما قد يؤدّي لطفرات تعطّل الجين. وإمّا بإصلاح القطع عبر ملء الفراغ بسلسلة من النّيوكليوتيدات، وتستخدم الخليّة قالبا من (دنا). ويمكن اختيار قالب الحمض النّووي لكتابة أيّ جين يراد، أو لتصحيح طفرة ما. وتكمن أهمّية تقنية (كرسبر- كاس 9) في مرونة تصميمها وقدرتها على التّكيّف، ما يوظّفها في جراحة «الجينات»، والعلاج الجيني لأمراض وراثيّة بشريّة، وإنتاج نماذج من حيوانات مخبريّة، وتحسين مأكولات ومحاصيل زراعيّة، وتطوير الصّناعات البتروليّة والوقود الأحيائي.
جراحة الجينات:
يحمل الإنسان ما بين 50-100 ألف عامل وراثي (جين)، وترتبط حالته الصّحيّة بالمعلومات المسجّلة في جيناته الوراثيّة. فهي المسؤولة عن الطّبعة المبدئيّة من حياة الإنسان، بدءاً من لون بشرته وعينيه وشعره، وحتّى حسّاسيته للأمراض أو مقاومته لها. وتتحكّم الجينات في نموّ الجسد ووظائفه عبر «شفرة» أو «وثيقة» وهي برنامج عمل يمكّن الخلايا من تصنيع بروتيناتها اللاّزمة لإنجاز مهام معيّنة. وتعتبر جراحة الجينات» (Gene surgery) طفرة كبيرة بين أنواع الجراحات القديمة والحديثة. فعلى المستوى الجيني.. يعمل ـ ليس المبضع ـ بل «المقصّ» الجيني عبر تقنية «تحرير الجينات»، و«حياكتها» لتغيير تسلسل الحمض النّووي، وتعديل وظيفة جينومات الكائنات الحيّة. مع رصد التّشوّهات الجينيّة وتعديلها أو استبدالها بعناصر أخرى في الحمض النّووي. وما يميّز تقنية «كريسبر» ـ عن باقي (انزيمات القطع في الهندسة الوراثيّة)ـ قدرتها على (القصّ والقطع) عند أيّ منطقة مرغوبة من الجينوم، وتعديله. كما نجح تطبيقها على جينوم جميع الكائنات الحيّة التي تمّ تجريبها عليها مقارنة بإنزيمات القطع الأخرى. وباتت تقنية «كريسبر» أكثر دقّة وبساطة ورخصاً وسرعة ويسراً من حيث الجراحة، ممّا جعلها في متناول الباحثين عبر أنحاء العالم.
ففي فبراير 2016، حصل العلماء البريطانيّون على إذن لتعديل الأجنّة البشريّة وراثيًّا باستخدام تقنية «كريسبر- كاس9»، وبتقنيّات شبيهة أخرى. ومع ذلك، مُنع الباحثون من زرع الأجنّة في أرحام النّساء، وأجبروا على إتلافها بعد سبعة أيّام. وفي فبراير 2020، أظهرت تجربة أمريكيّة سلامة استخدام تقنية «كريسبر» للتّعديل الجيني على ثلاثة مرضى مصابين بالسّرطان. وبعد ذلك بشهر، وُصف أوّل علاج جيني لمريض يعاني من حالة نادرة (10 LCA) تسبّب عمى الأطفال. واستخدم العلاج للقضاء على تحول جيني (290 CEP) يسبّب هذه العلّة. وفي يونيو 2021، انتهت أوّل تجربة سريريّة لتعديل الجينات عبر الوريد لدى البشر، وقدّمت نتائج واعدة. حيث تلقّى أحد المرضى الذي يعاني من متلازمة «هنتر» النّاتجة عن خلل في التّمثيل الغذائي/ الأيض عبر الوريد مليارات النّسخ من الجينات التّصحيحيّة وأداة وراثيّة لخفض الحمض النّووي في مكان دقيق. كما تمّ إلغاء تنشيط جين بروتين غير مطوي يسمّى «ترانستريتين» (TTR) المُتراكم في حالات مرضيّة نادرة، تؤدّي لتلف في الجهاز العصبي والقلب. كما استخدمت جسيمات نانويّة دهنيّة لإيصال حمولتها كتلك المستعملة في لقاحات الحمض الرّيبي النّووي الرّسول» (mRNA). وتلك كانت «ضربة قاضية» لجين مرض واحد، رغم الحاجة لدراسات لإثبات حدوث هذا بنسبة 100 % في البشر. وتكمن المشكلة في أنّ جسم الإنسان معقّد للغاية، وهناك تباينات كثيرة تعمل عند البعض دون البعض الآخر.
