للنقاش
بقلم |
![]() |
سعيد بنجرادة |
التربية الجنسيّة مدخل للإصلاح |
شهدت البشريّة كوارث عدّة، سواء طبيعيّة أو كان الإنسان سببًا فيها. وما تاريخ الإنسان إلاّ تاريخ الحروب، والغزوات، والثّورات، والدّمار، وأيضًا تاريخ الإصلاح والبناء. بناء عالم وحضارات متقدّمة، لها رصيد غنيّ يظهر جليًّا، سواء في الجانب المادّي الآلي أو الجانب القيمي الأخلاقي المحلّي الخاصّ بها.
إنّ أيّ إصلاح وبناء معيّن يأتي من المدرسة والتّربية؛ تربية النّشء والطّفولة على القيم التي نريد، بشرط ألاّ نقوم بأدلجتها لصالح جهة معيّنة لتسود قيمها، بل لصالح الوطن وبناء الأمّة وفي سبيل التّقدّم الحضاري بشقّيه المادّي والأخلاقي. ولنا أمثلة في التّاريخ، سواء في الماضي البعيد أو القريب.
عندما أرادت أوروبا بناء مجتمع ديمقراطي، بدأت من المدرسة ودرّست قيم الدّيمقراطيّة وآليّاتها. وعندما أرادت أن تشجّع على احترام حقوق الإنسان، عملت على تدريس القيم الكونيّة. وفي الحرب العالميّة الأولى، التي خلّفت خسائر كبيرة، خصوصًا في مكان الحرب (أوروبا)، عندما أرادت أوروبا إعادة بناء مجدها، عقدت مؤتمر التّربية الجديدة بتاريخ 5 غشت(أوت) 1921. ويُعتبر هذا المؤتمر حدثًا مفصليًّا في تاريخ الفكر التّربوي، حضره مفكّرون بارزون في التّربية، مثل «جون ديوي» و«ماريا مونتيسوري».
كان الهدف من هذا المؤتمر عدم تكرار الماضي الذي خلق دمارًا وخسائر بشريّة بسبب الحرب. لهذا، دعا المؤتمر إلى التّربية من أجل السّلام، وترسيخ التّسامح والاحترام من داخل المدارس. كما دعا إلى التّركيز على الطّفولة وجعل المتعلّم محور العمليّة التّعليميّة التّعلّمية، وذلك لردّ الاعتبار إليه في زمن الحرب، الذي خلق جيلًا من الأطفال تأثّروا نفسيًّا وجسديًّا بسبب الأوضاع المأساوية.
لقد ركّز الغرب على إصلاح المجتمع برمته وإنقاذه من الحروب عبر التّربية، نظرًا لأنّ التّربية هي أساس تشكيل العقول والقيم الحميدة، مثل قيم السّلام والتّسامح ونبذ الكراهيّة بين الشّعوب والقوميّة المتطرّفة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التّربية وسيلة لتغيير المجتمع على المدى الطّويل وضمان السّلام العالمي. لهذا، كانت المدرسة ساحة لتربية المواطن العالمي.
لكنّ شعوب شمال إفريقيا والشّرق الأوسط لم تفهم بعد أهمّية المدرسة، وهذا ما يجعلها تتخبّط في الأزمات وتعيش في تدنٍّ مستمر في كلّ المجالات. الأمر الذي جعلها غير قادرة على تحقيق تقدّم على المستوى المادّي أو الأخلاقي.
يشهد المغرب -مثله مثل العديد من الدّول العربيّة - أزمة مجتمعيّة نتيجة ارتفاع حالات الطّلاق والتّفكّكات الأسريّة، حيث إنّ الأسرة هي نواة المجتمع، فإذا فسدت الأسرة فسد المجتمع. يخبرنا المجلس الأعلى للسّلطة القضائيّة في آخر تقرير له أنّ القضاء يعرض عليه سنويًّا حوالي 500 ألف قضيّة متعلّقة بالطّلاق والحضانة والنّفقة، ممّا يعني أن ّمحاكم المملكة تستقبل 1,370 مغربيًّا ومغربيّة يوميًّا، بما في ذلك أيام الأحد والعطل.
