بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
محدوديّة المناهج في كتب التّفسير الحلقة الأخيرة : «مآزق القول بالإعجاز البلاغي»
 يجدر بنا أن نلاحظ أنّ المنطلق الأصليّ الدّاعي إلى القول بالإعجاز في القرآن هو أنّ اللّه صاحب علم مطلق كاشف، وعلم الإنسان نسبيّ، وقدرة اللّه على احتواء الدّلالات والمعاني هي المعجزة لطاقة الإنسان على استنباط هذه المعاني فلا منطق، حينئذ، في تحدّي الخالق لعباده(1) وقد خلقهم وأودع فيهم قدرة محدودة بحدود الزّمان والمكان. ولعلّ المقصد الأوفى، من وراء هذا التّحدّي، هو شحذ الأذهان إلى الإقناع بالطّاقة الإيحائيّة والاقتناع بما ورد في كلام اللّه من تعاليم انطلاقا من العلامات اللّغويّة، لأنّ معرفة يرد بها الكلام هي أرقى أنواع المعارف وألطفها، واللّغة هي الضّامنة للوصف والتّعبير والدّفع بالذّهن إلى إدراك المقاصد والمرامي. فالمعاني الّتي تدرك بالعقول هي غالبا ما يتسنّى للمرء أن يعبّر عنها بجلاء ووضوح. أمّا ما تعلّق بالإعجاز، فهو يندّ عن ذلك ولكنّ علامته وإن استحلاها الذّوق فإنّ المرء لا يستطيع تحديدها لأنّها من لطائف الكلام ومحاسنه الخفيّة(2). وفي هذا المستوى، نُشير إلى أنّ لطائف الكلام وغوامضه تمثَل دعوة ملحّة لمزيد التدبّر وإعمال النّظر، وهو ما ورد في أربع آيات تدعو إلى هذا التّدبّر. وقد وردت صيغ فعل التّدبّر في المُضارع لتُحيل على أنّه فعل مفتوح على الصّيرورة الزّمنيّة كشْفا لغوامض الكلام وتقليصا لدوائر الإعجاز وإضعافا لمدارات العجز. 
ومن هذا المُنطلق يتجلّى للدّارس، أنّ قدرة المرء على إدراك أسرار البلاغة، مع مرور الأيّام  تجعل صاحبها يحيط بقوانين الإعجاز، وتفضي به إلى التّخلّص من الإحساس بعجزه عن اكتناه أسراره، وهو المقصد الأساس من تنزيل الكتاب. أمّا قضيّة التّحدّي الماثلة في الإتيان بالمثل فهي مسألة جزئيّة وطارئة تعلّقت بثُلّة عارضت الرّسالة الجديدة وناوأت صاحبها. وبالإضافة إلى تضخيم ظاهرة الإعجاز وجعلها جانبا مهمّا في الدّين الجديد، فإنّ الوعي الدّيني الّذي أنتجه المفسّرون الأوائل لم ينتبه إلى هذا البون بين القول القرآني والقول الشّعري. وما تخبّطه في هذا الخلط إلّا نتيجة لعدم الانتباه إلى الفوارق النّوعيّة بينهما. والجدير بالملاحظة، هو أنّ المسألة تتجاوز المصطلح إلى طريقة الأداء وأساليب التّفكير لإنتاج رؤية يختلط فيها المعنى القرآني بأدوات إنتاج المعنى الشّعري، علما بأنّ العالم الدّلالي الّذي يشيّده القرآن بعيد عن عالم الشّعر، ولاسيّما من جهة القصد. ويبدو أنّ أبا بكر الباقلاّني قد أدرك هذا المعنى وعبّر عنه بقوله:«إنّ الّذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس لأضلّ من حمار أهله وأحمق من هبنّقة»(3). والحاصل من الرّؤية التّراثيّة إزاء مسألة الإعجاز، أنّ القرآن متميّز من جهات عديدة: من جهة مصدره، ومن جهة نظمه، وطريقة تأليفه ومعانيه. وكلّ ذلك يكشف عن مظاهر تفرّده وخروجه عن حدود المألوف من الوقائع الكلامية والخطابية، وهذه السّمات