نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
السّؤال الفلسفي ومسارات الانفتاح
 ما أسهل أن يكون الإنسان قاصرا
ما أشدّ غرابة الفلسفة! في منشئها وصيرورتها وراهنها، وما لا تفقده الفلسفة في هذه المسارات إنّما هو غرابتها وغُربتها؛ فهي على التّحقيق سؤال الغريب عن روح عصره. فبالرّغم من أنّ المناحي الوضعيّة في التّفكير تعتقد بأنّ تاريخ الفلسفة هو تاريخ تراجعاتها، وأنّ العقل العلمي هو الذي يعقُب العقل التّأمّلي؛ إلاّ أنّ الفلسفة ما انفكت تذكّر حفّاري قبرها بأنّهم لن يستطيعوا الاستغناء عنها؛ فأسئلة القلق الفلسفي والمعنى والقيمة بالرّغم من سطوة أنظمة المعرفة العلميّة قد انبعثت فيها الحياة من جديد، وماذلك إلاّ لأنّ الإنسان المعاصر قد أضحى يفتّش عن إمكانات للحياة جديدة، بعد أفول الأمان الوجودي واغتراب الوعي الفردي في عصر الصّناعة.
إن مهمة الفيلسوف اليوم تتحدّد لا باعتباره معايشا لقيم عصره أو مجرّد شاهد عليها؛ بل أن ينخرط بقوّة في نقدها وأن يكون الضّمير السّيّئ لقيم هذا العصر، وأن يبدأ التّفكير بطريقة مختلفة. لكن: ما هو السّيئ في هذا العصر حتّى يثور الفيلسوف عليه أو أن يدخل في مواجهة مع سماته؟ 
إنّ هناك كثرة متكاثرة من المفاهيم التي تتوارد علينا لا ندري كيف نتعامل معها أو نشتغل عليها أو نفكّ معاقدها، حتّى لكأنّها من فرط تواردها أدخلتنا إلى دائرة «خطاب الأزمة»، مع أنّ مفردة «الأزمة» وتضميناتها المعرفيّة لم تعد تمتلك مقدرة توصيفيّة وتفسيريّة لصورتنا الثّقافيّة الواهنة؛ وذلك لمحدوديتها وقصور إجرائيّتها، فلنخرج إذن من دوائر «خطاب الأزمة» ولنستبدلها بمفردة أخرى تتوافر فيها هذه المقدرة التّوصيفيّة والتّفسيريّة. إنّ المفردة المؤهّلة لاستئهال هذا المقام التّوصيفي هي»الفتنة المفهوميّة الكبرى»، والفتنة بالمعنى المعرفي في هذا المقام هي ذهاب العقل وفقدان وجهته وقدرته على التّدبير والتّفكير.
إن المٌكتنه لما أنشأه المشتغلون في حقل الفكر الفلسفي العربي المعاصر سوف لن يجد سوى مومياء أفكار، يعتقدون بأنّهم يشرّفون فكرة أو مشروعا عندما يحافظون على نقاوته الأصليّة ومدلولاته الأولى، إنّهم بتقليدهم للمفاهيم الفلسفيّة الغربيّة يُفرغون التّفلسف من الحياة ويجمّدون نهر الصّيرورة في انتظار ما تدفع به المجتمعات الأخرى من إبداعات مفهوميّة ، لذلك فإنّ أكثر المفاهيم المتداولة في حقول المعرفة الفلسفيّة العربيّة اليوم مفاهيم شاحبة ليس فيها دم الحياة، ولأنّها شاحبة فهي لا تؤثّر في ثقافتنا ولا تخلّص الإرادة من الوهن أوالتّفكير من الاستعادات الحكائيّة. فأيّة حقيقة- لا تؤثّر على الثّالوث الاجتماعي: الأشخاص والأفكار والأشياء، هي حقيقة ميّتة، وكلّ كلمة لا تحمل جنين نشاط معيّن هي كلمة فارغة، كلمة ميّتة ومدفونة في نوع من المقابر نسمّيه: «القاموس».
