تطوير الذات
بقلم |
![]() |
محمد أمين هبيري |
قانون الفراغ |
منذ القرون الوسطى، ابتكر العلماء والفلاسفة العديد من النّظريّات لفهم التّغيّرات في العالم، سواء على المستوى الجغرافي، أو التّاريخي، أو الفكري. ومن بين هؤلاء العلماء الذين ساهموا في صياغة تلك النظريّات الكبرى، يبرز «ابن خلدون»(1) الذي أسهم في فهم التّاريخ والحضارة بوجه عميق من خلال عمله المعروف «المقدّمة»، والذي يُعتبر أحد أهمّ الأعمال في علم الاجتماع والتّاريخ.
بدايةً، يجدر بنا التّذكير بأنّ مقدمة «ابن خلدون» تعرّضت لقانون الفراغ بصورة ضمنيّة، وهذا ما يمكن أن نلاحظه عند استكشاف فلسفة «ابن خلدون» ونظريّته حول تطوّر الحضارات. فعلى الرّغم من أنّه لم يشِرْ إلى هذا القانون بشكل صريح كما فعل مع قوانين الفكرة والعصبيّة، إلاّ أنّ فهمنا لعمله يظهر أنّ وجود الفراغ كان له تأثير كبير في فكره.
يتجلّى قانون الفراغ في تحليل «ابن خلدون» لتاريخ الحضارات، حيث يؤكّد على أنّ الفراغات التي تتركها الحضارات المتهاوية لا تبقى فارغة لفترات طويلة، بل تمتلئ بسرعة بقوى جديدة. على سبيل المثال، عندما تنهار الدّولة أو الإمبراطوريّة، فإنّ الفراغ الذي تتركه لا يظلّ خاليًا طويلاً، بل تملأه غالباً القوى الجديدة التي تنشأ. وهذا يتناسب مع المفهوم العام لقانون الفراغ، الذي يؤكّد على عدم وجود فراغ حقيقي في الطّبيعة.
ينطبق هذا المبدأ على السّاحة السّياسيّة حيث يرى أنّ انهيار السّلطة في مجتمع ما سيؤدّي إلى ظهور كيانات جديدة تسعى لاحتلال هذه السّلطة، وفي المجال الاقتصادي حيث يعتقد أنّ الفرص الاقتصاديّة الشّاغرة ستستغلّ بواسطة الأفراد أو الجماعات المهتمّة بتحقيق الرّبح. وقس على ذلك في مختلف المجالات الأخرى كالجغرافيا وعالم الأفكار.
الجزء الأول: قانون الفراغ في ذاته
يتكوّن هذا الجزء من عنصرين؛ أساس القانون وخصائصه
العنصر الأول: أساس القانون
يستند قانون الفراغ عند «ابن خلدون» إلى عدّة أسس رئيسيّة تبرز فلسفته الفريدة في فهم التّاريخ وتطوّر الحضارات. أحد هذه الأسس هو «الطّبيعة تأبى الفراغ»، الذي يعكس اعتقاد «ابن خلدون» بأنّ الفراغ في أيّ مجال سيتمّ ملؤه بقوى أوكيانات أخرى موجودة في البيئة.
تثبت قاعدة «دور الفرد في التّاريخ» في فلسفة «ابن خلدون» أنّ التّاريخ يُصنع من خلال تفاعل القوى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة، وأنّ الفرد يكون جزءًا من هذه القوى دون أن يكون له دور بارز في توجيه مسار التّاريخ. وبهذا، يركّز «ابن خلدون» على العوامل الجماعيّة والهيكليّة التي تحدّد السّيرورة التّاريخيّة للمجتمعات. ومن ثم، تبرز «العقلانيّة» ودور العقل في فهم التّاريخ وتحليله. كما يرى أنّ الدّين يلعب دورًا مهمًّا في الحضارة والتّطوّر البشري، لكنّه يرفض ربط الدّين بصورة حصريّة بتوجيه المسار التّاريخي، ممّا يظهر توجّهه نحو فهم ديناميكيّة التّاريخ بعيدًا عن الأفكار الثّابتة والثّبوتيّة. كما تتجلّى «الواقعيّة» في تحليله للتّاريخ، إذ يتجنّب الانجراف إلى المثاليّة أو الأفكار الطّوباويّة، ويقترح دراسة الوقائع كما هي دون تلوين أو تزييف، ممّا يمنح دراسته للتّاريخ شيئًا من العمق والواقعيّة.