اعتبرها القاضي عبد الجبّار دليل نبوءة وعلامة على أنّه من الله(4)، وهو أمر لا غبار عليه. فبان حينئذ، أنّ الفرادة ماثلة في الخروج عن حدود أحسن مستويات الفصاحة التّعبيريّة وأساليب البلغاء، ممّا يؤكّد أنّ الإعجاز إبداع باللّغة داخل اللّغة. ومع هذه المحاولات للإحاطة بالإعجاز، بما هو طاقة في القول ترفع سلاح التّحدّي، فإنّ هذه الظاهرة اللّغوية، لا يمكن الإحاطة بحدودها. فغاية المرام، حينئذ، هي الإقرار بوجودها والتّسليم بسلطتها في عذوبة الخطاب وتأثيرها في النّفوس. فالكلام المعجز هو كلام ليس كغيره من الكلام. وإذا كانت وظيفة البلاغة تقف عند وصف الخطاب، فإنّ ماهية الإعجاز تفوق مستوى الوصف لتطال طبيعة النّظم والأسلوب(5).
إنّ الطّريف، فيما ذهب إليه الباقلاّني، هو اعتباره أنّ حصر الإعجاز الوارد في القرآن في مجرّد البلاغة وأساليبها يعدّ مدعاة إلى إمكانية الإتيان بمثله بفضل الدّربة والتّمرين. في حين أنّ الإعجاز لا يكون إعجازا إلاّ إذا أعجز غيره على تقليده والإتيان بمثله فلابدّ أن تكون هذه الطّاقة في البلاغة طاقة مضافة وغير مقدور عليها، يقول: «وقد قدّر مقدّرون أنّه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب وأنّ ذلك ممّا يمكن الاستدلال به عليه. وليس كذلك عندنا لأنّ هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصّل إليها بالتدرّب والتعوّد والتصنّع لها، وذلك كالشّعر الّذي إذا عرف الإنسان طريقه صحّ منه التعمّل له وأمكنه نظمه. والوجوه الّتي نقول إنّ إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس ممّا يقدر البشر على التصنّع له والتوصّل إليه بحال»(6). وقد ذهب السّكّاكي، في هذا الإطار، إلى أنّ «الإعجاز يُدرك  ولا يمكن وصفه كما يُدرك طيب النّغم العارض لهذا الصّوت ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطرة السّليمة»(7).
والمهمّ، هو أنّ الإعجاز ظاهرة تلد في رحم النّصّ ضمن ما يُعتمد من الأساليب في علم البيان وعلم المعاني ما يجعل اللّغة تتجاوز وظيفتها الأولى إلى تحقيق وظائفها الفنّيّة والتأثيريّة. وقد تضافر في صياغة البيان القرآني إيقاع منسجم ونغميّة متدفّقة ومشاكلة بين المعاني مع معجم مخصوص على درجة من الفصاحة وأسلوب بليغ غير مسبوق. ولعلّه من المفيد الإشارة إلى موقف الرّمّاني المتصدّي للمشكّكين في فصاحة المعجم القرآني انطلاقا من بعض السياقات القرآنية من قبيل لفظة «أكل» فقد اقترحوا افترس بدلا منها، وفي «الكيل اليسير» قالوا: لا يكون اليسر مع الكيل، وكذلك لفظة «مشى» الّتي يرون أنّ مضى أبلغ منها. وأنّ فعل «هلك» لا يكون مع الأشياء وإنّما الأبلغ أن يكون مع الأشخاص. وإزاء هذه الطّعون  يتوسّع الرّمّاني في الإبانة عن أفضليّة الاستعمال القرآني لإصابة المعنى المقصود(8). لقد كان اللّه تعالى متعالياً في بيانه الّذي سحر الألباب، فتميّز بذلك على الكلام البشريّ في أسلوبه ومعانيه. والإشكال المطروح يتمثّل في التّلاقي الحاصل بين هذا النّوع من الكلام المتعالي والذّهن البشري