نقاط على الحروف

بقلم
د.عبدالسلام الحمدي
قضايا الخطاب الدّينيّ المعاصر من خلال خطب الشّيخ محمّد الأخوة الجمعيّة (2-2)
المحور الثّالث: 

المفاهيم المؤسّسة لخطاب الشّيخ الأخوة في قضايا خطبه الجمعيّة

مرادنا بالمفاهيم المؤسّسة للخطاب الشّبكة المفاهيميّة الّتي ينبني عليها فتوجّهه شكلا ومضمونا، أي تحمل منجِزه على استعمال ما يناسبها من الأعمال اللّغويّة والصّيغ التّركيبيّة، وتدفعه إلى إثارة قضايا دون أخرى. وقد يطفو على سطح الخطاب بعضها بوعي من المتكلّم أو بغير وعي، ويبقى بعضها كامنا لكن ينعكس في ما يتخلّل النّسيج اللّغويّ من المفردات والمركّبات والتّقريريّات والإنشائيّات، وهو ما يقف عليه النّاظر في خطب الشّيخ الأخوة الجمعيّة، فليس يظهر للعيان كلّ ما يتأسّس عليه الخطاب فيها من المفاهيم، وإنّما يُحوِج استجلاء بعضه إلى تدبّر المستوى التّركيبيّ من المنجَز الخطابيّ لرصد المؤشّرات الّتي يمكن الاعتماد عليها في ذلك السّبيل.

 1. في قضايا الاعتقادات

يقوم هذا الضّرب من الخطاب على أربع ثنائيّات من المفاهيم تؤطّر خطب الشّيخ الأخوة الجمعيّة في مستوى المضامين وتحدّد اختياراته التّركيبيّة:* الأولى ثنائيّة الإسلام والجاهليّة، على اعتبار أنّ العنصر الأوّل منها في حكم المنشود بينما الثّاني هو الموجود، وباستخدام مصطلح «الجاهليّة»(61)  ما انفكّ الخطيب يعبّر عن المفارقة بين مبادئ الرّسالة المحمّديّة وواقع المنتسبين إلى الاجتماع الإسلاميّ.* الثّانية ثنائيّة الهدي والضّلال، فأمّا العنصر الأوّل منها فهو المرغوب فيه، وأمّا العنصر الثّاني فالمعيش المرغوب عنه، ويعكس تكرار مشتقّات الجذر (ض ل ل)(62)  ما ينتاب الخطيب من الشّعور بعمق الهوّة بين المفترَض كونه على أرضيّة الاجتماع والمترائي له في أحوال النّاس.* الثّالثة ثنائيّة الحقّ والباطل(63)، ويفصل طرفاها ذهنيّا واجتماعيّا بين فريقين من الخلق، على اعتبار أنّهما فسطاطان متضادّان متنافران لا يلتقيان.* الرّابعة ثنائيّة الإيمان والكفر(64)، ولا تختلف في أبعادها الدّلاليّة وتبعاتها الاجتماعيّة عن الثّنائيّة الثّالثة.ومن الجليّ في الثّنائيّات المفاهيميّة الأربع كونها أزواجا تقابليّة حدّيّة تفصل بين عالَمين افتراضيّين، فأمّا العالَم الأوّل فذات جمعيّة ينتسب إليها الخطيب بوعي أو بغير وعي، وهي الّتي تمثّل رباعيّة الإسلام والهدي والحقّ والإيمان، وتنطق باسم هذه الرّباعيّة على لسان المتبوّئ لمنبر الجمعة يخطب في المصلّين. وأمّا العالَم الثّاني فالآخر المشار إليه بالعناصر الثّواني من تلك الثّنائيّات، وهو المنعوت بصفات الجاهليّة والضّلال والباطل والكفر. ويبعث استناد الخطاب إلى هذه الخلفيّة من المقابلات التّصنيفيّة على التّساؤل عن مدى صلاحيّة تجلّياتها من المفاهيم للاستخدام الخِطابيّ ونجاعتها في التّعبير عن جوهر الرّسالة المحمّديّة وقيمها العقائديّة راهنا. ويستمدّ هذا التّساؤل وجاهته من فرضيّة خلاصتها أنّ القيم العقائديّة الإسلاميّة بنيات ثابتة لكن لا بدّ أن تتشكّل في كلّ سياق زمكانيّ على مقتضاه