إنّ القيم المسمومة كالتّوهّم في كونيّة المفهوم الفلسفي والاستجابة لنداء الشّموليّة الثّقافيّة والفصل بين الفكر والحياة، هي التي على الفيلسوف أن ينخرط في نقدها وأن يدخل في مواجهة مع مسلّماتها بخاصّة وأنّها منتشرة في شعب المجال التّداولي الاسلامي العربي، الذي يريد إنشاء فضاء فلسفي مخصوص في استشكالاته وتفكّراته الموصولة بهذا المجال، لأنّ القيم السّلبيّة تقطع عليه أسباب العطاء والإمداد. وأمام هذا: مالم نسهم في إنشاء مفاهيمنا الفلسفيّة ابتداء أو إعادة الاشتغال على المفاهيم المتواردة علينا بإعادة إبداعها وتصنيعها مرّة أخرى؛ فلن نكون في مستوى الوفاء لمهمّة الفيلسوف الأصليّة أي: الانخراط في نقد قيم العصر والتّفكير بحركة مضادّة ثمّ التّشريع لإمكان وجودي جديد.
إنّ هذا الهمّ المعرفي والأخلاقي هو مدار المساءلات الفلسفيّة التي تتضمّنها هذه المحاولة، بما هي مساءلات تتأسّس على الايمان بأنّ السّؤال في الفلسفة يبقى؛ في حين أنّ الجواب يفنى، وأنّ الحاجة إلى الفلسفة اليوم لا تبدو بيداغوجيّة فقط؛ إنّما حاجة مضاعفة وفي جميع الأنشطة النّظريّة والعمليّة، علينا أن نعيد الوصل بين الفلسفة والحياة بخاصّة وأنّنا نشهد دخول البشريّة إلى نمط وجودي خاصّ، سواء أكان هذا الدّخول مادّيا بفعل الإمكانات التّقنيّة والتّمكّنات العمليّة بما صار يعرف اليوم بالعصر الرّقمي؛ أم بفعل تغيّر معادلة الاجتماع الإنساني وتعقّد العلاقات بين الثّقافات المعاصرة، وتزايد الحاجة إلى إمكانات حياتيّة جديدة بالبحث عن أجوبة غنيّة بالمعنى تحقّق التّوازن النّفسي والأمن الأنطلوجي لتلك النّفوس المتعطّشة بحثا عن مسوّغات لوجودها، فضلا على إعادة الاعتبار لأسئلة المعنى والقيمة والمصير. وفضلا على هذا كلّه فالشّعار الفلسفي القديم الذي يستهدف بناء عقل يسائل ويحلّل ولا يسلّم دون دليل، من الأجدى والأقوى لنا بعث الحياة فيه، وهذا لهول ما تسبّبت فيه إرادة توحيد الرّؤى وتنميطها، وانتشار ثقافة الأحاديّة الفكريّة والإثنيّة التّفكّريّة والعنف الرّمزي وتسطيح الوعي وتسليع أشكال التّعابير الثّقافيّة وحصر رحابة الظّاهرة الإنسانيّة وتركيبتها في بعد واحد هو: البعد اللّذي والإيروسي والرّغائبي.
من أجل هذا تأتي هذه المساءلات الفلسفيّة كيما تتبع نشاط السّؤال الفلسفي بما هو نشاط نوعي في مساراته الانفتاحيّة على حقول الثّقافة المتنوّعة، من الاشتغال المفهومي وأسئلة الوجود والمعرفة والبحث عن الحقيقة بماهي المساءلات المعهودة في الممارسة الفلسفيّة، إلى دخول السّؤال الفلسفي عالم الحياة المعاصرة بخاصّة فضاء الميديا وفلسفة الإشهار وهيمنة الصّورة؛ والنّتيجة هي فقدان مملكة الحقيقة قيمتها، بما هي السّؤال الخالد في حقل الفلسفة. ثمّ رصد نماذج من تأُوُّلات الفكر الفلسفي العربي المعاصر للحداثة ومابعد الحداثة، حيث يتمظهر أمامنا في صلة تقابليّة نموذجان من الإرادة : إرادة التّأسيس للحداثة في المجال التّداولي الإسلامي العربي على ما يسعى «طه عبد الرّحمن»؛ وإرادة الانفتاح على ما بعد الحداثة عبر النّسف النّيتشوي لمشروع الحداثة ونعتها بحداثة الانحطاط على ما «يفكّك ويحوّل علي حرب».
