نوافذ

بقلم
د.علي رابحي
فاتحة في فقه الشّريعة الإسلاميّة
 قال اللّه تعالى:﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)، فخلق الإنسان بصفات ومميّزات تحكمه حتّى يكون صالحا للخلافة في الأرض، وهي صفات أرضيّة حيوانيّة، كالأكل والشّرب من أجل الحياة، والجنس من أجل الاستمراريّة، والمشاحنة من أجل التّدافع. وفي مقابل هذه الصّفات هناك صفات الصّلاح للْمَلَإِ الْأَعْلَى بجانب اللّه، كصفة الرّوح التي فيها إضافة إلى اللّه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ (الحجر: 29)، وصفة العقل التي ميّزه اللّه بها عن سائر المخلوقات، وصفة العلم ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾(البقرة: 31)، وصفة الأخلاق والفضائل وهي صفات فطريّة ملائكيّة. والارتقاء في الإنسانيّة يكون بالصّفات النّورانيّة، إلاّ أنّ الصّفات الأرضيّة مطلوبة في إطار الحدود الشّرعيّة. 
والإنسان اجتماعيّ ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ (الزخرف: 32)، واجتماعيّة الإنسان لا شكّ تدخله في علاقات قد تنتج صراعات تتطلّب قواعد وضوابط يرجع إليها للتّحكيم، فيكون الحكم إمّا شرعيّا ثابتا لا يتبدّل، أو عقليّا كالرّياضيات لا تتبدّل، أو عادي كالعادة والتّجربة. ولكلّ ذلك فالقانون الوضعي أو الشّرع السّماوي هو ضرورة لتنظيم العلاقات بين النّاس. فالتّجمعات البدائيّة كانت تعتمد على ما جرى عليه العرف والعادة والحكم بمقتضياتهما، ومع تطوّر البشريّة تطوّر فكرها، فشرّعت وسنّت ما يحقّق الأمن والعدل في المجتمع ويحفظهما، وهذا ما اصطلح على تسميته بالقوانين الوضعيّة. واللّه تعالى لم يترك الإنسان هملا بل أرسل الأنبياء والرّسل بشرائع لتنظيم حياتهم. 
الشّريعة مشترك لغوي ورد فيها عدّة معان، منها:
- اسم للطّريق المستقيم، ومنه قوله تعالى:﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ (الجاثية: 18).
- اسم على مورد الشّاربة، ومورد النّاس للاستقاء، ومورد الإبل إلى الماء الجاري(1)، ثم استعير لكلّ طريقة موضوعة بوضع ثابت من نبيّ من الأنبياء(2).
- الطّريقة الظّاهرة في الدّين، أي ما شرع اللّه لعباده من أحكام الدّين(3)، ومنه قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ  الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: 13). 
واصطلاحا عرفها ابن حزم بأنّها: «ما شرعه اللّه تعالى على لسان نبيّه في الدّيانة، وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السّلام قبله»(4). وقيل: «هي ما شرعه اللّه تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبيّ من الأنبياء(5). أو على الأقل: «كَيْفِيَّةُ اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ مِنْ الصِّيَغِ وَالْأَلْفَاظِ الْمَنْطُوقِ بِهَا»(6) و«اسم للأحكام الجزئيّة التي يتهذّب بها المكلف معاشاً ومعاداً؛ سواء كانت منصوصة من الشّارع، أو راجعة إليه»(7).
قبل الإسلام كانت الشّريعة تأتي لتنظيم حياة قوم من الأمم فحسب، كشريعة موسى وشريعة عيسى عليهما السّلام. أمّا الشّريعة التي جاء بها محمد ﷺ خاتم الأنبياء والرّسل فقد جاءت للعالمين ونسخت ما قبلها من الشّرائع. فالشّرائع كلّها إسلام مصدرها مشكاة واحدة. والتّشريع هو سنّ القوانين، وينقسم إلى تشريع سماوي مستمدّ من الوحي قرآنًا وسنةً وتشريع وضعي نتاج فكر بشري. والشّريعة لفظة عامّة تشمل الأحكام العقديّة كالتّوحيد والأحكام العمليّة من عبادات ومعاملات (الفقه) وأحكام الأخلاق والفضائل كالتّصوّف والآداب. 
فالفقه إذن جزء من الشّريعة يتعلّق بالأحكام العمليّة عبادة ومعاملة؛ فالفقه لغة هو الفهم العميق للأشياء والأمور، فهو تنظيم لحياة الإنسان يرافقه منذ ما قبل وجوده إلى ما بعد وفاته. وفي الاصطلاح الفقه هو «العلم بالأحكام الشّرعيّة العمليّة المستنبطة من أدلّتها التّفصيليّة». 