وسنويًّا، يتزوّج 235 ألف مغربيّ ومغربيّة، يقابلهم في السّنة 131 ألف حالة طلاق، أي ما يعادل 360 طلب طلاق يوميًّا، بما في ذلك أيام الأحد والعطل أيضًا، أي 15حالة طلاق في السّاعة. في مقابل 100 مغربي يقدّم طلبًا للزّواج، يضع في الوقت نفسه 50 مغربيًا ومغربيّة طلب الطّلاق.
على سبيل المثال، في سنة 2020، وُضع 190 ألف طلب زواج، وفي المقابل وُضع 105 ألف طلب طلاق، أي أكثر من النّصف بنسبة 55 %.
إنّ المتأمّل في هذه الأرقام الخطيرة سيطرح بالتّأكيد مجموعة من الفرضيّات التي تشير إلى أسباب التّفكّك الأسري، منها أسباب مادّية واقتصاديّة، وأخرى تواصليّة، وقد تكون جنسيّة أيضًا. ولكن، ما هو العامل أو السّبب الأكثر تأثيرًا والذي يقف وراء هذه الأرقام الخطيرة؟
للإجابة عن هذا التّساؤل، نستحضر إحدى الدّراسات الحديثة التي قام بها الدّكتور والبروفيسور أحمد المنصوري، الأخصّائي في جراحة الكلّى والمسالك البوليّة والضّعف الجنسي. أظهرت هذه الدّراسة أنّ حوالي 46 % من الرّجال يعانون من ضعف الانتصاب، وأنّ 75 % من النّساء المتزوّجات غير راضيات عن حياتهنّ الجنسيّة. وقد أعلنت نتائج هذه الدّراسة خلال ندوة علميّة حول اضطرابات العلاقات الزّوجيّة وتأثيرها على وحدة الأسرة، حيث أكّد البروفيسور المنصوري أنّ هذه الاضطرابات قد تتطوّر وتؤدّي إلى أمراض نفسيّة خطيرة، ممّا يؤدّي إلى انفصال الأزواج في كثير من الأحيان.
أمام هذا الوضع الخطير جدًّا، لم تقف الجهات المختصّة مكتوفة الأيدي، بل قامت بالإعلان عن بدء ورش إصلاح مدوّنة الأسرة، اعتقادًا منها أنّ المرأة مظلومة قانونًا. لكن، من خلال الدّراسات التي أوردناها سلفًا، يتبيّن أنّ الجزء الأكبر من المشكلة هو مشكلة جنسيّة تتعلّق بالعلاقة الزّوجيّة في الفراش. لهذا، يمكننا القول إنّ التّربية الجنسيّة مدخل للإصلاح، فإصلاح مدوّنة الأسرة يجب أن يبدأ من المدرسة إذا أردنا تحقيق إصلاح فعلي.
لكن، قبل أن نتحدث عن التّربية الجنسيّة كأحد المداخل الكبرى للإصلاح، لا بدّ أن نورد مجموعة من الأسئلة التي تطرح نفسها:
لماذا ما زالت الكثير من الدّول العربيّة تعارض إدراج مادّة التّربية الجنسيّة في المناهج الدّراسيّة؟ لماذا يعتبرون الجنس رجسًا من عمل الشّيطان؟ لماذا يرى البعض في تدريس الجنس فسادًا للأخلاق؟ ألا يجب طرح المشكلة بجرأة أكثر، وعدم تركها أسيرة الحرام ونقاش الفقه؟
تعدّ التّربية الجنسيّة عمليّة تعليم للأفراد وتثقيفهم، خاصّة الأطفال والمراهقين، حول الجوانب المختلفة بالجنس والعلاقة الحميمية بين الأزواج. تهدف التّربية الجنسيّة إلى تمكين الأفراد من اتخاذ قرارات مستنيرة فيما يتعلّق بحياتهم الخاصّة. لكن، قد يتساءل البعض: لماذا نريد أن نفتح مدارسنا للغزو الغربي وندرّس الجنس؟ فإذا كان تدريس الجنس غزوًا غربيًّا، لماذا ندرّس الجهاز الهضمي والجهاز التّنفسي؟ ولماذا لا نعتبر هؤلاء غزوًا استعماريًّا غربيًّا؟
قبل أن نكشف عن الأسباب الرّئيسية وراء تدريس التّربية الجنسيّة أو علم الجنس، لا بدّ أن نذكّر ما قاله الفقه القديم عن الثّقافة الجنسيّة. أولًا، كان يُعتقد أنّ دم الحائض هو تغذية للجنين وينقلب إلى لبن عند الرّضاعة. كما يقول الإمام مالك إنّ مدّة الحمل قد تصل إلى ثلاث سنوات. لكن، نتائج الدّراسات العلميّة الحديثة المنجزة في حقل علم الهرمونات وعلم النّساء والولادة بيّنت حقائق أخرى مختلفة.
