فقه المعاملات

بقلم
الهادي بريك
من فقه المعاملات الماليّة في الإسلام (11) نظام الإرث كفيل ببناء مجتمع أهليّ مستقلّ عن الدّولة
 لَكَمْ فينا من حَوَلٍ وعَوَرٍ، إذ أغوانا الغرب وأذنابه فينا، ونفث فينا أنّ نظامنا التّوريثيّ غير مأمون إذ يجعل نصيب المرأة أدنى من نصيب الرّجل. قصدا غضّ طرفه عن كلّ حسنات ذلك النّظام وحشر أنفه في مسألة لا يمكن حسن فهمها عدا بنظر موضوعيّ جامع غير مبتسر. وما كان ينبغي لأذنابه فينا إلاّ أن تهشّ له بأذيالها كما يهشّ الكلب إذ يستقبل صاحبه، وإنطلت الحيلة على كثيرين منّا. وكثيرون شحذوا أسلحة دفاعهم وأضحت شريعتنا في قفص الإتهام. ذلك هو مصير كلّ نظر موضعيّ لا موضوعيّ ومجتزإ لا جامع. 
من يستقرىء نظامنا التّوريثيّ يخلص بيسر إلى أنّه موضوع لأجل مقاصد عظمى لا تقوم حياة كريمة بدونها :
1 - كفالة مجتمع لا يتسوّل الدّولة.
من أعظم مقاصد نظامنا التّوريثيّ أنّه يعالج علاقة المجتمع بالدّولة معالجة تؤمّن للنّاس كرامتهم بوسائلهم الذّاتيّة، فلا يتسوّلون دولة قد تعجز عن كفالتهم، وقد تجور وتبغي عليهم، وقد تكون طائفيّة تؤثر هؤلاء على أولئك، أو جهوية تستأثر بعطاياها جهة وتحرم أخرى. ولذلك ردّت الشّريعة أموال العائلة للعائلة ذاتها ضمن دائرتها الرّحميّة سببا ونسبة (النّسبة هي ميراث القريب والسّبب هو ميراث الزّوجيّة). ولو ردّت الشريعة تلك الأموال إلى الدّولة لغامرت بها، إذ الدّولة ميّالة إلى الجور والقهر، إلاّ قليلا. وتكون الثّمرة المرّة هي حرمان القريب والصّهر من مال رحمه الذي ساهم فيه هو بنفسه في العادة بطريقة أو بأخرى. حتّى عندما تكون الدّولة عادلة صالحة، فإنّ مزيّة نظامنا التّوريثيّ هنا هو إعفاء الدّولة من أعباء ماليّة كانت ستنفق على المحتاجين. 
حتّى عندما ردّت الشّريعة بعض المال إلى الدّولة فإنّها وضعت له صندوقا خاصّا أو ديوانا. وهو ديوان العاملين عليها الذين يعتاشون من ذلك الديوان نفسه. وهو ضرب من ضروب العلاقة الصحيحة بين المجتمع والدّولة. والمقصود هنا طبعا هو مال الزكاة. 
وفي بعض الأحيان تضعف الدّولة ضعفا شديدا، بل تغيب سلطتها أو تسلب منها وتذهب رياح سيادتها كما هو حالنا اليوم. وكفالة لحاجات النّاس شيّدت لهم نظاما توريثيّا لا يتأثّر بكلّ تلك الأوضاع. لك أن تتصوّر اليوم أنّ الدّولة العربيّة هي التي تؤول إليها أموال الميراث. كيف تردّها لأصحابها وهي إمّا لا تؤمن بسلطان الشّريعة أصلا أو يحكمها أذناب الغرب أو أنّ سيادتها منهوبة مسلوبة. ومعنى ذلك أنّ أموال الميراث يبتلعها البنك الدّولي والدّول المتنفّذة.
خلاصة هذا المقصد الأسنى الأوّلي هو أنّ الشريعة أبت إلاّ أن تجعل أيدي المجتمع الأهليّ هي العليا حتّى حيال الدّولة، ومن باب أولى وأحرى حيال كلّ نهّاب سلاّب. 