2. في قضايا العبادات

يتأسّس هذا النّوع من الخطاب على مفهوميْ الشّرع والشّريعة، فإضافة إلى تواتر المصطلحين الدّالّ عليهما ما برح ذانك المفهومان ينعكسان في شبكة من المشتقّات تنتمي إلى الجهاز الاصطلاحيّ الخاصّ بعلم الفقه، ومنها مشتقّات الجذور (ح ك م)(65)  و(ف ر ض)(66)  و(و ج ب)(67)  و( ح ل ل)(68)  و(ح ر م) (69)  ... وتنجلي هذه المشتقّات عن احتكام الشّيخ الأخوة في تناول قضايا العبادات إلى المنطق الفقهيّ، وهو منطق يحصر النّظر في زاوية واحدة من أبعاد تلك القضايا، إذ لا يغادر مربّع أحكامها الشّرعيّة، بل يرتهن له بنحو ينجرّ عنه، في مستوى الخطاب المنبريّ، تجريد الشّعائر التّعبّديّة من مقاصدها الرّوحيّة والاجتماعيّة، وتحويلها إلى شكليات بلا معنى سوى كونها استجابة لإرادة إلهيّة.لا خلاف في ضرورة المنطق الفقهيّ لمعالجة قضايا العبادات، إذ ليس بدّ من الانضباط إلى الأحكام الشّرعيّة على صعيد إجراء الشّعائر التّعبّديّة، بيد أنّ الارتهان لذلك المنطق وحده، في تمثّلها، دون انفتاح على آفاق شارعة إلى مناظير متنوّعة حائلٌ يمنع من استحضار خلفيّاتها المقاصديّة الرّوحيّة والوظائف الاجتماعيّة والحضاريّة المنوطة بها، وهو ما يظهر بجلاء لا غبار عليه في خطب الشّيخ الأخوة الجمعيّة، فقلّما تطرّق إلى فوائد شعيرة من الشّعائر في تحقيق قيم الرّسالة المحمّديّة من قبيل التّآخي والتّضامن والتّراحم ... وكثُر من انساق إلى تفصيل القول في حكم يتعلّق بجزئيّة من إحدى تلك الشّعائر، ناهيك أنّه خصّ مسألة الإقامة للصّلاة، مثلا، بواحدة من خطبه، ليؤكّد أنّها من السّنن النّبويّة الواجب اتّباعها(70) .ومن شأن هذا المنحى في التّطرّق إلى قضايا العبادات تضييق مفهوم الشّريعة وطمس روحها، فتتراءى لمتلقّي الخطبة الجمعيّة منظومة من الأحكام الشّكليّة ليس عليهم سوى تنزيلها بحذافيرها في أدائهم للشّعائر، ويستولي عليهم الذّهول عن المراد الإلهيّ من مفاعيلها في علاقاتهم ومعاملاتهم، وهكذا يستقرّ في لاوعيهم انفصام العرى بينها وبين سائر أوجه حياتهم، وهو ممّا يفسّر بعض التّناقضات السّلوكيّة في المجتمعات الإسلاميّة، كألاّ تنعكس مقاصد الصّلاة، مثلا، في أخلاق المسلم داخل الأسواق، حيث يُفترَض أن تردعه المواظبة على أداء تلك الشّعيرة في أوقاتها عن الغشّ عند البيع والتّوسّل بالطّرق غير المشروعة إلى ضمان الرّبح، وأشباه ذلك ممّا تنعدم الإشارة إليه، أو يكاد، في خطب الشّيخ الأخوة