العلاجات، و«الإجبار» الجيني:
يتمّ تطوير علاج لأمراض الدّم الوراثيّة، حيث تمكن باحثون في «سويسرا» ـ باستخدام «كريسبر»ـ من علاج مصاب بالهيموفيليا (نوع B). وفي 22 نوفمبر 2022 حصل عقار «هيمجينكس» Hemgenix، أوّل علاج جيني لاضطراب تجلّط الدّمّ الهيموفيليا «بي»، على موافقة إدارة الغذاء والدّواء الأمريكيّة. ووصل سعر هذا الدّواء لثلاثة ونصف مليون دولار أمريكي، ما يضعه على رأس قائمة أغلى أدوية العالم. وفي سابقة هي الأولى على مستوى العالم، مُنحت الوكالة التّنظيميّة للأدوية بالمملكة المتّحدة ـ وفق مجلة «ناتشر» 16/11/2023ـ موافَقةً على العلاج بتقنية «كريسبر» بنمط يُدعى «كاسجيفي» Casgevy. وهو يداوي مرضى «فقر الدّمّ المنجلي» و«الثلاسيميا»، وهما اضطرابان يحدثان في الدّمّ، تُسبّبهما نسخ غير طبيعيّة من الجينات التي تشفّر بروتين الهيموجلوبين الذي يحمل الأكسجين. وفي التّجارب الإكلينيكية، خفّف «كاسجيفي» الآلام الموهنة التي تعيق الحياة اليوميّة لدى 28 شخصًا من إجمالي 29 مصابًا بداء الخليّة المنجليّة، وذلك لما لا يقلّ عن العام، وأمّا مصابو «الثلاسيميا» البالغ عددهم 42 شخصًا، فلم يحتجْ 39 منهم إلى نقل دم لمدّة لا تقل عن عام. وتقدر تكلفة العلاج بمليوني دولار أمريكي لكلّ شخص.
وطبّق العلماء لأوّل مرّة على البشر تقنية فائقة الدّقّة تُسمّى «التّحرير الجيني القاعدي» وهي واحدة من تقنيات «كريسبر»، وأظهرت نتائج واعدة في خفض نسب الكوليسترول «الضّار». ويعطّل التّحرير الجيني القاعدي جينًا في الكبد مسؤولًا عن تنظيم البروتين الدّهني منخفض الكثافة (LDL)، أحد المتّهمين الرّئيسين في الإصابة بأمراض القلب والشّرايين. وكان من بين المشاركين في التّجربة عشرة أشخاص يعانون من مرض ينتقل بالوراثة مهدّدًا للحياة، من شأنه التّسبب في ارتفاع البروتين الدّهني منخفض الكثافة الضّار منذ الولادة، وبإعطائهم حقنة علاجيّة (لمرّة واحدة) انخفض الكوليسترول بنسبة تصل إلى 55 %. على أنّ التّجربة أثارتْ مخاوفَ متعلقةً بالسّلامة، فقد أصيب إثنان من المشاركين بأزمات قلبيّة، لكن الفحوصات وجدت أنّ إصابة أحدهما على الأقل ليس لها علاقة بالعلاج.
