تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
قانون العصبية
 من بين أعظم العقول التي سطعت في سماء الفكر الإنساني، يتلألأ اسم ابن خلدون ببريق لا يضاهى. فقد كانت إسهاماته الفذّة في فهم تاريخ الحضارات وتفسير ظواهر انهيارها وتكوّنها لا تضاهى. ومن بين أفكاره التي برزت بوضوح وأثّرت في الفكر السّياسي والاجتماعي، فكرة «العصبيّة» تبرز كأحد الرّكائز الأساسيّة التي بنى عليها نظريّته الشّاملة لتكوّن الدّول وسقوطها (1) .
العصبيّة، كما وصفها ابن خلدون، هي الرّابطة الاجتماعيّة التي تنشأ بين مجموعة من النّاس على أساس الانتماء إلى مجموعة معيّنة، سواء كانت هذه المجموعة عائلة أو قبيلة أو دين أو أيّ جماعة أخرى. وفي هذا المفهوم تمثّل العصبيّة الرّوابط العميقة التي تربط الأفراد ببعضهم البعض، وتجعلهم يعملون معاً كمجموعة متماسكة، تتحرّك باتجاه أهداف مشتركة.
لدى ابن خلدون، كانت العصبيّة قوّة محرّكة للتّاريخ. إنّها القوّة التي تدفع النّاس للتّعاون والتّحالف، وبالتّالي إلى تكوين الدّول. فعندما يشعر الأفراد بالانتماء إلى مجموعة معيّنة، فإنّهم يجتمعون سويّاً لحماية مصالحهم المشتركة وتحقيق أهدافهم. ومن هنا، ينشأ المجتمع المنظّم، وتتكوّن الدّول، وتتطوّر الحضارات.
ولكن، بالرّغم من أهمّية العصبيّة كقوّة محرّكة للتّاريخ، إلاّ أنّها أيضاً قد تكون سبباً في انهيار الدّول. فعندما تتفكّك العصبيّة، وتتلاشى الرّوابط الاجتماعيّة، فإنّ المجتمع يفقد وحدته وتماسكه، ممّا يؤدّي إلى تفكّك الدّولة وسقوطها.
إنّ فهم ابن خلدون لدور العصبيّة في تكوين الدولة وانهيارها يعتبر مساهمة فذّة في فهم الحضارات وتحليلها. فهو يسلّط الضّوء على القوى الدّافعة والمؤثّرة في مسار التّاريخ، ويفسّر كيفيّة تكوّن الأمم وتطوّرها وتدهورها. ومن خلال دراسته العميقة للعصبيّة، ندرك أهمّية فهم العوامل الاجتماعيّة والثّقافيّة في بناء الدّول وتحديد مصيرها.
يتمثّل أساس فهم ابن خلدون للعصبيّة في الفهم العميق لطبيعة الإنسان وتفاعلاته الاجتماعيّة. يرى ابن خلدون أنّ الإنسان بطبيعته اجتماعي ويميل إلى التّواصل مع الآخرين وتشكيل الرّوابط الاجتماعيّة. ومن هنا، يأتي دور العصبيّة كمفهوم مركزي في فهم سلوك الإنسان وتفاعلاته مع الكيان.
في العصر الحديث، لعبت العصبيّة دوراً حاسماً في تكوين الدّول وتحديد مصيرها. فعندما يتمكّن القادة والحكام من استغلال العصبيّة بشكل فعّال، يمكنهم بناء دول قويّة متماسكة تتمتّع بالاستقرار والتّطوّر. ومن ناحية أخرى، إذا تعثّرت العصبيّة وتفكّكت الرّوابط الاجتماعيّة، فإنّ الدولة تتلاشى وتنهار تحت وطأة الصّراعات الدّاخليّة والتّفكّك الاجتماعي.
لذلك، يمكن القول إنّ العصبيّة تمثّل نقطة الانطلاق والعنصر الأساسي في تفسير نشأة الدولة بأبعادها الثّلاثة وسقوطها في نظريّة ابن خلدون. إنّ فهم هذا القانون وتحليل تأثيراته يساهم في فهم أعمق لعوامل الاستقرار والتّحوّل في التّاريخ وتكوين الحضارات.
يمكن تقسيم الموضوع إلى جزئين؛ الأول نتحدث فيه عن القانون في ذاته، والثّاني عن القانون في موضوعه.  
الجزء الأول: قانون العصبيّة في ذاته   
ويمكن تقسيم الجزء الأول أيضا إلى عنصرين؛ الأول مواصفات القانون والثاني خصائص القانون.  
العنصر الأول: مواصفات القانون
تعتبر العصبيّة في فكر ابن خلدون واحدة من أهم المفاهيم التي تؤثّر في تكوين الدّول والمجتمعات وتحديد مصيرها. ولكي نفهم هذه العصبيّة بشكل أعمق، يجب التّطرّق إلى مواصفاتها التي يعتبرها ابن خلدون أساسيّة لوجودها وتأثيرها.