.3. في قضايا المعاملات

قوام خطب الشّيخ الأخوة في قضايا المعاملات على مفهوم «الحاكميّة الإلهيّة» المعادل النّقيض لمفهوم «الحاكميّة البشريّة»، وجوهره أنّ الله هو الحاكم الوحيد المتفرّد بالتّشريع لا شريك له فيه(71) ، ولئن لم يَرد، ضمن تلك الخطب، قرينه الاصطلاحيّ اللّفظيّ، فإنّه انعكس أدراج أنسجتها اللّغويّة في غير صيغة تركيبيّة، ومن أجلى مظاهره قول مُلقِيها بمناسبة استدلاله على وجوب حجاب المرأة: «فهذا حكم الله ودينه وشرعه»(72) ، وبيانه في سياق آخر أنّ «معرفة أحكام الزّواج والطّلاق والبيع والشّراء والإجارة والكراء وغيرها، كلّ ذلك محتاج إليه كلّ مكلَّف لأنّه ليس لأحد أن يقدم على فعل شيء حتّى يعلم حكم الله فيه»(73) ، ونِسبتُه السّلطان، بشكل حصريّ، إلى الذّات الإلهيّة قائلا إنّ الله «وحده النّافع الضّارّ، وليس لأحد غيره سلطة حقيقيّة»(74)  ...لا يسلم استناد الخطاب الدّينيّ إلى مفهوم «الحاكميّة الإلهيّة»، على نهج خطب الشّيخ الأخوة الجمعيّة، من التباس قد يورّث المخاطَبين عدم التّمييز بين الشّريعة بصفتها معطى إلهيّا يكاد يكون افتراضيّا والفقه باعتباره اجتهادا بشريّا في فهمها، ذلك أنّ الخطيب إذ يحدّد ما يراه حكما شرعيّا يضع نفسه في موقف النّاطق باسم «الشّارع»، وليس للمتلقّي، في مثل هذه الوضعيّة الخِطابيّة، سوى التّسليم والإذعان، إذ قد يتملّكه اعتقادُ أنّ مخالفة ملفوظ الإمام من موقعه المنبريّ اعتراض على حكم الله، وهو ما يَرسخ في الوعي الجمعيّ بتواتر أمثال الصّيغ التّركيبيّة المذكورة أعلاه، ولا تخفى آثاره في مستوى الاجتماع، حيث يمكن أن يستحيل المشتغل بالأحكام الشّرعيّة ذا سلطة دنيويّة أو خادما لسلطة من هذا النّوع.وتتعاظم خطورة مفهوم الحاكميّة إن يقترن استحضاره، في المنجَز الخِطابيّ، باستخدام مفاهيم كثنائيّة الصّلاح والفساد للفصل بين ركب الخطيب ومخالفيه من الأفراد والجماعات، وليست خطب الشّيخ الأخوة الجمعيّة بسالمة من هذه النّزعة، بل كثيرا ما تتضمّن ربط صفة الفساد بالآراء الّتي لا تنسجم مع رؤيته للدّين ومسلكه في التّديّن(75) ، بل قد ينساق أحيانا إلى استعمال ضرب من الصّيغ التّركيبيّة الّتي تصبّ في مجرى التّكفير، متوسّلا بتأويل بعض الآي على ما يناسب غرضه، ويُغنِي عن التّوسّع في الاستدلال إيراد ما ارتآه بناء على تأويله للآية الخامسة من سورة المجادلة، حيث اتّخذها مطيّة لإطلاق حكمه على الماسكين بزمام المجتمع من النّافذين في تونس بعد استقلالها، إذ يقول:«ترشد الآية الكريمة إلى أنّ من حاد الله، أي تجاوز ما حدّده بأن غيّر وبدّل حكما من أحكام الدّين الّتي جاءت في القرآن أو السّنّة أو ما أجمع عليه المسلمون فإنّه هالك ذليل، وإنّه في صفّ الكافرين المارقين عن الدّين الّذين لهم عذاب مذلّ مهين»(76)