النّسبيّ. والسّعي المبذول وراء استخراج المعنى من هذا النّصّ وما يتسنّى للعقل البشري أن يستنبطه منه مسألة تهمّ كلّ النّاس المخاطَبين به. علماً بأنّ كلّ مباشرة للنّصّ، قراءةً وتفسيراً، إنّما هي في جوهرها عمل تأويلي، حتّى وإن اعتبرت اللّغة مجرّد أداة لبلوغ المعنى وليست جزءا أساسيا مركوزا في العمل التّأويلي. إنّ الشّحنة التّأويليّة تتلبّس بالمعنى اللّغوي ذاته، فالصّوت واللّفظ والعبارة كلّها تتلوّن بألوان الذّوق والفكر، على اختلاف المراجع والمنطلقات الذّهنيّة والعقديّة، وعلى هذه الصّورة يصبح «النّصّ، في الشّرح اللّغوي، سلطانا وليس خادما»(9). وهذا التّفسير اللّغوي، وإن بدا شديد الارتباط بالمسألة اللّغويّة، فإنّه أشدّ التصاقا بمذهب صاحبه وشخصيّته وعلاقته بعصره والمجتمع من خلال اختياره للأصوات والألفاظ والتّراكيب. والتّساؤل الّذي يظلّ قائماً في ذهن الدّارس، هو حول مدى إلمام المفسّر بحدود هذا الكلام المعجز ومدى إدراكه للمقصد المراد الّذي تُستنبط الأحكام والتّشريعات منه في ضوء فهمه؟ وعموماً فإنّ المفسّر المعتمد على اللّغة يحرص على الانضباط بالنّصّ وحدوده وإن أقام جدلاً بين اللّغة وسياقها التّاريخيّ والثّقافيّ. يقول نصر حامد أبو زيد في هذا السّياق: «إنّ المصدر الإلهيّ لتلك النّصوص لا يُلغي إطلاقاً حقيقة كونها نصوصاً لغويّةً تملك ما تعنيه اللّغة من ارتباط بالزّمان والمكان التّاريخيّ والاجتماعيّ. وأيّ حديث عن الكلام الإلهيّ خارج اللّغة من شأنه أن يجذبنا، شئنا أم أبيْنا، إلى دائرة الخرافة والأسطورة»(10). والدّارس لا يجد بُدّا في هذا المجال من أنْ يُشير إلى أنّ إهدار السّياق الثّقافي وإهدار مقام القول هما اللّذان سهّلا على الضّمير الدّيني القبول بأنّ الحوت غير اللّاحم، بإمكانه أنْ يلتقم الإنسان، وأنّ عمر المرء من الممكن أنّ يمتدّ ويطول إلى عدّة مئات من السّنين، وأنّ شمّ رائحة قد يُعيد البصر للأعمى. وأنّ السّمكة النّاضجة، المُعدّة للأكل بإمكانها أنْ تنُطّ وترمي بنفسها في البحر. وأنّ الطّير بإمكانه أنْ ينطق وما ذلك إلّا عجيب مسقط على سياق الآيات وما تضمّنته من معان لا علاقة لها به. ولكنَّ التّصديق به دخل من باب الإعجاز. 
ودعما للمركزيّة الّتي تحتلّها المؤسّسة اللّغوية في فهم النّصّ القرآني، فقد انكبّ أوائل المفسّرين على تذليل الغريب من المعجم ومحاورة طرائق التّأليف بما يسمح به السّقف المعرفيّ المتاح. ولمّا تطوّرت طرائق الشّرح البلاغيّ والنّحويّ، عُدّ المتأخّرون من أمثال الرّمّاني والزّمخشري من أصحاب التّفسير البيانيّ، حيث يُوظَّف النّحو وتُستخدم البلاغة لبيان المعنى المراد من القيل القرآني. إلاّ أنّ اللاّفت للانتباه في حصر الإعجاز القرآني في حدود البيان يجعل التّفكير الدّيني في مضيق يتمثّل في أنّ هذا الإعجاز متعلّق، بطريقة مباشرة، بأصحاب اللّسان العربي دون غيرهم. وهو أمر يتعارض رأسا مع عالميّة الرّسالة الّتي نزلت على محمّد وخاتميّتها. وقد بدت هاتان السّمتان في صريح ما نطق به الخطاب القرآني. 
