قبل الوداع
بقلم |
![]() |
علي عبيد |
قُتِلَ أَصحَٰبُ ٱلأُخدُودِ |
عن أبي ذر الغفاري - رضي اللّه عنه - عن النّبي ﷺ فيما يرويه عن ربّه عزّ وجلّ أنّه قال : «يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا»(1). نصّ هذا الحديث على تحريم الظّلم بين العباد، وهو من أعظم المقاصد التي جاءت الشّريعة بتقريرها. وقال ﷺ : «اتقوا الظّلم، فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة،»(2) كان النّبي ﷺ حريصًا على إرشاد المؤمنين إلى محاسن الأخلاق وتحذيرهم من مساوئها، ويخبرنا ﷺ في هذا الحديث عن الظّلم ويحذّرنا منه بصوره وأنواعه، إذ إنّ عواقب الظّلم وخيمة في الدّنيا والآخرة، وأنّ الظالم يعود ظلمه عليه يوم القيامة بالظّلمات التي ستحيط به فلا يهتدي بسببها.
ولخطورة ظاهرة الظلم فقد عالجها ربّ العباد في كتابه الكريم في مواضع كثيرة ، واستعمل لفظ «الظّلم» ومشتقّاته حوالي 289مرّة ونزّل في كتابه سورا كاملة تحذّر من الظّلم والبغي بغير الحقّ، دون ذكر لفظ «الظّلم» ومشتقّاته مثل سورة «البروج» التي قال فيها سبحانه: ﴿وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلبُرُوجِ (1) وَٱليَومِ ٱلمَوعُودِ (2) وَشَاهِدٖ وَمَشهُودٖ (3) قُتِلَ أَصحَٰبُ ٱلأُخدُودِ (4) ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلوَقُودِ (5) إِذ هُم عَلَيهَا قُعُود (6) وَهُم عَلَىٰ مَا يَفعَلُونَ بِٱلمُؤمِنِينَ شُهُود (7) وَمَا نَقَمُواْ مِنهُم إِلَّآ أَن يُؤمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلعَزِيزِ ٱلحَمِيدِ (8) ٱلَّذِي لَهُ مُلكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٖ شَهِيدٌ (9) إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلمُؤمِنِينَ وَٱلمُؤمِنَٰتِ ثُمَّ لَم يَتُوبُواْ فَلَهُم عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُم عَذَابُ ٱلحَرِيقِ (10) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم جَنَّٰت تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُ ذَٰلِكَ ٱلفَوزُ ٱلكَبِيرُ (11)﴾.
وإذا نظرنا إلى هذه الآيات بمنظار العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، وحاولنا ربطها بواقعنا وما تعانيه البشريّة من حروب وويلات ومظالم، فإنّنا نستطيع القول أن أصحاب الأخدود هم كلّ ظالم ومفسد ومتسبّب في هذه الكوارث ومساهم من قريب أو من بعيد في إلحاق الضّرر بعباد الله، فالصّليبيون مثّلوا دور أصحاب الأخدود أثناء الحروب الصليبيّة على المشرق العربي وخاصّة على القدس حيث أحرقوا الأرض ومن عليها وقتلوا ومثّلوا بجثث المؤمنين على أعتاب بيت المقدس وفي كلّ أرض وطئتها أرجلهم، والدّول الاستعماريّة الغربيّة مثّلت أيضا دور أصحاب الأخدود في القرن التاسع عشر ونفّذت هجمة همجيّة على شعوب الدول الافريقيّة والآسيويّة، وخاصّة دول العالم الإسلامي وواصلت حملاتها الصليبيّة التبشيريّة ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلمُؤمِنِينَ وَٱلمُؤمِنَٰتِ ثُمَّ لَم يَتُوبُواْ ...﴾، فجعل اللّه بأسهم بينهم شديدا، فأشعلوا بينهم حربين عالميتين في النّصف الأول من القرن العشرين ذهبت بأرواح عشرات الملايين من الجنود والمدنيين، وخرّبت جلّ العواصم الأوروبيّة، واستعملت فيها الأسلحة الفتّاكة، ورأوا عذاب الحريق في الدّنيا قبل أن يروا عذاب جهنّم في الآخرة.
وما أن طووا صفحة الحربين العالميتين حتّى زرعوا دولة الكيان الصهيونيّ في قلب العالم العربي الاسلامي وباشروا حرب إبادة ضدّ الشّعب الفلسطيني منذ سنة 1948 وبلغت أشدّها بعد عمليّة «طوفان الأقصى» بمباركة غربيّة علنيّة، فكانوا بحقّ «أصحاب أخدود» هذا الزّمان وكانوا بحقّ على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وليسوا لوحدهم شهودا بل كان العالم كلّه شاهدا على جرائمهم الوحشيّة وتفنّنهم في قتل الأبرياء وحرقهم بالقنابل والصواريخ. أمّا إخوتنا الذين قتلوا من الغزّاويين سواء كانوا مقاومين أو مدنيين فؤلائك يحقّ فيهم قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم جَنَّٰت تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُ ذَٰلِكَ ٱلفَوزُ ٱلكَبِيرُ﴾.
إنّ من أشرس أشكال الظّلم «العداون»، وقد وردت الإشارة إلى العدوان في القرآن الكريم سبعاً وستين مرّة، وذلك في سياق استنكاره، والنّهي عن فعله، وألفاظه تلي ألفاظ الظّلم عدداً وتقاربها معنى، وقد اقترنت هذه الصّفة في القرآن الكريم بالإثم والبغضاء والظّلم، فمن ذلك ما جاء في قوله تعالى:﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾(النساء: 30).
لقد وعد اللّه الظّالمين بجهنّم وعذاب الحريق، ووعد اللّه حقّ. ولكنّه في نفس الوقت حرّض المؤمنين على صدّ العدوان بالشّكل المناسب ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾(البقرة: 194)، ووعدهم بنصرهم في الدّنيا وبالجنّة في الآخرة ﴿ ...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الروم: 47).
الهوامش
(1) أخرجه مسلم في صحيحه
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج 5، ص 119 الحديث عدد 2315
|