.المحور الرّابع: استراتيجيّات الشّيخ الأخوة الخطابيّة

الاستراتيجيّة الخطابيّة هي الخطّة الّتي يعتمدها المتكلّم في خطابه مستثمرا الإمكانات اللّغويّة والحيثيّات الميتالغويّة الّتي يتيحها سياق تكلّمه، ومبناها على افتراضات سابقة تنعكس في منجزاته اللّسانيّة وحركاته الجسديّة، ويستند في بنائها إلى معايير سياقيّة، وأهمّ هذه المعايير ثلاثة: أوّلا العلاقة بين المخاطِب والمخاطَب في بعديْها الاجتماعيّ والأخلاقيّ، إذ تفرض تلك العلاقة استراتيجيّة خطابيّة تضامنيّة أو استراتيجيّة خطابيّة توجيهيّة. وكيفيّة استعمال اللّغة في المنجَز الخطابيّ ثانيا، ويضع هذا المعيارُ المتكلّم إزاء خياريْن من الاستراتيجيّات، أحدهما الخيار التّصريحيّ، والآخر الخيار التّلميحيّ. وثالثا هدف الخطاب على صعيد التّلقّي، وقد يستوجب استراتيجيّة حجاجيّة إقناعيّة. فأمّا الاستراتيجيّة التّضامنيّة فأساسها مبدأ التّأدّب والتّخلّق تقرّبا إلى المتلقّي، ومن وسائل التّقرّب اللّغويّة تسمية المخاطَب عند توجيه الكلام إليه، وتتفاوت القيمة الاعتباريّة فيها بين استعمال الاسم واستخدام الكنية واعتماد اللّقب، فكلّ وجه من هذه الثّلاثيّة يعبّر عن حدّ في الفعل التّضامنيّ. وقد يُتوسَّل في هذا الفعل بألفاظ التّهنئة والتّأييد(77)وصيغ التّصغير(78)والعناصر الإشاريّة(79)والطّرفة وغيرها. ومن غايات هذه الاستراتيجيّة تأسيس علاقة أفقيّة ودّيّة أو كسب الولاء أو توفير المناخ المناسب لعمليّة التّواصل. وأمّا الاستراتيجيّة التّوجيهيّة فعمادها الضّغط على المتلقّي لدفعه في اتّجاه المراد، وهي تُتَوخَّى في العلاقات العموديّة المؤسّسة على سلطة المتكلّم الرّمزيّة أو المادّيّة، ومن أدوات الضّغط اللّغويّة ما يُسمَّى في المقاربة التّداوليّة بأفعال الكلام(80)، وتهدف هذه الاستراتيجيّة إلى حمل المتلقّي على فعل أو سلوك من المرغوب فيه لدى المتكلّم.وأمّا الاستراتيجيّة التّلميحيّة فقوامها التّعبير عن القصد بنحو غير مباشر تُستثمَر فيه عناصر سياقيّة من المعلوم لدى المتكلّم والمخاطَب كليهما، وتفرض هذا المنحى من الخطاب دواع من حيثيّاته قد تكون إكراهات اجتماعيّة أو ضوابط أخلاقيّة. ومن آليّات التّلميح صيغٌ تركيبيّةٌ تفيد معاني مثل التّهكّم والسّخرية والاستهزاء، وصورٌ بلاغيّةٌ كالتّشبيه والاستعارة والكناية. وأمّا الاستراتيجيّة الحجاجيّة الإقناعيّة فعمدتها التّوسّل بالحجاج لإحداث التّغيير المرجوّ في ما عليه المتلقّي من الموقف الفكريّ أو العاطفيّ أو السّلوكيّ، ومن المعوَّل عليه في الحجاج البراهين المنطقيّة والشّواهد القوليّة والأدلّة العينيّة والمعطيات الإحصائيّة وسائر أنواع الحجج الواقعيّة والذّهنيّة واللّغويّة.كلّ هذه الاستراتيجيّات متوخّاة في خطب الشّيخ الأخوة الجمعيّة، لكن بدرجات متفاوتة، فقلّما لجأ الخطيب إلى الاستراتيجيّة التّلميحيّة مثلا، وإنّما الغالب على منجَزاته الخطابيّة الاستراتيجيّةُ التّصريحيّةُ الّتي كلّفته العزل من المنبر وإنهاء مهمّته بصفته خطيب الجمعة، إذ أظهر في آخر خطبة ألقاها، بشكل لا غبار عليه، موقفه المناهض للسّلطة. وقد اعتمد أحيانا الاستراتيجيّة التّضامنيّة مستعملا غير وسيلة من أدواتها تمدّ جسور التّواصل نفسيّا بينه وبين مخاطَبيه من المصلّين، وأكثر الوسائل استخداما في تقرّبه إليهم أشكال مختلفة من صيغ النّداء المفيدة للتّودّد(81) وضمير المتكلّم الجمع(82) ، بيد أنّ هذه الاستراتيجيّة لم تكن من العناصر البنيويّة في خطابه المنبريّ.إنّما ارتهن الشّيخ الأخوة للاستراتيجيّة التّوجيهيّة، فقد التزمها إلى حدّ واسم لخطابه برمّته، وأجلى مظهر لذلك أنّه ما برح يستعمل ضمير المخاطَب الجمع (أنتم)(83)على نحو يُشعِر بكونه أرفع مقاما عند الخالق من سائر المصلّين، إذ يوجّه كلامه إليهم من موقع المتعالي عليهم، وسواء أكان مسلكه الخطابيّ هذا صادرا عن وعي منه أم ناتجا عن عدم إدراك، ومن الطّبيعيّ أن يقترن بتواتر صيغتين إنشائيّتين تفيدان الطّلب على وجه الاستعلاء، ألا وهما الأمر(84)والنّهي(85)، زيادة على صيغ نداء تباعد وجدانيّا بين الخطيب ومتلقّي خطبه أي تنشئ مسافات نفسيّة فاصلة، ومن تلك الصّيغ الجملة «عباد الله»، ولا تضاهيها صيغة أخرى في نسق اطّرادها على لسان الشّيخ، وغنيّ عن البيان خلوّها من كلّ ما يمتّ بصلة إلى دلالة التّقرّب