* أولاً، يشير ابن خلدون إلى أهمّية الشّعور بالانتماء كمواصفة أساسيّة للعصبيّة. يجب على أفراد العصبيّة أن يشعروا بالانتماء القويّ إلى نفس المجموعة، سواء كانت هذه المجموعة عائلة أو قبيلة أو دين أو أي جماعة أخرى. هذا الشّعور بالانتماء يعزّز التّماسك والتّلاحم بين أفراد العصبيّة ويدفعهم إلى العمل المشترك لتحقيق أهداف مشتركة.
* ثانياً، تتّضح أهمّية التّعاون والتّكافل كمواصفة أساسيّة للعصبيّة. إذ يجب على أفراد العصبيّة أن يتعاونوا مع بعضهم البعض ويساندوا بعضهم البعض في المواقف الصّعبة. هذا التّعاون يعكس الرّوح الجماعيّة والتّضامن الذي يجعل العصبيّة متماسكة وقويّة، وتمكّنها من مواجهة التّحديات والصّعوبات بنجاح.
* وأخيراً، لا يمكن إغفال دور القيادة في مواصفات العصبيّة، إذ يجب أن يكون للعصبيّة قائد قادر على توجيهها وتوجيه أفرادها نحو تحقيق أهدافها المشتركة. يعتبر القائد عاملاً حاسماً في استقرار العصبيّة واستمراريتها، حيث يمثّل الشّخصيّة الرّائدة التي تحفز الأعضاء وتوجّه طاقاتهم نحو التّطوّر والنّجاح.
باختصار، فإنّ مواصفات العصبيّة عند ابن خلدون تشمل الشّعور بالانتماء، والتّعاون والتّكافل، والقيادة الفعّالة. وتتجلّى هذه المواصفات في سلوك أفراد العصبيّة وفعاليّاتهم، ممّا يؤدّي إلى تشكيل مجتمع قويّ ومتماسك قادر على تحقيق النّجاح والاستمراريّة في ظلّ التّحديات المتغيّرة في العالم.
العنصر الثّاني: خصائص القانون
بالنسبة لابن خلدون، تمتلك العصبيّة خصائص تميّزها وتجعلها عنصراً حيويّاً في تكوين الهويّة الاجتماعيّة وتوجيه سير التّاريخ. دعونا نلقي نظرة على هذه الخصائص ونتوسّع في فهمها:
* أولاً، يعتبر ابن خلدون العصبيّة شعوراً فطريّاً يولد مع الإنسان. فهي جزء لا يتجزّأ من الهويّة الاجتماعيّة للفرد، حيث يشعر الإنسان بالانتماء إلى عائلته ومجتمعه منذ الولادة. يعكس هذا الشّعور الرّوابط العميقة التي تجمع بين الأفراد في الدولة، ويسهم في بناء الهويّة الفرديّة والجماعيّة.
* ثانياً، تعتبر العصبيّة قوّة محرّكة تمكّن أفرادها من تحقيق أهدافهم والدّفاع عن أنفسهم. فعندما يشعر الأفراد بالانتماء إلى مجموعة معيّنة، يصبحون عادةً أكثر استعداداً للتّعاون والتّضحية من أجل تحقيق أهداف المجموعة. وتتيح العصبيّة للأفراد التّمتّع بالدّعم والحماية والدّعم المتبادل، ممّا يعزّز قدرتهم على التّصدّي للتّحديات وتحقيق النّجاح.
* ثالثاً، تظهر العصبيّة كمتغيّرة مع مرور الوقت. فقد تضعف أو تقوى تبعاً للظّروف الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة التي يمرّ بها المجتمع. يمكن أن تؤدّي التّحوّلات في الظّروف الاجتماعيّة، مثل التّغيّرات الاقتصاديّة أو السّياسيّة، إلى تغيير في ديناميكيّات العصبيّة وقوّتها. وهذه الاستجابة الطّبيعيّة للتّغيّرات تجسّد قدرة العصبيّة على التّكيّف والتّطوّر مع مرور الزّمن.
باختصار، تتميز العصبيّة عند ابن خلدون بخصائصها الفطريّة والقويّة القابلة للتّغيير. وهذه الخصائص تجعلها عنصراً محوريّاً في بناء الهويّة الاجتماعيّة وتوجيه مسار التّاريخ، حيث تشكّل الدّافع والقوّة والمرونة التي تحدّد مسار التّطوّر والتّغيّر في المجتمعات البشريّة.
الجزء الثّاني: قانون العصبيّة في موضوعه
ويمكن تقسيمه أيضا إلى عنصرين؛ الأول مستلزمات القانون والثاني غياب القانون.  