العنصر الثّاني: خصائص القانون
يمتاز قانون الفراغ بخصائص مميّزة تجعله قاعدة أساسيّة في فهم الظّواهر الاجتماعيّة والتّاريخيّة والجغرافيّة. تتمثّل هذه الخصائص في الشّموليّة، الدّيناميكيّة، والتّفاعليّة:
1. الشّموليّة: وتنطبق على جميع مجالات الحياة السّياسيّة، والاقتصادية، والاجتماعيّة، والثّقافيّة، والعلميّة، ويمكن رؤية تأثير قانون الفراغ في كلّ منها. ففي المجال الّسياسي، على سبيل المثال، يتسبّب تغيّر نظام الحكم، في إحداث فراغ سياسي تملؤه مجموعات أو أطراف جديدة تسعى إلى السّلطة. وفي المجال الاقتصادي، عند انهيار نظام اقتصادي معين، يحدث فراغ تملؤه فرص ومبادرات اقتصاديّة جديدة.
2. الدّيناميكيّة: إذ أنّ قانون الفراغ ليس قانونًا ثابتًا، بل هو قانون ديناميكي يتغيّر ويتطوّر مع تغيّر الظّروف والسّياقات. فالفراغات التي تتكوّن وتتراكم في المجتمعات لا تبقى ثابتة، بل قد تتلاشى مع حدوث تغييرات في الأوضاع والظّروف. على سبيل المثال، قد تكون هناك فرصة للتّنمية الاقتصاديّة في منطقة ما تعاني من الفراغ الاقتصادي، ولكن مع تحسّن الظّروف الاقتصاديّة ووجود الاستثمارات، يمكن أن يمتلئ هذا الفراغ تدريجيّاً بالأنشطة الاقتصاديّة والمشاريع الجديدة.
3. التفاعليّة: يتفاعل قانون الفراغ مع القوانين الأخرى التي تحكم العالم، مثل قانون السّببيّة وقانون التّدرّج. فالفراغ الذي ينشأ في العالم الحقيقي يكون نتيجة لأحداث وعمليّات متعدّدة، وهذه العمليّات قد تكون مدفوعة بقوانين السّببيّة التي تحدّد التّفاعلات بين الأحداث والظّواهر. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يؤثّر قانون الفراغ على تطوّر الثّقافة والفكر، حيث يمكن أن يؤدّي وجود فراغ في المعرفة أو الفكر إلى ظهور أفكار جديدة تملأ هذا الفراغ وتتفاعل مع الثّقافة والفكر المحيط بها.
بهذه الخصائص الثّلاث، يظهر أنّ قانون الفراغ ليس مجرّد مبدإ نظريّ، بل هو أداة تحليليّة قويّة تساهم في فهم العديد من الظّواهر والتّغيرات في العالم، وتساهم في تفسير العلاقات الاجتماعيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة التي تشكّل حياتنا اليوميّة وتؤثّر فيها .
الجزء الثاني: قانون الفراغ في موضوعه
يمكن تقسيم الجزء الثّاني إلى عنصرين: مستلزمات القانون وغياب القانون
العنصر الأول: مستلزمات القانون
تمثّل مستلزمات القانون الأركان الأساسيّة التي يحتاجها هذا القانون للتّطبيق والتّأثير في العالم. وتتكوّن من وجود فراغ، ووجود كيانات تسعى لملء الفراغ، ووجود تفاعل بين تلك الكيانات.
1. وجود فراغ: يعدّ وجود فراغ في المكان أو الزّمان أو الأفكار من المستلزمات الأساسيّة لتطبيق قانون الفراغ. فالفراغ يمثّل المساحة الفارغة أو الفرصة الشّاغرة التي يمكن ملؤها، وبدون وجود هذا الفراغ، لا يمكن للقانون أن ينطبق. يمكن أن يكون الفراغ متعلّقًا بمجال جغرافي، حيث يكون هناك منطقة خالية من السّكان أو النّشاط الاقتصادي، أو متعلّقًا بالزّمن، حيث يحدث تغيير في الأحداث يترك مساحة لظهور أمور جديدة، أو متعلّقًا بالأفكار، حيث يتمّ رفض فكرة أو مبدأ معين أو تجاهلها.