.خاتمة

أوقفنا النّظر في خطب الشّيخ الأخوة الجمعيّة على عوامل من بنية الخطاب الدّينيّ المعاصر تُضعِف فاعليّته، وأوضحُها للعيان تركيزه على قضايا جزئيّة يعزّ حسمها ما لم تُعالَج إشكالات منهجيّة تتعلّق بكيفيّة التّفاعل مع الوحي الآن وهنا، وتُحوِج معالجة هذه الإشكالات إلى إعادة تشكيل الموروث من تمثّلات الأسلاف لطبيعة القرآن الكريم، إذ الظّاهر أنّ القوالب المتقادمة لتلك التّمثّلات باتت، في عصرنا، غير مثمرة معرفيّا، فما عاد يُجْدِي، في أيّ مسعى لبناء منهجيّةِ تأويلٍ تجيب عن تساؤلات المسلم اليوم، نعتُ الكلام الإلهيّ بالقِدَمِ أو وصفُه بكونه مخلوقا، فهذا الوصف وذاك النّعت قالبان تبسيطيّان لا يستوعبان كلّ أبعاد الرّسالة المحمّديّة في ظلّ سياقِ تلقٍّ مثخن بالتّساؤلات الحارقة.قد يساعد التّساؤل مجدّدا - لكن بمنحى غير تقليديّ - عن طبيعة القرآن في تحيين منهجيّة تلقّيه وتكييف الخطاب الدّينيّ تبعا لذلك حتّى يستعيد فاعليّته، وهو ما يعني أنّ إزالة عناصر القصور البنيويّة في هذا الخطاب لا تَنْجُزُ بتعديلات شكليّة أو تغييرات سطحيّة، وإنّما تستدعي إعادة ترتيب ما وراءه من منظورنا للإسلام برمّته في ضوء التّشكّلات الآنيّة للقيم الإنسانيّة والتّحوّلات الجوهريّة الّتي طرأت على نظرة المخلوق الآدميّ إلى ذاته والكون، ولا تتحقّق هذه المهمّة إنْ يُكتَفَ بالقول إنّ في الدّين تنصيصا على تلك القيم، بل يستوجب الأمر تفعيل كلّ قيمة منها في الخطاب الدّينيّ وفق المتطلّبات السّياقيّة الظّرفيّة، وأظهرُ ما يمكن أن يُضرَب به المثل، في هذا الإطار، قيمة الجهاد، فكما يُفَعَّلُ في حالة الحرب بُعْدُها المصطلح على الإشارة إليه بالمركّب النّعتيّ «الجهاد الأصغر»، يمكن أن تُسلَّط الأضواء، عند استشعار الانحطاط الأخلاقيّ أو اشتداد الأزمة الاقتصاديّة، على مسمّى «الجهاد الأكبر» من أبعادها...إن ارتهان الخطاب الدّينيّ للقضايا الجزئيّة شاغل عن القيم الجوهريّة الكلّيّة الّتي بشّرت بها الرّسالة المحمّديّة، كالحرّيّة والعدل والكرامة ...، وسيظلّ مفارقا للسّياق الحضاريّ الرّاهن مادام منشغلا عنها غير ملتفت إليها، فهي عماد الدّين ومناط الاعتقادات والعبادات والمعاملات، ومازالت مثارا لأسئلة لا مناص من مواجهتها لمن يروم إعادة تأسيس التّديّن على قواعد متينة، ولعلّ جماع تلك الأسئلة في الصّيغة الاستفهاميّة الآتية: على أيّ أساس ينبغي أن تتشكّل المنظومة القيميّة في التّديّن الإسلاميّ الرّاهن؟(86)  ويستمدّ هذا الاستفهام وجاهته من فرضيّة راجحة في تقديرنا، وخلاصتها أنّه لئن تكن القيم الإسلاميّة ثابتة مطلقة فإنّ منظومتها لا بدّ أن تتبدّل مع تدرّج الإنسانيّة في مراقي الإدراك.

