مرايا
بقلم |
![]() |
د.عزالدين عناية |
عرب أوروبا وبؤس الثّقافة |
تهزّ أوروبا أزمات دوريّة في علاقتها بمهاجريها العرب، متنقّلة من بلد إلى آخر ومتحوّلة من قضيّة إلى أخرى. وهي في الواقع أزمات نابعة من طغيان الخواء الثّقافي، وتدنّي حضور المثقّفين العاملين وسط هذه الجموع المستوطنة، أو لنقل إشراكهم في تقييم الأمور وطرح حلول عمليّة لها. إذ ينبغي أن نقرَّ أنّ العنصر الثّقافي وسط ملايين العرب المقيمين والمستوطنين في دول القارة، والبالغ عددهم زهاء العشرين مليونا، ضئيل وباهت، بفعل فتور التّعويل على ذلك الجانب الرّمزي أو الاستثمار فيه. فهناك دول قاحلة، بالمعنى الثّقافي، في ما له صلة بالثّقافة العربيّة، وهو ما انعكس ضبابيّة، وأحكاما مسبقة، وخوفا، وريبة، ونفورا، بين المكوَّنات الاجتماعية «الدّخيلة» و«الأصيلة».
والسّؤال كيف الخروج من أسْرِ التّوتّر الدّوريّ في علاقة عرب أوروبا مع واقعهم الغربي؟ بادئ ذي بدء يبقى حلّ المشكلة بأيدي عرب أوروبا، أي هؤلاء المستوطنين والمقيمين في أحضان القارّة، أكانوا ممّن اندمجوا في سياق مجتمعاتها أو ممّن هم في طور الاندماج. إذ ثمّة مراجعات وتساؤلات حول هويّة العرب الأوروبيّين، ولا نقول العرب في أوروبا لأنّ الغلبة ستؤول للشّقّ الأول، ينبغي تناولها بهدوء وواقعيّة. فالوعي الدّيناميكي بمفهوم العروبة، وحده القادر على مراعاة الغيريّة، وطمأنة الآخر، وبثّ الثّقة لديه. وهو الرّهان الفاعل والحاسم، حتّى لا تبقى الجموع المستوطنة في أوروبا عائمة. ولِيُحاصَر ذلك التّنافر لصالح تآلف وتآنس حقيقيين. فليست أوروبا وحدها أمام هذا الاختبار الحضاري الإشكالي، في استيعاب «الدّخيل» وهضمه، بل الجموع العربيّة أيضا هي طرفٌ رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به.
فما من شكّ أنّ هناك هشاشة ثقافيّة طاغية في أوساط الوافدين من العالم العربي نَحو أوروبا، جعلت التّفاهم مع الغرب يوكَل أمره إلى الصّمت والوجوم في معظم الأحيان، دون أخذ زمام المبادرة. وأخشى ما أخشاه على هؤلاء الوافدين من العالم العربي أن يتحوّلوا إلى كتلٍ صمّاء صامتة، بدون أثر، وبدون صخب، في مجتمعات تعجّ بالحركة.
إذ هناك ملايين متروكة سائبة وعرضة للنّهش، من هنا وهناك، ولذلك نحن في أوروبا، عرب وغير عرب، ندفع ضريبة هذا الفراغ الثّقافي الهائل والصّمت المطبق في مجال الثّقافة ذات الصّلة بالمسلمين عامّة. وما دام ليس هناك استثمار دائم في تلك الرّساميل الرّمزيّة والمعنويّة، أو تعويل على أثرها، فيستمرّ تناقض تلك الملايين مع واقعها الأوروبي، وستبقى عرضة للتّوتّرات الدّوريّة والمتكرّرة. فالشّراكة الثّقافية التي يُفتَرض أن تقوم عليها العلاقات بين دول العالم العربي وأوروبا، عوّضتها خلافات سياسيّة، سرعان ما تُحوَّل إلى خلافات حضاريّة تُستدرَج إليها الجاليات العربيّة تغريرًا، فيغدو كيان العربي الأوروبي مسرحا لتصفيتها. إذ ثمّة قابليّة لدى عرب أوروبا للتّوظيف الخارجي، جرّاء فقدان الاستقلاليّة مع بلدان المأتى، على مستوى المخيال السّياسي وعلى مستوى المرجعيّة الدّينيّة. وفي ظرفنا الرّاهن نعيش فتورا في الرّهان على الإيلاف الثّقافي والتّآنس الحضاري بين المجتمعات الأوروبيّة وجملة من دول العالم العربي. وما من استراتيجيّة لبناء إيلاف ثقافيّ يستوعب هذا التّوتر الحاصل والمتفجّر بشكل دوريّ.