والطّفل العربي يحفظ خريطة العالم العربي وجغرافيّتها، ولكنّه لا يحفظ خريطة جسمه. يعرف كيف دخلت إيطاليا إلى ليبيا، وكيف دخل الاستعمار الفرنسي إلى المغرب والجزائر، ولكنّه لا يعرف كيف يدخل مرحلة المراهقة.
يقول الدكتور خالد منتصر في كتابه «الجنس تواصل لا تناسل»: «إنّ العرب مصابون بمرض فوبيا الجنس، وأوّل أعراضه هو «الجهل» بالجنس بيولوجيًّا ونفسيًّا. هذا يؤدّي إلى ثاني عرض له وهو «العجز»؛ العجز عن استيعاب الجنس بمعناه الاجتماعي والعلمي والنّفسي. يؤدّي هذا العجز إلى «تحقير» الجنس، وهذا التّحقير يؤدي إلى «الكبت». الكبت ناتج عن عدم إدماج الجنس في مشاعر الحبّ والتّواصل، فيؤدّي إلى «الحرمان» الجنسي، ممّا قد يؤدّي في النّهاية إلى «الاكتئاب»، كما أشرنا في الدّراسات السّابقة.فالمغاربة، على سبيل المثال، محرومون جنسيًّا على مستوى الكيف والنّوع. نحن نمارس الجنس كثيرًا، ولكنّنا نادرًا ما نحسّ به».
الكائن الذي يواجه رفيقه أثناء الجنس هو الإنسان، وإذاً، الجنس عند الإنسان تواصل لا تناسل، بهدف منح الطّرف الآخر الدّفء والتّواصل. أمام هذا الوضع، نحن بحاجة قصوى إلى تربية جنسيّة داخل مدارسنا. ولكن، كيف نتصوّر هذه التّربية؟
التّربية تنبع وتُبتدع من فلسفة المجتمع، ولا يجب ألاّ تناهض أيّ قيمة من قيمه. فإذا كانت الدّول العربيّة إسلاميّة، فإنّ فلسفتها إسلاميّة أيضًا. نحن لا نريد تدريس الطّفل في سنّ السّابعة كيفيّة الجماع، بل فقط تعريفه بأعضائه، وكيف جاء إلى هذا العالم الكبير. وهكذا، نواصل التّدرّج في تدريس التّربية الجنسيّة كلّما كبر الطّفل في العمر.
علينا ألاّ نبقى حبيسي تراث فقهي معيّن يعود إلى آلاف السّنين، لأنّ كتب الفقه هي اجتهادات فقهاء في زمانهم. ومع تطوّر العلوم والتّكنولوجيا، يجب أن نرمي عرض الحائط كلّ ما يتعارض مع ما توصّلت إليه العلوم الحديثة، وأن ندرس تربية جنسيّة كعمليّة شاملة وممتدّة.
فالمدرّس المغربي، عندما يدرس قصائد الغزل، فهو يدرّس ثقافة جنسيّة. وعندما يمنع مدرّس التّربية البدنيّة الفتاة من حصة «الجمباز» بحجة أنّها قد تفقد البكارة، يرتكب جريمة جنسيّة. أمّا مدرس الدّين والتّربية الإسلاميّة، فيجب أن يدرّس التّربية الجنسيّة، وإلاّ كيف سيتحدّث عن دم الحيض، والأرحام، والزّنا؟
ختامًا، نقول إنّ التّربية الصّحيحة والسليمة، التي تنطلق من حاجات المجتمع، هي الضّامن لنجاح المشروع المجتمعي وتماسك أعضائه. بهذا، لا يمكن تجاهل أهمّية التّربية الجنسيّة كجزء أساسي من بناء أجيال واعية وقادرة على مواجهة تحدّيات العصر.
|