لا يمكن أن يكتسب الخطاب الدّينيّ النّجاعة المرجوّة إنْ لم يتمثّل منتِجُه القيم الإسلاميّة على نحو يجيب عمّا يتعلّق بها من أسئلة الحاضر، وهو ما يستلزم أيضا إعادة النّظر في شبكة المفاهيم الّتي يتأسّس عليها، لكونها منافية لضرورات الاجتماع المعاصر، فلا بدّ من تكييفها على مقتضى العصر أو إنتاج شبكة أخرى بالاستناد إلى نصّ الوحي ذاته، لأنّ هذا النّصّ قابل لأن تُستنبَط منه منظومات مفهوميّة مختلفة ومتنوّعة(87) ، وفي هذا الإطار يمكن الاهتمام بمفاهيم عمليّة من قبيل «الاختلاف» و»التّدافع» و»التّقوى»، مثلا لا حصرا، بدل التّركيز على المفاهيم الحدّيّة (الكفر والإيمان، الهدى والضّلال، الحقّ والباطل ...) الّتي مازالت تداعيات الارتهان إليها مستمرّة حتّى اليوم، وتتجلّى في مختلف أوجه الصّراعات، فإذا كانت مركزة هذه المفاهيم هدّامة فإنّ الاعتناء بتلك بنّاء لما فيه من مدّ جسور التّواصل مع المختلفين.

الهوامش

(61)  م.ن، ص41، 42.

(62) م.ن، ص41، 42.

(63) م.ن، ص46.

(64) م.ن، ص46.

(65) أحكام (م.ن، ص58، 79، 80) الأحكام (م.ن، ص80) ...

(66) فَرَضَ (م.ن، ص70) فرْض (م.ن، ص70) يفرض (م.ن، ص70) الفرائض (م.ن، ص72) الفرض (م.ن، ص74، 80) فريضة (م.ن، ص76) الفريضة (م.ن، ص76) فرائض (م.ن، ص83) ...

(67) الواجبات (م.ن، ص51) وجوب (م.ن، ص52، 61) واجب (م.ن، ص52) أوجب (م.ن، ص52، 61، 83) الواجب (م.ن، ص58، 63، 71، 73) وجب (م.ن، ص58، 75) لم يوجبْ (م.ن، ص61) يجب (م.ن، ص62، 71، 74، 76) موجبات (م.ن، ص66) تجب (م.ن، ص75) ...

(68) حلال (م.ن، ص74) الحلال (م.ن، ص76) ... 

(69)حرام (م.ن، ص73، 74) المحرَّم (م.ن، ص76) تحريم (م.ن، ص77) ...

(70) م.ن، صص58-60.

(71) تُنظَر السّياقات الظّرفيّة لصياغة هذا المفهوم وتطويره في: معلوم، حسين، الإسلام والسّياسة قراءة نقديّة .. في مفهوم الحاكميّة، مركز فجر للدّراسات الاستراتيجيّة، مصر، ط2، 2018، صص54-60.

(72) محمّد العزيز السّاحلي ومحمّد بلغيث، م.س، ص145.

(73)محمّد العزيز السّاحلي ومحمّد بلغيث، م.ن، ص161.

(74) م.ن، ص215.

 (75) يُنظَر مثلا سياق قوله: «هذا دين الله وشرع محمّد رسول الله وملاك الخلُق العظيم، وما سواه فساد في الأرض ...» (م.ن، ص142).

(76) م.ن، ص131.

(77)  هنيئا، مباركا ...

(78) بنيّ، بنيّتي ...

(79)ضمير «نحن» المدرِج لذات المخاطِب الفرديّة في ذات المخاطَب الجمعيّة أو ضمير «أنتم» الفاصل بينهما ...

(80) المقصود بها الإنشائيّات من أمر ونهي ووعد ووعيد وتحذير وإغراء واستفهام ...