وهناك تقسيم آخر فيه نظر لأنّه قد يثير شبهات على الإسلام يرى أنّ التّشريع الإسلامي ينقسم إلى تشريع إسلامي إلهي نصوصه قطعيّة ثابتة، وتشريع إسلامي وضعي نتاج اجتهاد بشري. غير أنّ أصحاب هذا الرّأي غاب عنهم أنّ الفقيه لا يعطي رأيا شخصيّا بل حكما شرعيّا مبنيّا على نصوص شرعيّة قطعيّة أو ضنيّة.
مكانة الشّريعة الإسلاميّة في الشّرائع الأخرى:
الجديد هو أنّ الشّريعة الإسلاميّة ناسخة لما قبلها، فكلّ الشّرائع السّماويّة تدعو إلى التّوحيد والفضائل، وتتوحّد في الهدف الذي هو صلاح الإنسان لإعمار الأرض ومجاورة اللّه في الْمَلَإِ الْأَعْلَى. أما الاختلافات فكانت في الفروع بما يناسب فكر كلّ شريعة وزمانها. فنجد مثلا أنّ العبادات كالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ كانت معروفة لدى الشّرائع الأخرى وكان الاختلاف في كيفيّة آدائها فقط.
مصدر الفقه الإسلامي:
من الشّبهات التي يثيرها المستشرقون أنّ الشّريعة الإسلاميّة مجرّد قانون روماني معدّل بما يناسب السّياسة الشّرعيّة للعرب، ويستندون في ذلك إلى بعض الأحكام والجزئيّات مثل «البيّنة على من ادّعى» و«اليمين على من أنكر» وتحديد سنّ الرّشد والبلوغ في مجال القضاء، علاوة على بعض المعاملات التّجاريّة. ويضيفون أنّه بمنطق أنّ الشّريعة الإسلاميّة لاحقة للشّريعة الرّومانيّة، فلا بدّ أنّها استقت منها، وهذا أمر بعيد عن الواقع لأنّ كلّ أحكام الإسلام مستوحاة من الوحي الإلهي ولا علاقة لها بما أنتجه الفكر الإنساني. 
خصائص تميّز الشّريعة الإسلاميّة عن القوانين الوضعيّة:
- ربّانيّة المصدر: وهو الوحي الإلهي المنزّل على سيدنا محمد ﷺ، بالمعنى واللّفظ أي القرآن، وبالمعنى ونعني السّنة. الأمر الذي يجعل المسلم يقدّسها ويلتزم بها عن طيب خاطر.
- الجزاء في الشّريعة الإسلاميّة دنيوي وأخروي، في حين أنّه في الشّرائع الوضعيّة دنيوي لا غير. وقد أقرّ كثير من المذنبين بذنوبهم وطلبوا إقامة الحدّ عليهم خوفا من الجزاء الأخروي.
- عامّة وصالحة لكلّ زمان ومكان: شريعة عالميّة بما أودع اللّه فيها من القواعد العامّة التي يمكن أن تستنبط منها الأحكام لكلّ النّاس في كلّ زمان ومكان.
- تهدف إلى جلب المصالح ودرء المفاسد: والمصلحة نسبيّة لذا وجب الرّجوع فيها إلى الشّرع العادل، والمصالح على أقسام.
شموليّة الشّريعة الإسلاميّة:
 الشّريعة الإسلاميّة شاملة لجميع شؤون الحياة، تهتم بعقيدة الإنسان وتزكية نفسه بالأخلاق والفضائل، وتنظيم صلته بربّه من جهة، وعلاقته بأخيه الإنسان من جهة أخرى. فهي إمّا:
- أحكام عقديّة كالإيمان.
- أحكام عمليّة تتعلّق بأقوال الإنسان وأفعاله.
- أحكام الأخلاق والفضائل كوجوب الصّدق وحفظ الأمانة والكرم...
والأحكام العمليّة تنقسم إلى:
-  العبادات التي تهتم بعلاقة الإنسان بربّه،
-  والمعاملات التي تنظّم علاقة الإنسان بالإنسان في شتّى المجالات ونجد لها مقابل في القوانين الوضعيّة.
وقد اعترف كثير من المستشرقين بأنّ الشّريعة الإسلاميّة غنيّة بالأحكام، وكثير منهم من دعا إلى جعل الشّريعة الإسلاميّة مصدرا من مصادر التّشريع العام في القوانين الدّوليّة.
الهوامش
(1)  ابن منظور «لسان العرب»، م س، 8ج، ص:.175-177.
(2)  أبو البقاء الكفوي، «معجم الكليات-معجم في المصطلحات والفروق اللغوية»، ص/524.
(3)  الرازي، «مختار الصحاح»، م س، ص 163.
(4)  أبو محمد علي ابن حزم «الإحكام في أصول الأحكام»، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت لبنان، ج1، ص46.
(5)  محمد علي التهانوي، «كشاف اصطلاحات الفنون»، م س، ج1 ص:1018.
(6)  أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، «المستصفى»، تحقيق محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط1، 1993م، ج1، ص:186-187.
(7)  أبو البقاء الكفوي، «معجم الكليات-معجم في المصطلحات والفروق اللغوية»، م س، ص/524.