ولعلّ الّذي فات التّفكير الدّيني التّقليدي، هو البحث عن مظاهر أخرى للإعجاز تتعلّق بالقيم كالحرّية ومنزلة الإنسان في الكون وقدرته على الخلق والابتكار(11). وعموما فإنّ التّراكيب النّحويّة ظلّت خادمة للتّفسير بحثا عن مظاهر الإعجاز البيانيّ إنْ في المستوى المعجمي وإن في المستوى النّحوي، وإن في المستوى البلاغي، حيث يتمّ تقليب اللّفظ بحسب تعدّد وظائفه ودلالاته، وقد تدخّلت البلاغة، بوصفها معرفة لغويّة، بقوّة، بحثا عن جمال الخطاب لتكشف عن السّياق تجاوزا للمشكلات الّتي يطرحها ظاهر بعض الآيات من أجل النّفاذ إلى طبقات الدّلالة الخفيّة في الخطاب بأسره. وخذ إليك كيفيّة فهم السّؤال الذي بدا من اللّه إلى عيسى الوارد في الآية: «وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ» . قالوا هذا باب تفهيم وليس استفهاما، لأنّ الاستفهام ينبع من غير عالم يطلب العلم بالشّيء(12). إنّ هذا المثال، وغيره من الأمثلة، يدلّ على فصاحة العرب وإمساكهم بناصية لسانهم الحاوي لكثير من الطّاقات التّعبيريّة. ولقد قامت ثنائيّة الحقيقة والمجاز بأدوار مهمّة في دفع درجة الفصاحة إلى مستويات عميقة(13). ولكنّ المفسّرين لم يوفّقوا تمام التّوفيق في جعل مقولة النّظم، بوصفها سنام الإعجاز، مفتاحا كفيلا بتفجير عوالم الدَّلالة الكامنة في النّص القرآني، وإنّما وقفوا عند اكتشافها والإشارة إليها واستثمارها بطريقة محتشمة، فظلّت مقولة نظريّة تنتظر التّفعيل والاستخدام والتّطوير والتّوظيف. 
إنّ النّظر إلى النّصّ القرآنيّ من مناظير لسانيّة تفضي بالدّارس إلى اعتباره خطابا ذا خصوصيّة في تشكيله وبنائه للمعنى. ولعلّ في هذا الإطار، يندرج ما ذهب إليه محمّد أركون من أنّ: «القرآن يتجلّى لنا كخطاب خاصّ له ماديّته وبنيته الّتي يمكن لباحث الألسنيات أن يكتشف فيها أسلوبا خاصّا في تشكيل المعنى وإنتاجه. وما ينبغي أن يشغلنا هنا هو معرفة كيفيّة تشكّل هذه الآليّة المنتجة للمعنى في القرآن وفي اللّغة العربيّة، وكيفيّة اشتغالها وانغراسها في وعي الملايين لكي تنتج فيما بعد الفكر الإسلاميّ»(14). 
إنّ النّاظر في الإعجاز القرآني وما يتولّد عنه من مسائل منهجيّة ومضمونيّة، يتّضح له أنّ المؤلّف لهذا النّصّ ليس ككلّ المؤلّفين. فأهل اللّغة وأهل التّفسير يعاملون اللّه معاملة خاصّة تميّزه عن بقيّة المؤلّفين من بني البشر فهو لا يكابد صعوبات الأسلوب ولا مشاقّ العبارة اختيارا وصياغة(15). ولكنّ السّؤال المهمّ الّذي يُطرح بناء على هذه المعاملة يتمثّل في: هل اللّه في حاجة إلى هذا التّمييز المبالغ فيه؟ وهل طلبه أصلا من عباده خاصّة وقد صرّح أنّه الغنيّ. أم أنّ التّبجيل الحقيقي لكلام اللّه يتجلّى في سبر أغواره والامتثال لقيمه. ثمّ إنّ اللّه قد أنزل الوحي لصالح الإنسان في قوله: «مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ»(طه:2) .