(81)«يا إخواني» (محمّد العزيز السّاحلي ومحمّد بلغيث، م.س، ص39، 43 ...)، «يا أخي» (محمّد العزيز السّاحلي ومحمّد بلغيث، م.ن، ص41 ...)، «يا أخي المسلم» (م.ن، ث41، 51 ...)، «إخواني» (م.ن، ص48، 230، 235 ...)، «إخواني الصّائمين» (م.ن، ص81) «إخواني المهتدين» (م.ن، ص124) ...

(82) «فما بالنا اليوم نريد الرّجوع إلى سيرة الضّلال ونبتعد عن هدي الدّيّان» (م.ن، ص42). «نتنكّر لديننا ونريد تغيير شرعنا فنضيع في متاهات عصرنا» (م.ن، ص43) «إنّ لله علينا فرائض أوجبها علينا لصلاحنا وإسعادنا ولا يناله شيء من أعمالنا» (م.ن، ص83) «هذه الشّفاعة الّتي نرجوها من سيّدنا محمّد – ص – هي ما وعدنا به مكافأة لنا على عملنا ...» (م.ن، ص127) «وصلنا في حال هيّن يشبه تماما حال الجاهليّة الأولى ...» (م.ن، ص132) «إنّ الله الكريم سينصرنا ويأخذ بأيدينا إن كنّا دؤوبين متناصرين على الحقّ» (م.ن، ص221) «كما يتبع هذا أن نكون في عملنا وقيامنا بواجبنا لا نرعى إلاّ الله ولا نخشى فيه تعالى لومة لائم» (م.ن، ص230) «فما أحرانا أن نقتبس من مشكاتها بصيصا من نورها ...» (م.ن، ص239) ...

(83)مثلا: «إنّ ذلكم سبب نجاتكم ودخولكم تحت غفران ربّكم» (م.ن، ص54) «فإنّ رسولكم الأكرم (م.ن، ص89) «فها أنّ الله الكريم يخاطبكم بعدما أمركم بالصّيام» (م.ن، ص93) «بعدما أدّبكم الله الكريم بآداب تحتاجونها وفضائل وكمالات تلمسون حسن نتاجها، علّمكم كيف تتأدّبون ...» (م.ن، ص98) «من رعاية الله بكم أن جعل لكم هذا البيت قبلتكم، تتوجّهون إليه في صلاتكم ...» (م.ن، ص100) 

(84) مثلا: «استغفروا (...) أكثروا (...) اقتدوا» (م.ن، ص54) «ابتعدوا (...) اكرعوا» (م.ن، ص55) «استديموا» (م.ن، ص56) «عليكم بتعجيل الفطر ...» (م.ن، ص77) «تنبّهوا» (م.ن، ص81) «فعليكم بالقيام بها» (م.ن، ص89) «راعوها حقّ رعايتها» (م.ن، ص92) «اعملوا (...) تمسّكوا» (م.ن، ص132، 211) «عليكم بالإحسان» (م.ن، ص205) «ارحموا (...) اشكروا» (م.ن، ص210) «توكّلوا (...) اتّبعوا» (م.ن، ص211) «اخشوا» (م.ن، ص215) «اعدلوا (...) خذوا (...) أبرِزوا» (م.ن، ص224) «اجتهدوا» (م.ن، ص239) ...

(85) مثلا: «لا تتعدّوها، ولا تبدّلوها» (م.ن، ص92) «لا تفرّطوا» (م.ن، ص132) «لا تيأسوا» (م.ن، ص210) «لا تخشوا» (م.ن، ص215) ...

(86) بعبارة أخرى: إلى أيّة منظومة قيميّة يُحْوِجُ السّياق الحضاريّ الحاليّ؟ هل يُحْوِجُ إلى نموذج قائم على قيمة العدل؟ بمعنى أن تتبوّأ هذه القيمة، الآن وهنا، منزلة النّواة الّتي تلقي بظلالها على سائر القيم، أو يُحوِج إلى نموذج قوامه قيمة الحرّيّة فتتحدّد بشروطها دلالات الشّبكة القيميّة كلّها؟ أو إلى نموذج مركّب منهما؟ ...

(87) نرى أنّ صلاحيّة القرآن الكريم لكلّ زمان ومكان تتجسّد في مستوى تلقّيه من خلال تطوّر القدرة البشريّة على إدراك أبعاد المراد الإلهيّ من آياته، ولذلك نعتقد أنْ ليس ثمّة فهم توقيفيّ لتلك الآي، وإنّما لا بدّ من إعادة تأويلها في ضوء مستجدّات المعارف الإنسانيّة.