تأملات
بقلم |
![]() |
أشرف شعبان أبو أحمد |
أين ذهبت عزتنا؟ |
قال عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه: «نحن قوم أعزّنا اللّه عزّ وجلّ بالإسلام، فمهما ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا اللّه». والواقع والتّاريخ يشهدان بذلك. فما من زمان ومكان نحيا فيهما بالإسلام وللإسلام إلاّ وكنّا في عزّة ورفعة وإباء وفي صدارة الأمم، وما من وقت ومقام نعيش فيهما بغير الإسلام ولغير الإسلام إلاّ وكنا في موضع مهانة وهوان وفي مؤخّرة الأمم.
الشّواهد على الحالة الأولى، هو امتداد الفتوحات الإسلاميّة من غربي الصّين حتّى جنوب فرنسا، مرورا ببلاد شمال أفريقيا، كما ضمّت الأندلس وجنوب ايطاليا وصقليّة والبندقيّة، وخضعت كلّ جزر البحر الأبيض المتوسّط للحكم الإسلامي. وعندما أسلم المغول، كانوا للإسلام داعين ومبشّرين له بين قبائلهم، وأقاموا تحت ظلاله الإمبراطوريّات والممالك الإسلاميّة بأفغانستان وباكستان وشبه القارّة الهنديّة وبالملتان والبنغال وآسيا الوسطى وأذربيجان والقوقاز والشّيشان وفارس وغيرها من بلدان المشرق الإسلامي. وكان «تيمورلنك» قد أقام الإمبراطوريّة التيموريّة، وكانت عاصمتها «سمرقند» بوسط آسيا، وقد حكم إيران والعراق والشّام وحتّى الهند. وكانت وقتئذ طرق القوافل التّجارية العالميّة تحت سيطرة المسلمين، سواء طريق الحرير الشّهير أو تجارة المحيط الهندي بين الشّرق الأقصى وشرق أفريقيا.
كما أستطاع العثمانيّون غزو رومانيا والصّرب والبوسنة والهرسك والمجر وألبانيا واليونان وجورجيا وكرواتيا وأجزاء شاسعة من روسيا «القوقاز» وأوكرانيا «القرم»، كما حاصروا فينيا قلب أوروبا المسيحيّة. فضلا عن بلوغ التّتار المسلمين القوّة التي مكّنتهم من محاصرة موسكو وغزوها لولا قبول أهلها دفع الجزية لهم.
وما تبع ذلك من علوّ مكانة المسلمين وزيادة قوّتهم وهيبتهم بين الأمم وما عاد على بلادهم من خيرات: «روى أبو عبيد بإسناده عن سهيل بن أبي صالح، عن رجل من الأنصار، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرّحمن وهو بالعراق: أن أخرج للنّاس أعطياتهم. فكتب إليه عبد الحميد: إنّي قد أخرجت للنّاس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال. فكتب إليه: أن انظر كلّ من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه. قال: قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مال. فكتب إليه: أن زوّج كلّ شاب يريد الزّواج. فكتب إليه: إنّي قد زوّجت كلّ من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنّا لا نريدها لعام ولا لعامين». وفي واقعة مشابهة، وقف هارون الرّشيد يوما ينظر إلى السّماء فرأى سحابة تمرّ فخاطبها قائلا: «أمطري أنّى شئت فسيأتني خراجك».
بعث جورج الثّاني ملك إنجلترا والنّرويج والسّويد، برسالة إلى السّلطان الأموي هشام الثّالث في الأندلس، جاء فيها: بعد التّعظيم والتّوقير، فقد سمعنا عن الرّقي العظيم التي تتمتّع بفيضه معاهد العلم والصّناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل، لتكون بداية حسنة لاقتفاء أثركم، لنشر العلم في بلادنا، التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة «دوبانت» على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز، لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وفي حماية الحاشية الكريمة، وقد أرفقنا الأميرة الصّغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التّكرّم بقبولها، مع التّعظيم والحبّ الخالص، من خادمكم المطيع «جورج الثّاني».
