شخصيات الإصلاح
بقلم |
![]() |
التحرير الإصلاح |
أبوالريحان البيروني «العالم الموسوعي» |
ضيفنا في هذه الحلقة هو «أبو الريحان محمد بن احمد البيروني»، ولئن كان البيهقي والشهرزوري ينعتانه بأنّه من أجِلَّاء المهندسين، فإنّه ليس رياضيًّا قُحًّا، كسَلَفِه الخوارزمي أو أبي سعيد السجزي أو سواهما، بل يتقاطع مع قُطْب الرّياضيات والفلك قطبٌ آخر، هو التّاريخ والحضارات والأنثربولوجيا، ثمّ ما يستتبع تقاطعهما من مباحث تجريبيّة أبدع فيها البيروني، هي الجغرافيا والجيولوجيا والمعادن وأيضًا الطب والصيدلة. فلا ننسى الطابع الموسوعي للعالم في العصر الوسيط. الفلك والرياضيات أولًا وقَبْل كل شيء، والتاريخ والحضارة ثانيًا، ثم العلوم الطبيعية التجريبية، تلك هي مقاطعات علم البيروني.
هو إذن أحد العلماء الموسوعيّين في الحضارة الإسلاميّة الذين أبدعوا في ميادين مختلفة من فروع العلم والمعرفة وأثّروا في تاريخها وتطوّرها. كان رحّالةً وفيلسوفًا وفلكيًا وجغرافيًا وجيولوجيًا ورياضياتيًا وصيدليًا ومؤرخًا ومترجمًا لثقافات الهند. نبغ في الطّب والصّيدلة، وأتقن اللّغات وبرع في التّرجمة، وكان معتزّا باللّغة العربيّة ومفتخرا بها، مع أنّها ليست لغته الأمّ، وكان لا يكتب أعماله إلاّ بها، وصفه بعض المستشرقين بأنّه «أعظم عقليّة عرفها التّاريخ»، وقال عنه آخرون إنّه «بطليموس المسلمين».
ولد أبو الريحان محمد بن أحمد البِيروني الخوارزمي في إحدى ضواحي مدينة كاث، عاصمة الدّولة الخوارزميّة، (جمهورية أوزبكستان حاليا)، في يوم الثالث من ذي الحجة 362 هجرية، الموافق 5 سبتمبر/أيلول 973م. وقد سمّيت الضّاحية التي وُلِد فيها لاحقا باسم «بيرون»، تيمنا باسمه.
نشأ مثل أغلب أطفال المسلمين في عصره، فتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ودرس شيئا من الفقه والحديث، لكنّه تمّيز عن غيره من الأطفال بميله منذ وقت مبكر إلى دراسة الرياضيات والفلك والجغرافيا، وشغفه بتعلم اللغات، فأتقن الفارسية والعربية، والسريانية، واليونانية.
تتلمذ أبو الريحان في صغره على يد الأمير «أبي نصر منصور بن عَرّاق»، الذي ينحدر من أسرة حاكمة في خوارزم، وكان عالما جليلا ينسب إليه اكتشاف علم المثلثات. وأخذ عنه الرّياضيات، وقد تعهد ابن عراق تلميذه البيروني، ولمس فيه الحصافة وحب العلم والجدّ في العمل، فكتب له مؤلّفاتٍ خاصّةً به ليوسع مداركه وليقود مساره العلمي في الاتجاه الصحيح.
عاصر البيروني ابن سينا، وابن مسكويه والفلكي أبي سهل عيسى النصراني. لكنّ الاضطرابات والقلاقل التي نشبت في خوارزم اجبرته على الرحيل إلى الهند حيث مكث أربعين سنة، جاب خلالها البلاد باحثا منقبا، وعكف على دراسة لغتها، واختلط مع علمائها، ووقف على ما عندهم من العلم والمعرفة، واطلع على كتبهم في العلوم والرياضيات، ودرس جغرافية الهند وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها المختلفة، ودوّن ذلك كله في كتابه الكبير «تاريخ الهند».