فأحيانا قضايا محدودة تُهوَّل وتُحوَّل إلى قضايا رأي عام، بعيدا عن حقيقتها الفعليّة. وما نعيشه من قلاقل وتجاذب بين دول أوروبيّة ودول عربيّة هو أحد أوجه تلك التّوترات الدّوريّة. فليس هناك ازدراء عموميّ يستهدف العرب ولا مسّ من مخزونهم الرّوحي والقداسي على مستوى رسميّ؛ ولكنّ النّاس هنا يتصرّفون على نحو مغاير لما دأب عليه المسلمون في البلدان العربيّة والإسلاميّة. فحتّى المقدّس، في الغرب، قابل للنّقد والدّحض وحتّى الطّعن والنّقض، وربّما استغلاله ضمن الدّراما والكوميديا أيضا، فالقوم لا يعرفون التّنويه الدّائم ولا الثّناء الغامر. إنّها صيرورة الحداثة الغربيّة التي لا تعرف الولاء اللاّمشروط، وهو ما لم يدرك كنهه كثير من العرب السذّج.
وتأكيدا للخواء الثّقافي الذي صنّفناه عنصرا رئيسا في التّوتّر الحاصل نقول: أحيانا يجري الاستهلاك في البلاد العربيّة، وإلى درجة الابتذال، لأسماء ثقافيّة وعلميّة عربيّة تقِيم في الغرب، وتُنسَج الرّوايات والأساطير عن قصص نجاحها بعد احتضانها وحسن وفادتها، ولا يُعار اهتمام لملايين سائبة لا تُعرف وقائعها ولا مصائرها. تغيب بالفعل من الأبحاث السّوسيولوجيّة والسّياسيّة ومن دراسات الهجرة ومن أحاديث السّاسة، وهو ما يدعو للتّساؤل: أين الاستغراب العربي؟ والحال أنّ ما يريده العرب في الغرب هو حديث صادق عن فشلهم وعن نجاحهم، عن حقوقهم وعن واجباتهم، بدون تهويل أو تبسيط، أو تقديس أو تدنيس. فمن يعرف أنّ ما يناهز مليوني عربي يقيمون على التّراب الإيطالي، لا يصدر منهم ديوان شعر، ولا رواية، ولا كتاب، ولا قصيدة، ولا فيلم، ولا مسرحيّة إلاّ ما ندر؟ ولا يمتلكون صحيفة، ولا مجلّة، ولا إذاعة، أو حتّى موقع في الشّبكة العنكبوتيّة، يلتفون حوله. مع أنّ هؤلاء يغدون ويروحون في بلد ديمقراطي مفتوح على الثّقافة، ولا يعرف سلطة الرّقيب، أو بيروقراطيّة التّراخيص.
ولأنّنا نؤمن أنّ هناك أفُقا ثقافيّا رحبا تلتقي فيه الثّقافة الوافدة من البلدان العربيّة والثّقافة الأوروبيّة، يحاول الطّهريّون من الجانبين تضييقه وزرع ألغام التّوتّر والصّراعات فيه، فنحن مع أوروبا من أجل تعزيز مناعتها وترسيخ خياراتها على جميع الأصعدة، لأنّ قدرنا في هذه القارّة وليس خارجها. وليس باسم جذور هوياتيّة واهية ينبغي أن نصنع تناقضا مع فضاء احتضننا، وبالتّالي نحن أمام مشروع هائل في إعادة صنع هويتنا المهاجرة من جديد لتتلاءم مع واقع تعدديّ كوسموبوليتي. المشكلة أنّنا ما زلنا نستورد رموزنا ونماذجنا من وراء البحار، ونحاول استزراعها في تربة غير تربتها، وقد أضحت معايير أخرى تحكم واقعنا الغربي الذي بات يحتضننا.
|