ويحكي لنا التّاريخ أنّ امرأة مسلمة، أسرها الرّوم، أطلقت صيحة «وامعتصماه»، فما أن سمعها المعتصم حتّى هبّ من بغداد بجيش قويّ أرهب به الأعداء وخلّصها من الأسر. وهذه الواقعة ليست الفريدة من نوعها فقد أدّبت الدّولة الإسلاميّة كلّ من اعتدى على كرامة أيّ من أبنائها، أو على دبلوماسي من سفرائها، وهذا ما فعلته مع بني قينقاع لاعتدائهم على عرض امرأة مسلمة، كما جرّدت حملة عسكريّة لمعاقبة قرية مؤتة، لأنّهم قتلوا واحدا من المسلمين هو الحارث بن عمير الأزدي، وعندما أشيع أنّ عثمان بن عفان قتل يوم الحديبية، قرّر الرّسول ﷺ شنّ حرب على قريش ثأرا له. وفي واقعة أخرى، أرسل خالد بن الوليد رضي اللّه عنه رسالة إلى كسرى قال فيها: أسلم تسلم وإلاّ جئتك برجال يحبّون الموت كما تحبّون أنتم الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدّنيا، فلمّا قرأ كسرى الرّسالة أرسل إلى ملك الصّين يطلب المدد والعون والنّجدة، فرد عليه ملك الصّين قائلا: «يا كسرى لا قوّة لي بقوم لو أرادوا خلع الجبال من أماكنها لخلعوها».
ولمّا أسر الكفار «حبيب بن عدي» وأرادوا قتله، استمهلهم ليصلّى ركعتين قبل الشّهادة، فركع ركعتين ثمّ قال: «والله لولا أن تحسبوا أنّ ما بي جزعا لزدت، اللّهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا»، ثم أنشد: «ولست أبالي حين أقتل مسلما على أيّ جنب كان في اللّه مصرعي».
بعث نقفور ملك الرّوم إلى هارون الرّشيد رسالة كتب فيها: «أما بعد. فإنّ الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرّخّ وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها، وذلك لضعف النّساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا، فرد ما حصل لك من أموالها، وافتد نفسك وإلاّ فالسّيف بيننا وبينك». فلمّا قرأ الرّشيد الكتاب اشتد غضبه ثمّ كتب على ظهر الكتاب: «من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الرّوم، قرأت كتابك يا بن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه». ثمّ ركب من يومه وأسرع حتّى نزل على مدينة هرقلة وأوطأ الرّوم ذلاّ وبلاء وقتل وسبى، وذلّ نقفور الذي طلب الموادعة على خراج كما كانت تفعل الملكة من قبله فأجابه.
ولبيان مدى الحرص على عدم تدخّل قوى أجنبيّة في الخلافات بين المسلمين، فقد أرسل قيصر الرّوم لمعاوية قائلا: «علمنا بما وقع بينكم وبين علي بن أبي طالب، وإنّا لنرى أنّكم أحقّ منه بالخلافة، فلو أمرتني أرسلت لك جيشا يأتون إليك برأس عليّ». فردّ معاوية على هرقل قائلا: «أخوان تشاجرا، فما بالك تدخل فيما بينهما، إن لم تخرس أرسلت إليك بجيش أوله عندك وآخره عندي، يأتونني برأسك أقدمه لعلي».
سئل البطل التّاريخي نور الدّين محمود زنكي، لماذا لا تبتسم؟ قال:«كيف ابتسم والمسجد الأقصى المبارك في بيت المقدس راسف في قيود الذّلّ والهوان تحت سنابك خيل الأعداء».