كما يتمّ السّعي لإنتاج علاجات لداء «هنتنغتون»، والتّليّف الكيسي، واضطراب التّورّم «الوذمة الوعائيّة الوراثيّة»، وبعض أنواع السّرطانات وبخاصّة سرطان الأطفال، ضد فيروسات مسبّبة لأمراض كالإنفلونزا والإيبولا، وربّما فيروس «نقص المناعة البشريّة/ الإيدز». ومن التّطبيقات الممكنة، إنشاء «محرّكات جينيّة»، وهي من تقنيات الهندسة الوراثيّة التي تزيد فرص انتقال سمة معيّنة من الوالدين إلى الأبناء، على مدار الأجيال، تنتشر السّمة إلى مجموعات كبيرة من هذا النّوع. كما توظّف تقنية «كريسبر- كاس9» كأداة أساس في عمليّة «الإجبار» الجيني (Gene Drive) التي يستخدمها الباحثون للقضاء على مرض الملاريا، وذلك بجعل البعوض «المعدّل وراثيّاً» يمتلك صفة مقاومة حمل مسبّب المرض. ويورث تلك الصّفة ـ كلياً بنسبة 100 %ـ لأجياله اللاّحقة عند تزاوجه مع بعوض غير مقاوِم. وذلك بدلا عن قوانين «مندل» الوراثيّة التي يكون فيها متوسّط احتمال توريث الصّفة بنسبة 50 %. كما اختبرت إستراتيجيّة لمنع انتشار داء «لايم». وفي نوفمبر 2013، امتلكت مختبرات «ساجي» (جزء من مجموعة هورايزون ديسكفري) حقوقًا حصريّة لإنتاج نماذج مُختلفة من حيوانات تجارب مخبرية (جرذان، وفئران، وأرانب معدلة وراثيًا) وبيعها.
ونجحتْ تقنية «كريسبر–كاس9» في حلّ لغز تسبّب فطر قبعة الموت Amanita phalloides في قتل من يتناوله، لتقود الباحثين إلى ترياق محتمَل له. فقد أنتج الباحثون خلايا بشريّة – يحمل كلّ منها طفرات جينيّة مختلفة – وعرّضوها لسُمّ الفطر، ليجدوا أنّ السُّم لم يتمكن من دخول هذه الخلايا الخالية من النّسخة الوظيفيّة من إنزيم STT3B. وتمثّلت الخطوة التّالية في التّفتيش فيما يقارب 3220 مركبًا كيميائيًّا، بحثًا عن مركَّب ينجح في تعطيل وظيفيّة هذا الإنزيم. وبالفعل، كُشف عن «الإندوسيانين الأخضر» (صبغة طورتها شركة التّصوير «كوداك» في الخمسينيّات، وتُستخدم في التّصوير الطّبي). ولم تُختبر هذه الصّبغة بعدُ كترياق بين البشر، لكنّها قلّلت من الوفيات عند إعطائها للفئران.
«المقص» يُحسن المأكولات والمحاصيل:
في عام 2015، نجح «ينونغ يانغ» في إلغاء تنشيط 16 جين محدّد في جينوم الفطر الأبيض ليمنعه من التلوّن بالبنّي. ولم يضف أيّ نوع من «الدنا» الأجنبيّة (المعدّلة وراثيًا) إلى الفطر. ويعدّ «فطر يانغ الأبيض» أوّل كائن حيّ معدّل وراثيًا باستخدام تقنية «كريسبر- كاس9». وفي سبتمبر 2021، طُرح أوّل طعام معدّل بتقنية «كريسبر» للبيع العام في اليابان، فقد عدّلت الطّماطم وراثيًّا لتحوي خمسة أضعاف الكمّية الطبيعيّة من حمض «الغاما-أمينوبيوتيريك». طُبّقت تقنية كريسبر لأوّل مرّة على الطّماطم في عام 2014. وأجري استطلاع للرّأي (عام 2022) وتبيّن أنّ معرفة المزيد عن «طماطم كريسبر» يحمل تأثيراً قويّاً على تفضيلات المشاركين. وأظهرت دراسة أجريت في ألمانيا ثبات رأي نحو نصف المشاركين (البالغ عددهم 32) فيما يتعلّق بالطّماطم المعدّلة، ومعظم هؤلاء الثّابتين كانوا من العلماء. وبالمقابل، أبدى بقيّة المشاركين استعدادًا متزايدًا لشراء الطّماطم المعدّلة بتقنية كريسبر، ومعظم هؤلاء كانوا غير علماء. وطُبّقت تقنية «كريسبر» أيضًا في الصّناعات الغذائيّة لتشكيل مستنبتات جرثوميّة مفيدة، ولحماية هذه الجراثيم في المنتجات المُصنّعة، مثل اللّبن، ضدّ الفيروسات. واستخدم في المحاصيل لتحسين الإنتاج وتحمل الجفاف وتحسين خصائصها المغذّية. ويمكن استخدام «محركات الجينات» في تطبيقات مختلفة، مثل القضاء على الأنواع الغازيّة للمحاصيل أو عكس مقاومة مبيدات الآفات ومبيدات الأعشاب في المحاصيل.