وإذا كان الإبداع البشريّ يطلب معزولا عن مؤلّفه لأنّ النّصّ يعدّ مِلْكا لقارئه ولا تضيره ضروب التّأويل، وإن شطّت، أمّا النّصّ القرآني ككلّ النّصوص الدّينيّة، فهو محتوٍ على مقصد صاحبه الّذي يظلّ مبتغى كلّ مفسّر وكلّ قارئ شأنه في هذا الأمر شأن النّصوص القانونيّة ذات المرجعيّة الّتي إذا لم يتمّ الإمساك بها إمساكا رشيدا، ويُحكم تأويلها، فإنّ ضروب القراءة ستصبح تطويعا وإسقاطا وتعمية. ومع ذلك فقد عوّل القرآن على فعل القارئ في قوله: «اقْرَأْ» و«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ» و«لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» ، لأنّ مقصد اللّه قد يظلّ بعيدا، وحسب المرء أن يقف على مقاصد من إنتاجه تنسجم مع مقتضيات النّص بأكمله. وفي هذا المستوى من التّمييز بين النّصوص الأدبيّة والنّصوص الدّينية، يتّضح الفارق بين التّفسير والتّأويل. فإذا أرجع البعض التّفسير متعلّقا بالنّصوص غير الدّينيّة، فإنّهم حصروا التّأويل في النّصوص الدّينيّة(16)، إذ التّأويل كشْف للغامض الوارد في النّصوص والوصول بالظّاهر إلى إفادة معنى بعيد، مع قرينة دالّة. وهذه النّقلة بالمعنى، عمليّة محفوفة بالجريان على حسب ما في الذّات لا على ماتقتضيه النّصوص. وبالإضافة إلى ذلك، يتمتّع النّص الدّيني بمرونة واتّساع يفسّران جنوح بعض الفقهاء إلى أن يفتوا في القضيّة الواحدة بأكثر من رأي بمجرّد اختلاف المكان وإن كان ذلك في زمن واحد. وهو ما يدفع إلى التّساؤل عن أسباب ذلك: هل الأمر يعود إلى مرونة في النّص، فحسب، أم إلى غايات أخرى خارجة عن النّص ذاته كإرضاء السّلطة السّائدة أم إلى أمر آخر؟(17). والواضح أنّ تدخّل السّلطة، وتحكّم قواعد المذهب، حينما تحجّرت، كلّها عوامل قد وجّهت الفعل التّفسيري لتطبع المعاني النّابعة من القيل القرآنيّ بألوان مذهبيّة وسلطويّة. وهو ما ضيّق الآفاق الواسعة الواردة في اللّغة القرآنيّة. فالآية الواحدة تفيد الحرّيّة والاختيار بالنسبة إلى المعتزليّ،  وتفيد التقيّد والجبر بالنّسبة إلى السّنّيّ. ومن اليسير على النّاظر في الاختلاف في القراءات أن يلحظ أثر المذهب في تنوّعها. 
ولعلّ الّذي زاد المفسّرين، ولاسيّما اللّغويين منهم، تشبّثا بظاهرة الإعجاز إنّما هو قداسة النّص. فالنّصوص المقدّسة، لدى المؤمنين بها، تتميّز بالأصالة والتّفرّد والأحاديّة. وعند المسلمين، يوجد عامل آخر يدفعهم إلى التّشبّث بإعجاز كتابهم، وهو يكمن في التّمييز بين الكلام والقول. فإذا كان العهدان القديم والجديد رواية عن الرّسوليْن عيسى وموسى وسيرتهما، باعتبارهما معبّريْن عن المعاني الإلهيّة بما تكلّما به، فإنّ النّصّ القرآني قول إلهيّ بمعنى أنّ مصدره إلهي، وهو يعبّر عن كونه من اللّه معنى وصياغة(18). 