هذا غيض من فيض، فلا يتّسع المجال لذكر فضل المسلمين والحضارة الإسلاميّة على العالم بأسره في شتّى مجالات الحياة. فالمسلم يدافع عن أخيه المسلم ويمنع عنه الظّلم، في أية بقعة أو مكان من العالم، مهما تباعدت الدّيار ومهما اختلفت الأجناس والألوان والألسنة، وأي اعتداء على أيّ مسلم فهو اعتداء على المسلمين أجمعين، ومن قتل نفسا مسلمة، فكمن قتل المسلمين جميعا، يجب التّصدي إليه والاقتصاص منه سواء كان القاتل فردا أو جماعة، وأيّ اعتداء على أيّة أرض مسلمة فهو اعتداء على أرض المسلمين أجمع، فإذا استغاث مسلمو فلسطين أو كوسوفو أو الشّيشان أو الفلبين أو الهند أو كشمير أو مسلمو أيّة دولة من دول العالم، وجب على سائر المسلمين أن يهبّوا عن بكرة أبيهم ليدافعوا عنهم، وقادة الجهاد الإسلامي أمثال صلاح الدين الأيوبي والظّاهر بيبرس وكثيرون غيرهما لم تكن حركتهم الدّائبة ومعاركهم المستمرّة، لقطر دون آخر، بل كانت في نطاق الوطن الإسلامي كلّه، ولقد سجّل التّاريخ الإسلامي عدّة حوادث تدور حول ممارسة الدّولة الإسلاميّة لسيادتها في هذا المضمار ممّا جعلها محلّ توقير ورهبة من الخصوم. وهذا الأمر مرتبط بإمكانيّات الجماعة المسلمة، ففي حالات الضّعف كان كلّ ما يملكه الرّسول ﷺ أن يقول: «صبرا آل ياسر فإنّ موعدكم الجنّة» أو يدفعهم إلى الذّهاب إلى النّجاشي الذي لا يظلم عند أحد.
أمّا الشّواهد على الحالة الثّانية، فقد تفكّكت دولة المسلمين وصارت عدّة دول أو دويلات متفرّقة تمزّقها الصّراعات والخلافات، لكلّ منها نظامها وقوانينها ورؤيتها الخاصّة، ولكلّ منها مواقفها المنفردة، ويعيش أغلب سكّانها فقرا وجهلا ومرضا لا يعيشه أيّ من سكان العالم. ولكي تعرف ما كنّا عليه، وما صرنا إليه، نقارن بين ما ترتّب على صيحة «وامعتصماه» وقتئذ، وما يحدث للمسلمين رجال ونساء وأطفال من العدو الإسرائيلي، وما يحدث في الدّول التي تسكنها أقلّيات مسلمة، وما يحدث في بعض دول الإسلام التي يحكمها حكّام ليس لهم من الإسلام إلاّ الاسم.
آلاف الفلسطينيين قُتلوا وآلاف غيرهم جُرحوا وآلاف مؤلّفة اعتقلوا، وصيحة «وامعتصماه» دوت في كلّ شبر من بقاع الأرض، في كلّ بيت وفي كلّ شارع وفي كلّ حيّ وفي كلّ مدرسة ومؤسّسة ومستشفى وثكنة عسكريّة، أطلقتها الجماهير المسلمة التي خرجت إلى الشّوارع مندّدة بالعدوان الإسرائيلي الغاشم على الشّعب الفلسطيني الأعزل، وأطلقتها بعض الدّول والأنظمة والأشخاص من غير المسلمين ومن غير المنتمين للإسلام، وأطلقتها الأرامل والثّكالى واليتامى، وأطلقها من هدّمت منازلهم ودمّرت ممتلكاتهم واعتقل أبناؤهم، وأطلقها المحاصرون الذين مُنع عنهم الماء والطّعام والدّواء، وأطلقها كلّ فتى وفتاة أقدما على الاستشهاد في سبيل اللّه ليدفعا عن وطنهما ظلم معتد غاصب، لا يراعي إلاّ ولا ذمّة ولا حرمة ولا دينا ولا خلقا ولا أيّا من الأعراف والمواثيق الدّوليّة، وأطلقتها أرواح الشّهداء في كلّ مجزرة أو مذبحة ارتكبها أعداء الإسلام ضدّ المسلمين، وأطلقها كلّ مهاجر ترك