العنصر الأول: مستلزمات القانون
في فلسفة العصبيّة عند ابن خلدون، توجد مجموعة من المستلزمات التي يجب توفّرها لضمان وجود العصبيّة وتأثيرها بشكل فعال. يمكن الوقوف على أربع نقاط مهمّة في هذا العنصر وهي:
* يعتبر وجود مجموعة من النّاس الذين يشعرون بالانتماء إلى نفس المجموعة أحد أهمّ المستلزمات للعصبيّة. يجب أن يكون هناك تجمّع للأفراد الذين يشتركون في القيم والمبادئ والهويّة الجماعيّة، سواء كان ذلك على أساس العائلة أو القبيلة أو الدّين أو الثّقافة أو أيّ جماعة أخرى.
* كما يتطلّب وجود العصبيّة شعور أفراد المجموعة بنفس المشاعر والأهداف والتّطلّعات. يجب أن يكون هناك توافق وتفاعل بين أفراد المجموعة، حيث يشعرون بالتّرابط والتّماسك والتّضامن مع بعضهم البعض.
* تعتبر القيادة عنصراً حيويّاً في مستلزمات العصبيّة، حيث يجب أن يكون هناك قائد قادر على تأطير المجموعة وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها المشتركة. يتحمّل القائد مسؤوليّة توجيه الأفراد، وتعزيز التّضامن والتّعاون داخل المجموعة.
* ينبغي أن تقوم العصبيّة على فكرة محدّدة تحدّد مرجعيّتها وتوجّهها. يجب أن يكون لدى أفراد المجموعة فهم مشترك للقيم والمبادئ التي توجّه سلوكهم وتوجّههم، وتشكّل الأساس لتشكيل هويّتهم الجماعيّة.
باختصار، توافر المستلزمات الأربعة المذكورة أعلاه يعتبر أساسيّاً لوجود العصبية وتأثيرها بشكل فعال. فوجود مجموعة متماسكة وموحّدة تتمتّع بشعور مشترك وتتبنّى فكرة محدّدة بقيادة قويّة يمكن أن يسهم في تحقيق أهداف المجموعة وتعزيز تأثيرها في المجتمع.
العنصر الثّاني: في غياب القانون
العصبيّة، كما نراها في فلسفة ابن خلدون، تمثّل الرّوابط الاجتماعيّة التي تربط بين الأفراد وتوجّههم نحو تحقيق أهداف مشتركة. وبناءً على هذا الفهم، يصبح واضحًا أنّ غياب العصبيّة يعتبر عاملًا مؤثّرًا بشكل كبير في ضعف المجتمع وعدم قدرته على تحقيق أهدافه.
قبل كلّ شيء، يعتمد تماسك المجتمع وقوته بشكل كبير على درجة التّماسك الاجتماعي والتّعاون بين أفراده. عندما يكون هناك غياب للعصبيّة، يتبدّد هذا التّماسك ويضعف الشّعور بالانتماء والتّضامن، ممّا يؤدّي إلى تفكّك المجتمع وانعدام القوّة الجماعيّة التي تساهم في تحقيق الأهداف المشتركة.
كما يترتّب على غياب العصبيّة تشتّت الجهود وضعف الاستجابة للتّحديات والمشكلات التي تواجه المجتمع. حيث يفقد الأفراد القدرة على التّعاون والتّضامن، وبالتّالي يصبحون غير قادرين على تحقيق أهدافهم بفعاليّة. وهذا قد يؤدّي إلى ضعف الاقتصاد وغياب التّنمية، وزيادة الصّراعات الدّاخليّة وعدم الاستقرار.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدّي غياب العصبيّة إلى انعدام القيادة الفعّالة والتّوجيه الصّحيح للمجتمع. فعندما يفتقد المجتمع إلى قادة قادرين على تأطير الأفراد وتوجيههم نحو تحقيق الأهداف المشتركة، فإنّه يصبح عرضة للفوضى والتّفكّك.
بشكل عام، يمكن القول أنّ غياب العصبيّة يمثّل خطرًا حقيقيًّا على استقرار المجتمع وتحقيق تطوّره وتقدّمه. فإذا لم يتمكّن الأفراد من بناء الرّوابط الاجتماعيّة وتعزيزها والتّماسك بينهم، فإنّ المجتمع يتعرّض لخطر التّفكّك والضّعف، ممّا يعرقل تحقيق أهدافه وتطلّعاته المشتركة.
ختاما، يعتبر قانون العصبية الخلدوني نظرية مهمة تفسر نشأة الدول وسقوطها. العصبية هي الرابطة الاجتماعية التي تنشأ بين مجموعة من الناس على أساس الشعور بالانتماء إلى نفس المجموعة. تعتبر العصبية قوة محركة للتاريخ، فهي التي تدفع الناس إلى التعاون والتحالف، وبالتالي إلى تكوين الدول.
الهوامش
(1)  وحين نتحدث عن الدول فهو أحد تمظهرات الكيانات