ولقد مُرّرَت القداسة إلى مرسوم الخطّ حتّى بات وقفيّا لا يجوز المساس به، وهو ما دعا بالبعض إلى الحديث عن الإعجاز العددي المعتمد على عدد الأحرف المرسومة بالشّكل الّذي كُتِبت عليه في بدء الكتابة والتّدوين. ومن أصحاب هذا الرّأي نذكر، على سبيل المثال، عدنان الرّفاعي الّذي يقول: «نعجب كيف غفلنا، نحن المسلمين، أربعة عشر قرنا عن كون المفردة القرآنيّة ذات المعنى والماهيّة الّتي يتّصف بها ما تصفه وتسمّيه هذه المفردة، وكيف غفلنا عن كون المفردات القرآنيّة اللّغة الفطريّة التي علّمها الله تعالى لآدم في السّماء، وكيف غفلنا عن كون الحرف القرآني اللّبنة الأولى للمعنى والأبجديّة الأولى للوجود ذاته»(19). ولا غرو في أن يصل عدنان الرّفاعي، نتيجة هذه الرّؤية، إلى أنّ سورة نوح تتكوّن من أحرف مرسومة بعدد عمُرِ هذا الرّسول المشار إليه في القرآن، وهو ألف سنة إلاّ خمسين عاما. في غفلة عن تغيّر الوحدة الزّمانيّة الظّاهرة بين سنة وعام صلب الآية الّتي تُشير إلى هذا الموضوع. ثمّ إنّ هذه المدّة لا تمثّل عمر نوح، وإنّما هي الفترة الّتي قضّاها في دعوة قومه إلى التّوحيد، فضلا عن تغيّر وِحدة القياس الزّمني من حضارة إلى أخرى.
لقد نما الوعي بظاهرة الإعجاز لدى أوائل المفسّرين وترسّب لدى المسلمين في أرضيّة ثقافيّة تفصل بين اللّفظ والمعنى. وتعتبر الأوّل جسما والثّاني روحا. والحال أنّ التّفكير اللّساني أضحى يعتبرهما وجهيْن لأمر واحد. وعليه فإنّه كلّما قامت علامة إلّا ونهضت بها دلالة. ثمّ إنّ الإعجاز في أصل معناه اللّغوي هو انعدام القدرة على الإنجاز وفقدان الاستطاعة على الفعل، ومن ثمّ تكرّس في الوعي الدّيني أنّ كلام الله مفارق ومقدّس. والكلام البشري نسبيّ، لا حول له في الإحاطة بمعانيه ومقاصده. وبالنّظر إلى بعض المفسّرين من أمثال الطّبري الّذي يصدّر شرحه للآيات بقوله «عنى الله بقوله»، فإنّ الدّارس لا يجد مناصا من التّساؤل عن كيفيّة إحاطة الكلام البشري بإعجاز الكلام الإلهي. وكيف يُصبح الخطاب المُدنّس حاويا للخطاب المقدّس. ومن جهة أخرى يلاحظ، أنّ الكسل الّذي اعترى الثّقافة العربيّة الإسلاميّة قد عمّق الهُوّة بين إعجاز الكلام الإلهي وعجْز العقل المُزدوج: عجز عن فهم الخطاب القرآني من جهة، وعجز عن إنتاج أدوات معرفة جديدة من جهة أخرى. ولقد بدا هذا العجز في الاستسلام لما قاله الأوائل في القرآن والانصراف عن تجاوزه. وقد كان بإمكان هذا العقل أنْ يُبدع مداخل جديدة لمُباشرة النّص القرآني تفسيرا وتأويلا. والنّتيجة الّتي آل إليها القرآن، هي أنْ صار كتابا يرمز إلى التّبرّك، به تتجمّل المكتبات وتتزيّن. ولاغرو، في الوصول إلى هذه النّتيجة، طالما أنّ مقولة الإعجاز قد أفضت إلى الاعتقاد بأنّ الحقيقة الدّينيّة قد اكتملت وحُصرت في المقول البلاغي الّذي تضمّن فائضا من