ماله ووطنه وهاجر ليبحث عما افتقده في بلاده من حرّية دينيّة وسياسيّة، أو عن سبل أفضل للمعيشة، فلم يجد إلاّ الذّل والهوان والاعتداء على النّفس والممتلكات، لكونه مسلما ولكون للطّرف المعتدي حقد وتعصّب ضدّ الإسلام والمسلمين، كلّ هذا الصّياح لم يجد آذانا صاغية لمعتصم واحد من قلب أكثر من مليار مسلم فيهبّ للدّفاع عنهم، فهؤلاء ﴿... لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(الأعراف: 179)
هل تجرّأ أحد من ملوك المسلمين وحكامهم على تجريد جيشه، لردع اليهود عمّا فعلوه ويفعلوه حتّى يومنا هذا في فلسطين ولبنان ولكي يستردّ الأرض المسلوبة، ولوقف المجازر التي حدثت من قبل في البوسنة والهرسك، والحرب الأمريكيّة على أفغانستان، ولصدّ الانتهاكات التي حدثت للعراقيّين إبّان الغزو الأمريكي، ومن قبل لمنع غزو العراق لدولة الكويت، والتي تعتبر من أعظم الكوارث التي أصابت المسلمين، في عصرنا الحالي، أو لمنع «بشار» و«حفتر» من قتل أبناء شعوبهما، ولإيقاف الصّراع الدّائر على السّلطة والحرب الدّائرة بين «حميدتي» و«البرهان» في السّودان، والذي بين الإمارات والسّعودية من جانب واليمن من جانب آخر. هذا هو حال المسلمين اليوم، فهل هذا يستدعي أن يكون لهم عزّة، فيما بينهم وفيما بينهم وبين سائر الأمم!!!! وصدق رسول الله ﷺ حين قال : «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حبّ الدنيا وكراهية الموت» .
فضلا عمّا سبق، فقد أخبرنا اللّه تعالى في كتابه الكريم أنّه ﴿ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(المنافقون: 8)، وهذه حقيقة لا تقبل الشّكّ ولا الجدال، فعندما يتواجد المؤمنون على خطى الرّعيل الأول من المسلمين، وتكون لهم دولة أو عدّة دول كلّ منها كتلك التي أنشاها الرّسول ﷺ في المدينة المنورة، وكلّهم على قلب رجل واحد، ويأخذون على عاتقهم الدّعوة إلى اللّه في ربوع المعمورة، لا يهابون الموت في سبيل اللّه، والدّنيا هي طريقهم للخلود في جنّة النّعيم، وقتئذ تكون لهم العزّة. وإعادة حرف الجرّ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾تأكيد أمر هذه العزّة، وأنّها متمكّنة منهم، لأنّها مستمدّة من إيمانهم باللّه وحده، يقول الرّاغب: «العزّة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، وهي صفة نفسيّة يحسّ بها المؤمن الصّادق في إيمانه، لأنّه يشعر دائما بأنّه عبد اللّه وحده، وليس عبدا لأحد سواه، ومن لا يشعر بالعزّة فليراجع إيمانه، فالمؤمنون الصّادقون أعزّاء ولو كانوا في المال والجاه فقراء. قال تعالى:﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾( آل عمران: 26)، كلّ الأمور طوع مشيئتك وقدرتك، تعزّ من تشاء بطاعتك وتذلّ من تشاء بمعصيتك، تعزّ من تشاء بالنّصر وتذلّ من تشاء بالقهر، وتعزّ من تشاء بالغنى وتذلّ من تشاء بالفقر، تعزّ من تشاء بالقناعة والرّضا وتذلّ من تشاء بالحرص والطّمع، فأنت المتصرّف في شؤون خلقك، لا رادّ لقضائك ولا معقّب لحكمك وإنّك على كلّ شيء قدير.