وفي ديسمبر 2021، أعلنت اليابان عن سماحها ببيع أولى الحيوانات البحريّة/ المأكولات البحريّة المعدّلة وراثيًا باستخدام تقنية «كريسبر» وثاني نوع من الأطعمة المعدّلة باستخدام هذه التقنية. وأجري التّعديل على سمكتين، عُدّلت الأولى لتنمو إلى ضعف الحجم الطّبيعي بسبب خلل هرمون «اللّبتين» المُتحكّم في الشّهيّة، بينما عُدّلت الأخرى لتنمو إلى نحو 1,2 من متوسّط حجمها الطّبيعي مع تناولها نفس الكمّية من الطّعام، وذلك بسبب تعطيل «الميوستاتين» الذي يثبط نموّ العضلات.
مخاوف تقنية، وضوابط أخلاقية
منذ التّوصّل ـ عام 1953ـ للأنموذج الحلزوني لتركيب الدنا (DNA)، تجتاح العالم ثورة بيولوجيّة جزيئيّة هائلة توّجت بمشروع «الجينوم البشري». وأثارت هذه الثّورة إشكاليّات: هل الجنس ضروري للإنجاب؟ - المبيض الصّناعي – تخزين البويضات – استنساخ الثّدييات - أطفال الأنابيب – مصانع لإنتاج الأطفال وفق الطّلب – تحسين نسل البشر- الذّكاء للجميع ـ الشّباب الأبدي – عقول جديدة للشّيوخ – شباب الذّاكرة – السّيطرة على المزاج - السّيطرة على الألم والعقل – اللّعب بالوراثة – هندسة الجينات - جراحة الجينات – صناعة الخلايا الحية وإكثارها الخ.. وهذه القضايا تثير جدلاً أخلاقيّاً واجتماعيّاً وقانونيّا كبيراً.
وجاءت تقنية «كريسبر كاس 9» لتطرح تساؤلات حول فوائدها والعواقب الأخلاقيّة للتّلاعب بالجينومات. وبخاصّة أنّه لا يمكن إدراج الجين المستهدف بسهولة في الخلايا، وعادةً ما يتعيّن نقله باستخدام «المتّجه النّاقل». وأكثر ناقلات العلاج الجيني شيوعًا هي الفيروسات (تدرس إمكانيّة توظيف نواقل أخرى كالخلايا الجذعيّة والجسيمات الشّحميّة) لتعرفها على خلايا معيّنة وتحمل المادّة الجينيّة إلى جينات الخلايا. وتتمّ إزالة الجينات الأصليّة المسبّبة للمرض من الفيروسات، واستبدالها بالجينات اللاّزمة لوقف المرض. لكن قد يرى جهاز المناعة أنّ الفيروسات التي تمّ إدخالها مؤخّرًا متطفّلة ويقوم بمهاجمتها، ممّا قد يسبّب التهابًا، وفي الحالات الشّديدة، فشل العضو. ومن المحتمل أنّه بمجرد إدخالها إلى الجسم، قد تستعيد الفيروسات قدرتها الأصليّة على إحداث المرض. ولأنّ الفيروسات يمكن أن تؤثّر على أكثر من نوع واحد من الخلايا، فمن الممكن إصابة الفيروسات المعدّلة خلايا إضافيّة، وليس الخلايا المستهدفة المُحتوية على جينات محوّرة. ممّا قد يُتلف الخلايا السّليمة، مسبّبةً عللاً أو أمراضًا أخرى كالسّرطان. وإذا تمّ إدخال الجينات الجديدة في البقعة الخطأ في الحمض النّووي الخاصّ بك، فهناك احتمال أن يؤدّي الإدراج إلى تكوين الورم.