القوّة القوليّة النّابعة من الإله الخالق المتكلّم وأنّ هذه الحقيقة قد استوفتْ غايتها وكفايتها في إفحام الخصوم وتعجيزهم. ولقد حقّق الدّارسون الأوائل لظاهرة الإعجاز نصيبا مهمّا من الحقيقة العليقة بمسألة الإعجاز للإحاطة به ولاسيّما في مستوى النّظم، إلّا أنّ النّظم ظلّ مقولة نظريّة مع عبد القاهر الجرجاني، ولم نعثر لها على أثر فعّال في مستوى الفعل التّفسيري بعده، إذْ ظلّ تفسير القرآن مجزأ ومذرّرا وخطّيّا يتّبع تسلسل الآيات حسب ورودها في المُصحف دون التفات إلى ترتيلها ودون انتباه إلى ظاهرة التّأليف بين أجزاء الموضوع الواحد المتناثرة ثني السّور العديدة. وهو ما أدّى بالمفسّرين إلى السّقوط في التّكرار والإعادة وعدم الإمساك بخيوط الموضوع الواحد.
لقد غفل الأصوليّون والمفسّرون عن حقيقة مفادها، أنّ إعجاز المُصحف يكمن أيضا في ما جاء به من أرضيّة معرفيّة جديدة تحدّد منزلة الإنسان في هذا الكون وترسم له علاقة حرّة مع ربّه وتكشف له عن معالم الرّوابط مع الذّات والآخرين، بالرّغم من انتباه البعض، كالخّطّابي، إلى أنّ معاني القرآن لا يخفى على ذي لُبّ أنّها هي الّتي تشهد لها العقول بالتّقدّم في أبوابها، والتّرقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها(20). كما أنّهم غفلوا عن أنّ هذا الإعجاز لا يروم إلحاق العجز بالإنسان، وإنّما هو على العكس من ذلك، يُمثّل طاقة من أجل استفزاز العقل وحثّه على استكناه المزيد من حقائق هذه المعرفة اللّامُتناهية. والدّليل على ذلك الأمر الإلهي المتكرّر بضرورة التّدبّر وإعمال النّظر والتّفكّر في الآيات العديدة والمتنوّعة.
أمّا وقد عدل العقل المسلم عن هذا التّدبّر واكتفى بما ضبطه الأوائل من صنوف الإعجاز، فقد استحال الفعل إلى انفعال والإعجاز إلى عجز. 
الهوامش
(1) بأن يأتوا بسورة مثله أو ببعض آيات مثله، (البقرة:23)، (طه: 15)  
(2) يمكن العودة في هذا المجال إلى محمّد الطّاهر بن عاشور، التّحرير والتّنوير، ج1، الدّار التّونسية للطباعة والنّشر، د ت، ص ص95،96.
(3) أبو بكر الباقلاّني، إعجاز القرآن، م س، ص65. ولعلّ من المفيد  التنبيه إلى وجهة نظر عائشة بنت الشاطئ، وإنْ لم نُشاطرها الرَأي، وهي المتمثّلة في أنّ القرآن لم يتهجّم على الشعراء وإنّما حقيقة الأمر تدور حول تنزيه المعجزة البيانيّة التي أوتيها الرّسول من القول الشّعريّ. انظر عائشة بنت الشاطئ، الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، دار المعارف، مصر، 1971، ص86 وما بعدها.
(4) انظر القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التّوحيد والعدل، ج16، إعجاز القرآن،  م س، ص183.
(5) V. Roman André, L’Expression du  JE  dans la langue arabe révélée , institut français de Damas, Bulletin d›Etudes Orientales, volume27, 1974, p14.