أمّا النّاظم المنهجي الذي وزعنا فيه مادّتنا العلميّة في هذه المساهمة فإنّنا أرتأيناه أن يكون وفقا للمخطط الذي نرسمه تواليا :
الباب الأول: 
خصّصنا فيه البحث حول « انفتاح الفلسفة على الحياة : من الممارسة المفهوميّة إلى فلسفة الإشهار».اختص الفصل الأول منه بالكلام في :سؤال المفهوم في الفلسفة (مقدّمة لكلّ مَفهمة Conceptualisation يمكن أن تصير إبداعا)،استشكلنا فيه قلق الممارسة المفهوميّة في الفلسفة بين تصريح العبارة وإضمار الإشارة، ورصدنا فيه نماذج من التّراث الفلسفي على الممارسة المفهوميّة؛ نموذج تأسيسي للمفهوم بالمعنى المنطقي بخاصّة مع فلسفة المفاهيم السّقراطيّة ووريثتها الأفلاطونيّة فيما بعد، ونموذج يسترجع هذا التّأسيس بصورة نقديّة لاذعة عن طريق وصله بالحياة واضطرامها على ما يؤوّل نيتشه nietzsche، ثمّ قفّينا بوضع الضّوابط التي تجعل من فعل المفهمة بمعناه الإبداعي ممكنا، بفكّ الارتباط بين المدلول الاصطلاحي الفلسفي والمضمر الثّقافي المستبطن بعناصره التّأثيليّة التّداوليّة؛ ثمّ إعادة الوصل بين المضمر التّداولي و العبارة الاصطلاحيّة في المفهوم الفلسفي؛ وهذا متى أردنا الخروج من الاستكسال العقلي إلى الاستنهاض الرّوحي . 
كما اختص الفصل الثّاني بالكلام في: الفلسفة ومساراتها، بمساءلة دلالة صيرورة مفهومها وتجدّد مجالاتها وانقلاب علاقتها بغيرها من أنماط الوعي الأخرى : كالدّين والفنّ والعلم، وأسهمنا في خاتمة هذه المقاربة بصوغ مفهوم للفلسفة لا يختزلها في تاريخها، إنّما يستجمع فضلا على تاريخها التّمرين على التّفكير وفقا لقيم الفعل الفلسفي كالنّقد والتّحليل والسّؤال والتّجديد... ويكون الغرض من هذا كلّه: إرادة الوصول إلى الحقّ؛ وهذا صرفا للنّشاط الفلسفي عن مناحي التّفكير التي لا تعترف إلاّ بالصّيرورة باعتبارها الثّابت الوحيد. وهذا حتّى يكون تفلسفنا تفلسفا موصولا بالصّيرورة الغائيّة.
ثمّ انعطفنا في الفصل الثّالث بالحديث في دخول السّؤال الفلسفي إلى فضاء الميديا وتأويل دلالتها. وهذا هو مقصودنا بعبارة «انفتاح الفلسفة على الحياة». قمنا بتشخيص العلاقة بين الفلسفة الإشهاريّة وموت الحقيقة، لأنّه في دائرة الوصلات الإشهاريّة يسود التّمويه والتّدبير الاحتيالي ويصبح الخداع والزّيف هو الحقيقة، وأنتجت هذه الآليّات الاحتياليّة ميلاد الواقع الفائق بماهو واقع لا يتطابق مع مبدأ أوغاية، وحده الاصطناع والمصطنع مهيمنا. أمّا مسلك الخروج من متاهة هذه التّوليتاريّة الإعلاميّة فهو الإنسان التّعارفي الذي مبناه التّكريم القيمي والتّخلّق الحيّ. والتّعارف لا التّواصل هو الذي يستعيد قيمة الحقيقة المطلقة بالمعنى التّعارفي التي شوهّتها ثقافة الإنسان الأخير .