وقد يُقطع الحمض النّووي في مواقع تغاير الهدف المقصود. وقد تحدث طفرات أو تعديل غير دقيق «تخريب الجينوم». أو استغلالها في تعديل الصّفات الوراثيّة للإنسان التي ستنتقل للأجيال التّالية (دون موافقتهم). كإجراء تعديلات جينيّة على الأجنة البشريّة والخلايا الإنجابيّة - كالحيوانات المنويّة والبويضات «تعديل الخطّ الجنسي» الذي قد يتحوّل من أداة علاجيّة إلى وسيلة لتعزيز خصائص بشريّة معيّنة «سوبر مان» و «أطفال حسب الطّلب» (التّخليق الجيني Cytogenetical). ففي نوفمبر 2018، أعلن عالِم الفيزياء الحيويّة (سابقًا) في الجامعة الجنوبيّة للعلوم والتّكنولوجيا في «شينزين»: «خه جيان كوى» أنّ فريقه عدّل الحمض النّووي لأجنّة بشريّة، كأوّل تعديل جيني على الأطفال في العالم. وذلك عبر استخدام تقنية «كريسبر- كاس9» لتخليق بنتين توأم «لولو» و«نانا» «معدّلتين وراثيّاً». حيث عدّل الشّيفرة الوراثيّة الخاصّة بالتّوأم لتصبحا مقاومتين لـفيروس HIV المسبّب لمرض الإيدز. عبر توظيف «كريسبر» لتعطيل الجين المنتج للمستقبل البروتيني (5 CCR) . فقد لوحظ أنّ الذين تفتقر بنيتهم الوراثيّة للشّكل الوظيفي لهذا المستقبل يكونون مقاومين بشكل غير اعتيادي لمرض الإيدز.
وقد أُدين العلماء المشاركون في هذا العمل بمن فيهم البروفيسورة «دودنا» التي طارت إلى «هونغ كونغ» للتّحقيق. ومن ثمّ تمّ فصل «جيان كوي» من جامعته، وحُكم عليه بالسّجن ثلاث سنوات، مع غرامة ثلاثة ملايين يوان لممارسته الطبّ دون ترخيص، وانتهاك القواعد الصّينيّة لتقنيات الإنجاب، وتلفيق وثائق المراجعة الأخلاقيّة. وتمّ التّشكيك في ادعائه: (الأجنة المعدّلة وراثيّاً ستحظى بمناعة ضدّ فيروس نقص المناعة). وتقرّر أنّ هذا العمل يمثّل «تجارب غير مسؤولة على البشر، ومن الصّعب التّنبؤ بآثار هذه التّعديلات الجينيّة أو السّيطرة عليها». وحثّت الأكاديميّات البحثيّة على توخي الحذر في متابعة «تعديل الخطّ الجنسي»، و«الحذر لا يعني الحظر». وتوصي بتعديل الخطّ الجنسي فقط على الجينات التي تؤدّي إلى أمراض خطيرة، لعدم وجود بدائل علاجيّة معقولة. مع الحاجة لجمع بيانات حول المخاطر الصّحيّة وفوائدها والإشراف المستمر على التّجارب السّريريّة ومتابعة عائلات المشاركين بعد انتهاء التّجربة لعدّة أجيال لمعرفة التّغيرات المستمرّة في الجينوم بمرور الوقت. والخلاصة : لعلّه بات قريباً ذلك اليوم الذي سيتمّ فيه التّحكّم في الإرث البيولوجي، والطّبيعة الجينيّة وحياكتها، بل السّيطرة على عمل العقول.
الهوامش
(1) عالمة مناعة وعالمة وراثة وأستاذة جامعيّة وعالمة كيمياء حيويّة وعالمة أحياء دقيقة، مديرة وحدة «ماكس بلانك» لعلوم مسبّبات الأمراض بجامعة برلين بألمانيا،
(2) أستاذة الكيمياء وعلم الأحياء الخلوية والجزيئية في قسم الكيمياء والهندسة الكيميائية بجامعة كاليفورنيا في بركلي، الولايات المتحدة
(3) عالم أحياء دقيقة إسباني يعمل أستاذًا بقسم علم وظائف الأعضاء والوراثة والأحياء الدقيقة بجامعة أليكانتي الإسبانية
|