همسة
بقلم |
![]() |
د.علي رابحي |
في شرف النّضال |
شرف الإنسان نبل أخلاقه وسموّ عقله وجميل أفعاله، والنّضال شرف، فهو حركة إنسانيّة حاضرة حضور الإنسان المجبول على التّلاقي والتّعارف من أجل التّرقّي والاستمرار، وأيضا التّدافع والمقاومة عند الاقتضاء من أجل البقاء، والشّاهد على ذلك وقائع التّاريخ وأحداثه والتّراكم الحضاري المشهود.
بشكل مقتضب، يراد بلفظ «النّضال» لغة أكثر من معنى، منها الدِّفَاعَ قولا وفعلا، فنقرأ في «لسان العرب» لصاحبه ابن منظور: «ناضلت عنه نضالا: دافعت»، واصطلاحاً مفهوم النّضال الثّقافي والاجتماعي والسّياسي باعتباره ممارسة أو سلوكا إنسانيّا لا يخرج عن هذا المعنى اللّغوي، فيطلق ويراد به التّدافع والاحتجاج والمنافحة والمعارضة والمنازعة والممانعة والمناهضة والمقاومة والكفاح والمجابهة والمواجهة والجهاد والصّراع والتّصدّي والذّود وغيرها من المصطلحات القريبة في المعنى مع اختلاف الألفاظ.
والمناضل هو من يصمد أمام إعصار الضّغوط من أجل نصرة فكرة معيّنة يؤمن بها ويبذل الوقت والجهد لتحقيق مقصدها، وكلّه استعداد للتّضحية ليحيا غيره، ولا ينتظر من عطائه جزاء ولا شكورا.
شرف المناضل من شرف النّضال، غير أنّ الملاحظ حاليّا كثرة المناضلين، وقلّة الشّرفاء، فعجّت المنابر، وشحّ العطاء. وأخذ مصطلح النّضال في حديثنا يُنزَّل في غير محلّه، ويُحَمَّل ويَحْمِل ما لا يَحْمِل ولا يتَحَمَّل، ولا يفي مفهومه بالتّحديد؛ لبعثرة معناه في تمثّلنا له، وتشتيت الرّؤى بخصوصه، والتّشكيك في مصداقيّة الفكر الإصلاحي وحاملي المشاريع التّجديديّة، علما أنّ الذّاكرة الجماعيّة تستحضر فكرة النّضال وآلياته بوصفهما مدركات ارتبطت بحركات التّحرّر، والدّفاع عن حقوق الإنسان في كلّ الأبعاد.
النّضال مَثَلُه مَثَلُ أيّ قول أو فعل يأتيه الإنسان، مقاصده لا تخرج عن ثلاثة أوجه: إمّا ضروري ضرورة وجوديّة، وإمّا حاجّي يلبّي حاجة آنيّة، وإمّا تحسيني يتلمّس تحسين التّموقع داخل المجتمع.
إنّ المناضل مَن صدق وعده مع نفسه ومع غيره، وأوفى بعهده للأغيار وتعهُّده للقضايا، وعاش إلى أن يُقضَى أمره أو يَقضِي نحبه، منتصب القامة، صامدا لا ينحني ولا ينكسر أمام إعصار الإغراءات والضّغوط، متساميا عمّا تمجه الأعراف ولا يلِيق بالإنسان السّوي كالاستعلاء والتّكبّر والتّفاخر والتّباهي، ومتحلّيا بالأخلاق الفاضلة والنّضج الحضاري، ومتّصفا بالتّرفّع عن الصّراع المتوحّش من أجل البقاء والتّسلّط على حساب الآخر، والإيمان بعقيدة الإيجابيّة والتّواصل والتّسامح والعيش المشترك. وتقبّل الآخر وآرائه وحرّيته في التّعبير، لكيلا يتحوّل النّضال إلى تعصّب وصراع بين الأفراد، ونضال من أجل النّضال فحسب، بل دفاعا عن الحقّ وواجبَ عين على كلّ فرد قادر في المجتمع.
فليس الشّريف شريف المال أو الجاه أو النّسب، وليس المناضل ذلك الأعمى والأخرس والأبكم، في برجه العالي لا يرى ولا يحفل ولا يلتفت لما دونه، في عالمه الهلامي بعيدا عن عالم النّاس، لا يسمع نبض الشّارع ولا يصغي للأسئلة من حوله، مستكين في سلبيّته لا ينبس ببنت شفه تقضى بها الحوائج، أمرا بالمعروف ونهيا عن منكر.
فلنكن صرحاء، فأنا لم أتكلّم إلاّ بما أعرف وتعرفون، وعمّا أفهم وتفهمون، وأعلم علم اليقين أنّكم لم تعيرونِي أسماعكم إلاّ لأنّي أعرتكم لساني رأس مالي، وعبّرت عمّا وبما تشعرون، وعن مسكوت عنه غشّاه غبش الخوف وران عليه واستحكم البوح والكلامُ.
|