2. وجود كيانات تسعى لملء الفراغ: بمجرد وجود الفراغ، يأتي دور الكيانات أو الأطراف التي تسعى لملئه بواسطة النّشاط أو العمل. هذه الكيانات يمكن أن تكون أفرادًا، أومجموعات، أو مؤسسات جديدة تنشأ لتغطّي الحاجات أو المتطلّبات التي تكوّنت نتيجة للفراغ. على سبيل المثال، في حالة الفراغ الاقتصادي في منطقة معيّنة، قد تتنافس الشّركات ورجال الأعمال على استغلال هذا الفراغ وتقديم الخدمات والسّلع لسدّ الحاجة القائمة.
3. وجود تفاعل بين الكيانات: يشير هذا المستلزم إلى أنّ الكيانات التي تسعى لملء الفراغ يجب أن تتفاعل مع بعضها البعض ومع البيئة المحيطة بها. هذا التّفاعل يسهم في تحديد السّبل التي يمكن بها ملء الفراغ، ويحدّد أيضًا طبيعة العلاقات بين الكيانات وتأثيرها على بقيّة البيئة. يمكن أن يكون هذا التّفاعل إيجابيًّا حيث تتعاون الكيانات لتحقيق أهداف مشتركة، أو يمكن أن يكون سلبيًّا حيث تتنافس أو تتصارع على استحواذ الفراغ والسّيطرة عليه.
تعتبر هذه المستلزمات أساسيّة لتطبيق قانون الفراغ في أيّ سياق، حيث يتوجب وجود فراغ، وكيانات تسعى لملئه، وتفاعل بين هذه الكيانات لتحقيق النّتائج المرجوّة أو الحدّ من التّأثيرات السّلبيّة.
العنصر الثّاني: في غياب القانون
في غياب قانون ينظم كيفيّة ملء الفراغ، يتّجه العالم نحو الفوضى والصّراعات. في هذا السّياق، يصبح التّنافس على ملء الفراغ النّاتج عن تغيّر الظّروف أمرًا حتميًّا، وهذا يمكن أن يؤدّي إلى نتائج غير متوقّعة ومتنازع عليها. تصبح الكيانات، سواء كانت دولًا أو جماعات أو أفرادًا، في سباق محموم لاستغلال الفرص وتحقيق مصالحها الخاصّة، ممّا يؤدي في كثير من الأحيان إلى الصّراعات والنزاعات.
على سبيل المثال، بعد وفاة الرّسول محمد ﷺ ، نشأ فراغ سياسي في العالم الإسلامي. استغلت العديد من الكيانات هذا الفراغ لتحقيق مصالحها السّياسيّة، ممّا أدّى إلى ظهور العديد من الدّول الإسلاميّة والصّراعات بينها لتحديد المناطق التي تسيطر عليها. ما دفعنا أن نعيش في حالة الطوارئ لمدّة أربعة عشر قرنا متواصلة. وبنفس الطّريقة، بعد الثّورة الصّناعيّة، نشأ فراغ اقتصادي في العالم، حيث تنافست الدّول على استغلال هذه الفرصة لتعزيز قوّتها الاقتصاديّة وسطوتها على السّوق العالميّة.
من الواضح أنّ تطبيق قانون الفراغ يمكن أن يلاحظ في العديد من المجالات التّاريخيّة والحضاريّة. على سبيل المثال، في عصرنا الحالي، بعد الثّورة الرّقميّة، نشأ فراغ ثقافي في العالم، حيث أصبحت التّكنولوجيا ووسائل الاتصال تلعب دورًا مهمًّا في حياة النّاس وتفكيرهم. استغلّت العديد من الكيانات هذا الفراغ لتعزيز أفكارها وقيمها، ممّا أدى إلى تغييرات كبيرة في المجتمعات والثّقافات حول العالم.
ختاما، يعتبر قانون الفراغ أحد القوانين الأساسيّة التي تحكم التّطوّر التّاريخي والحضاري. فهو يعكس الطّبيعة الدّيناميكيّة للعالم والتّفاعلات المستمرّة بين الكيانات والظّروف المحيطة بها. ومن خلال فهم هذا القانون، يمكننا تفسير العديد من الأحداث التّاريخيّة والتّغيّرات الاجتماعيّة والثّقافيّة التي شهدتها البشريّة على مرّ العصور.
الهوامش
(1) المعروف أيضًا بعبد الرّحمان بن محمد بن خلدون، والذي عاش في القرن الرّابع عشر الميلادي |