وقال تعالى ﴿... وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾(الحج: 18) أي من يذلل اللّه ويهينه فلا يكرمه أحد، فاللّه يكرم ويهين، والسّعادة والشّقاوة بإرادته ومشيئته. قال الفخر الرّازي: وقوله تؤتي الملك من تشاء محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النّبوّة وملك العقل والصّحّة والأخلاق الحسنة وملك النّفاذ والقدرة وملك المحبّة وملك المال، وذلك لأنّ اللّفظ عام فالتّخصيص من غير دليل لا يجوز.
وقال تعالى منكرا سلوك من يتّخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بهدف أن يجدوا عندهم القوّة والنّصرة والمنعة، بأنّ العزّة للّه جميعا: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾(النساء: 139) ففي فترة من الفترات التجأت بعض دولنا الإسلاميّة إلى بلاد الشّرق الشّيوعي، لتأخذ منها منهجاها في إدارة شؤونها، وفرضته على حياة شعوبها، وبعد فترة وجيزة من الزّمن، إذ بالشّيوعيّة تسقط وتهوى في عقر دارها، كنظريّة وكتطبيق وكدولة عظمى، ولم تفق هذه الدّول إلاّ على تخلّف وفقر وهزائم ألحقت بها في مختلف المجالات. ثمّ التجأت نفس هذه الدّول بعد ذلك إلى بلاد الغرب الرّأسمالي لتأخذ منه أسوأ ما لديه، ولتعيش على استهلاك منتجاته، وهذه الدّول لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر، بل بعضها تشرّع للمنكر وتقنّنه وترسّخ وجوده، وإن لم يسقط الغرب وتتهاوى حضارته إلى الآن، فسرعة الانهيار وبطؤه متعلّق بمشيئة اللّه تعالى وإرادته، وستجري فيها سنن اللّه تعالى التي جرت في الأمم البائدة، وستزول يوما ما كما زالت حضارات جمّة قبلها، قال تعالى:﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾(الأحزاب: 62)، وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(غافر: 82)، فلا هؤلاء ولا هؤلاء مهما أوتوا من قوّة ومهما بلغوا من رفاهية في مستوى المعيشة ينطبق عليهم وصف الخيريّة، فالخيريّة التي وصف بها عزّ وجلّ الأمّة الإسلاميّة منوطة بتحقيق أمرين أساسين أوّلهما الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. وثانيهما الإيمان باللّه تبارك وتعالى وبجميع ما أمر به. قال تعالى:﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾( آل عمران: 110).
أخيرا إنّ الإسلام يأبى على معتنقيه أن يستذلّوا، بل إنّه لم يجعل في قلب المسلم مكانا للذّلّ، إلاّ ذلّ التّواضع والرّحمة لأخيه المسلم:﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(المائدة:54)، وليس بمعنى أذلّة هنا أنّهم مهانون، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرّفق ولين الجانب للمؤمنين، وقوله أعزه جمع عزيز وهو المتّصف بالقوّة والامتناع عن أن يغلب أو يقهر. قال الطّيبي: إنّ قوله تعالى أعزّة على الكافرين جيء به للتّكميل، لأنّه لمّا وصفهم قبل ذلك بالتّذلّل، ربّما يتوهّم أحد أنّهم أذلاّء محقرون في أنفسهم، فدفع ذلك الوهم، بأنّهم مع ذلّتهم على المؤمنين، أعزّة على الكافرين. وقال تعالى:﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾(الفتح:29)وفيما عدا ذلك فلا ذلّ ولا استذلال، إنّما عزّة واعتزاز على كلّ من في الأرض.
وأولى خطواتنا لاسترداد عزّتنا هي الارتباط بالإسلام وتطبيقه كاملا في حياتنا، بجهاد النّفس وجهاد الشّيطان وجهاد الكفّار والمنافقين وسائر أعداء الدّين، فمن سلك سبيل رسول اللّه ﷺ في الجهاد عزّ، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذلّ، قال رسول الله ﷺ: «إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل اللّه سلّط اللّه عليكم ذلّا لا ينزعه من رقابكم حتّى تراجعوا دينكم». |