كتب «البيروني» عددًا كبيرًا من المؤلفات في مختلف العلوم، ونقل في كتبه آراء علماء الشرق والغرب القدماء، وناقشها وأضاف إليها، فوضع المؤلفات في مناقشة المسائل العلمية المختلفة. ففي مجال الفلك قام بتعيين الجهات الأصلية وتحديد الأوقات، ومعرفة فصول السنة، وفسر ظاهرتي الكسوف والخسوف ورصد حركة أوج الشمس، وهو أبعد المواقع السنوية بين الشمس والأرض، وقام بقياس طول السنة على وجه دقيق، ولم يكن يخالجه أدنى شك في كروية الأرض، ولاحظ أن كل الأشياء تنجذب نحو مركزها فقال بأنّ «الأجسام تسقط على الأرض بسبب قوى الجذب المتمركزة فيها»، وقال إن الحقائق الفلكية يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض تدور حول محورها مرة في كل يوم، وحول الشمس مرة في كل عام. وقد دخل في كثير من المناقشات حول دوران الأرض وخاصة مع ابن سينا، كما اعترض على توقّعات أرسطو حول علم الفلك فهاجمه في إعتقاده بأنّ الأجرام السماوية ثابتة. كما اخترع «البيروني» بعض الأدوات المستخدمة في علم الفلك وترك لنا رسالة قيّمة عن الإسطرلاب.
وأبدع «البيروني» أيضاً في مجال الفيزياء فتحدّث عن سرعة الضوء التي لا تقارنها سرعة، وأنها تفوق سرعة الصوت بكثير، وقام بالعديد من التجارب الفيزيائية وشارك في علمي «الديناميكا» و«الإستاتيكا»، فتحدث عن كثافة المعادن وتأثير الحرارة فيها مثل الذهب والفضة والماء والنحاس والحديد والزئبق والبرنز. وقام بدراسات نظرية وتطبيقية عن ضغط السوائل، وعلى توازن هذه السوائل وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع، وظاهرة المدّ والجزر.
وكانت للبيروني إضافات كبيرة في علوم الرياضيات مثل وصفه لصورة واضحة في تثليث الزوايا في حساب المثلثات والدائرة، وبحث بحثًا مستفيضًا في خطوط الطول والعرض، وله إسهامات في علوم الأرض حيث وضع نظرية لحساب محيط الأرض وقد سُمّي «أبو الجوديسيا» وهي فرع من الرياضيات.
رغم اهتمامه بالعلوم التطبيقية، إلا أن «البيروني» أسهم في الأدب أيضًا؛ فكتب شرح ديوان أبي تمام، ومختار الأشعار والآثار. وبرع في التاريخ، فكان كل من قرأ مؤلفاته في التاريخ يشهد له بالبراعة لما له من دقة في الوصف وسعة في الثقافة وانفتاح على الأمم التي زارها. كما كان صاحب مؤلَّفات عديدة في الفلسفة، مثل: كتاب المقالات والآراء والديانات، ومفتاح علم الهند وغيرها. واشتهر أيضا بكتاباته عن الصيدلة وعن ماهيات الأدوية وأسمائها التي جمعها في كتابه «الصيدلة في الطب».
لا يؤرخ مؤرخ لأبي الريحان إلاّ ويقرّ له بالعظمة في العلم، بل ويصل بعض مؤرخي العلوم من الغربيين من بينهم «جورج سارتن»، المؤرخ العلمي الشهير، صاحب كتاب تاريخ العلم إلى أنّه من أعظم العلماء في كل العصور والأزمان.
ولمكانته العلميّة وبحوثه الرّائدة أنشأت جمهورية أوزبكستان جامعة بإسمه وأقيم له في المتحف الجيولوجي بجامعة موسكو تمثال يخلّد ذكراه، باعتباره أحد عمالقة علماء الجيولوجيا في العالم على مرّ العصور واختير من بين (18) عالمًا إسلاميًّا، أطلقت أسماؤهم على بعض معالم سطح القمر لما له من اسهامات في علم الفلك والفضاء.
ظل البيروني حتى آخر حياته شغوفًا بالعلم مقبلا عليه، متفانيًا في طلبه حتّى غادر الحياة في رجب سنة 440 هجري( 1048 ميلادي) عن عمر يناهز 78 عاما ، ودفن في مدينة غزنة (كابول) بأفغانستان. |