(6) أبو بكر الباقلاّني، إعجاز القرآن، م س، ص34.
(7) انظر جلال الدّين السيّوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، م س، النّوع الرّابع والسّتون: في إعجاز القرآن،  ص153.
(8) انظر الرّمّاني،  النّكت في إعجاز القرآن،  م س،  ص75.
(9)  محمد الهادي الجطلاوي، قضايا اللّغة في كتب التّفسير، م س، ص31.
(10) نصر حامد أبو زيد، إهدار السّياق في تأويلات الخطاب الدّينيّ، القاهرة، يناير، 1993، ص5.
(11) V .Talbi Mohamed, Ma religion c’est la liberté: l’islam  et les   défis de la contemporanéité: Comment entrer dans la             contemporanéité sans lamentations ni gémissements ni larmes, édition nirvana, Paris, 2011, deuxième partie : La liberté religieuse : droit de l’homme ou vocation de l’homme?                                 
(12) أبو عبيدة، مجاز القرآن، ج1، م س، ص184.
(13) يمكن العودة إلى الرّمّاني، التفسير، سورة آل عمران 3،  الآية 113، م س،  ص63.
(14) محمّد أركون، تاريخيّة الفكر العربي الإسلامي، تعريب هاشم صالح، بيروت، ط1، 1986، ص184.
(15) انظر محمّد الهادي الجطلاوي، قضايا اللّغة في كتب التّفسير، م س،  ص219.
(16) انظر ابن عطيّة، مقدّمتان في علوم القرآن وهما مقدّمة كتاب المباني ومقدّمة ابن عطيّة، نشر آرثر جفري، تصحيح وتقويم عبدالله إسماعيل الصّاوي، القاهرة، نشر مكتبة الخانجي، ط2، ،1972، ص172. 
(17) ليس خافيا على ذي نظر فعل السّياسة في توجيه الثّقافة الدّينيّة في الموروث الإسلامي واسمع إلى ما يقوله أبو جعفر معلّقا على الحديث التّالي المعروف بحديث الثّقلين: عن سعد بن عبدالله القمي، بإسناده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «دَعَا رسولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النّاسُ إنِّي تاركٌ فِيكُم الثّقليْنِ، مَا إِنْ تَمسَّكتُم ْبِهمَا لَنْ تَضلُّوا: كِتَابَ الله ِوعترتِي، والكعبةَ البيتَ الحرامَ» ثمّ قالَ أبُو جَعْفَر عليهِ السّلامَ: أمَّا الكتابَ فحرَّفُوا، وَأمَّا الكَعْبَةَ فهَدمُوا، وأَمَّا العِتْرةَ فقَتلُوا، وَكلّ ودائعِ الله قد نَبَذُوا ومنْهَا قدْ تبرَّؤُوا». وذكره السيّد هاشم البحراني في كتاب «البرهان في تفسير القرآن»، تحقيق لجنة من العلماء والمحقّقين الاخصّائيين، ج1، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط2، 2006، ص24. 
(18) يقول عبد المجيد الشّرفي في هذا المجال: «من المفيد  الانتباه إلى المكانة الفريدة المتميّزة للنّصّ التّأسيسي، إذ لا مثيل لها بنفس الدّرجة في الدّيانات الأخرى حتّى النّبويّة منها أو الكتابيّة». عبد المجيد الشّرفي، في قراءة التّراث الدّيني: الإتقان في علوم القرآن أنموذجا، مقال ضمن كتاب جماعيّ بعنوان في قراءة النّصّ الدّيني، سلسلة موافقات، الدّار التّونسيّة للنّشر، تونس، ط1، 1989، ص ص11،30.
(19) عدنان الرّفاعي، المعجزة الكبرى: معجزة إحدى الكبر، دار الخير للطّباعة، بيروت،  لبنان ،ط3 مزيدة ومنقحة، 2009، المقدّمة،  ص14.
(20) الخطّابي، بيان إعجاز القرآن، م س، ص27.