الباب الثّاني : 
ويتناول قلق الفكر الفلسفي العربي المعاصر بين تأسيس الحداثة والانفتاح على مابعد الحداثة.وتفرّد الفصل الأول منه بالحديث في حدود مشروع الحداثة القيميّة بالمعنى الذي طورها فيه « طه عبد الرّحمن»، هذا المشروع الذي-برأينا- وقع فيما عمل على هدمه وفيما ظلّ يحاربه ؛ أي النّظرة التّجزيئيّة والتّقويم التّفاضلي لمكونات الفعل الحداثي المتوازن، وذلك لأنّه يختزل الحداثة في المبدأ الأخلاقي، في حين أنّ الحداثة هي كلّ هذا جميعا : تركيب متآلف للأخلاق والحسّ الجمالي ومنطق العمل والصّناعة أو التّقنية، ولأنّ الفعل الحداثي يقتضي البنائيّة المتوازنة والتّركيبيّة التّكامليّة، فإنّ هذه المحدّدات تندمج في منهج يعيد المفردات السّننيّة الجزئيّة لامتناهيّة الكثرة والتّنوع والاختلاف إلى أنساقها ومداراتها الكلّية المنتظمة، لذلك فالمنهج التّركيبي التّكاملي هو مسلك الدّخول إلى دورة حداثيّة تتحقّق فيها الشّروط التّالية: «الأصالة والفعاليّة والإطراديّة»، وأي إخلال أو تجزيء لهذه المحدّدات المنهجيّة توقع الفعل الحداثي في الاضطراب و اللاّفعالية والاهتلاكية.
 كما تفرّد الفصل الثّاني بالحديث في نموذج من الفكر الفلسفي العربي المعاصر ينفتح على ما يسمّيه «علي حرب» الأفق الرّحب لما بعد الحداثة، وذلك بتوظيف مطارق النّقد النّيتشوي ومقولاته التّدميريّة لإيديولجيا الحداثة، وذلك عبر نقد المفهوم الميتافيزيقي للحقيقة وتوظيف المنهج الجينيالوجي والتّنويع من استخداماته، ثمّ الخروج عن منطق الحداثة في التّفكير بالبحث عن إمكان وجودي مختلف هو: «ثقافة مابعد الحداثة» التي تُفقد الوجود ماهيته وقداسته، وينخرط تبعا لهذا التّأويل الفكر مع الحياة وتقلّباتها وصدف صراعاتها التي لا تتّجه إلى أيّة غاية ولا تتأسّس على أيّ نموذج؛ لأنّها إذ تقضي على فكرة الأصل تقضي في الوقت نفسه على فكرة الغاية، ويكون النّموذج الجمالي أداة رئيسيّة من أدوات إدراك العالم وتأويله والتّأثير فيه. غير أنّ انفتاح «علي حرب» على مابعد الحداثة عبر النّسف النّيتشوي لقيم الحداثة كما بدت لنا ليست قراءة مباشرة ؛ إنّما هي قراءة متأثّرة بتأويلات «هيدجر» له، ومتأثّرة أكثر بالرّؤية التّفكيكيّة التي طوّرها «جاك دريدا»، واستلهم تقنياتها «علي حرب»، من هنا كانت قراءته لنيتشه متوسّلة بنظارات «جاك دريدا». إنّها ذرائعيّة تجد ضمانتها في البحث عن متّكإ رمزي، ولم يكن هذا المتّكأ سوى «نيتشه» ككبش فداء لتبرير الاندراج في ثقافة مابعد الحداثة وتمجيد لغتها في الفهم والتّأويل.
أخيرا خاتمة الكتاب تضمنت أهمّ النّتائج المتوصّل إليها، عنوانها : من استكسال العقل إلى استنهاض الإرادة .
وليس لنا في خاتمة هذا التّقديم سوى أن نلهج بالشّكر للمولى تبارك وتعالى على تيسيره لنا في إتمام هذه المساهمة، وأن ينفع بهذا العمل كاتبه وقارئه، كما نسأله أن يوفّقنا جميعا إلى مسالك الخير والحقّ، إنه سميع مجيب.