2 - رصّ الصفّ المجتمعيّ من أبنيته الجذريّة.
حصر أموال الميراث في دائرتي السّبب والنسب فحسب (أي في العلاقة الرحمية والصهرية) مقصود منه شدّ تلك الدّوائر وشحذ سلائلها وتوطيد أركانها. إذ بذلك فحسب يكون الصفّ الإسلاميّ العامّ واحدا ومرصوصا. مثل الأبنية المادّية التي تشدّ أحزمتها الجذريّة السّفلية الأولى لتحمل ما يقع عليها من أعباء وأثقال. أليست الأمّة مجموعة شعوب وقبائل ومجتمعات؟ وهذه بدورها أليست مجموعة أسر وعائلات؟ فإذا تماسكت هذه سرى ذلك التّماسك إلى أبعد الآفاق. 
حقيقتان نحن عنهما غافلون كلّ غفلة :
أ- ما من مقصود لهذه الشّريعة من بعد دعوة النّاس إلى توحيد ربّهم الحقّ سبحانه بما يحرّرهم من غوائل العبوديّة لغيره عدا مقصود توحيد المسلمين حتّى وهم مختلفون فطرة كلّ إختلاف. أليس المسلمون ملح الأرض؟ فمن للنّاس إذا فسد ملح الأرض؟ كلمتان تحرّران حقيقة الإسلام : توحيد الخالق وتوحيد صفّ النّاس أن يتنازعوا فيقتل بعضهم بعضا. 
ب- الحقيقة الثّانية هي قدسيّة مؤسّسة الأسرة التي فيها يصنع كلّ إنسان جديد صنعا مادّيّا ومعنويّا، ومن ذا كان الحرص على أمن الأسرة مشدّدا، ومن ذا كذلك ظلّت محاولات الغرب المعادي لا تهدأ لأجل تحطيم قيم الأسرة كما تحطّمت عندهم، فنكون وإياهم في الشّقاء سواء.
ومن أسباب رصّ تلك الأبنية الجذريّة الدّاخليّة الأولى مداولة المال بين أعضاء الأسرة الواحدة الموسّعة. بل شمل ذلك الزّوجيّة لتتوسّع علاقات التّداول الماليّ. 
النّاس عندما يتكافلون ماليّا ومادّيّا، فإنّ ذلك أدعى إلى نسج خيوط الودّ بينهم وأنأى عن الإختصام والإحتراب. وعندما يعلم عضو الأسرة الموسّعة أنّ ذلك المال آئل إليه في جزء منه فهو يرعاه ويرعى صاحبه. تلك هي الفطرة السّوية للإنسان السّويّ.
3 - نظام الوصايا.
مهما حرّر النّاس في مزايا هذه الشّريعة بألسنتهم وأقلامهم فما بلغوا عشر معشار حقّها. النّاظر في النّظام التّوريثيّ يعلم بيسر أنّه معتدل متوازن يقوم على كفالة حقّ العائلة الموسّعة من جهة كما يقوم على حقوق غيرهم من خارج تلك الدّائرة ممّن يرزحون تحت مطارق الحاجة من جهة أخرى. ومن ذا فتحت الشّريعة لصاحب المال فرصة لإحتواء أولئك بوصاياهم التي لا تتجاوز الثّلث أن يجور ذلك على حقوق العائلة نفسها. كما أنّ نظام الوصايا الذي هو قرين نظام التّوريث يعالج في العائلة نفسها حالات إستثنائيّة قد لا يعالجها نظام التّوريث بسبب تلك الأوضاع الخاصّة الإستثنائيّة. كمن يموت أبوه في حياة جده إذ تكون الوصيّة الواجبة هنا معالجة عادلة وممكنة، فلا يحرم أولئك ويستأثر بالتّركة أبناء عمومتهم. نظام الوصايا من مزاياه تدارك حالات خاصّة إستثنائيّة، بل إنّه نظام يهدي صاحب المال فرصة أخيرة لإنفاق الخير قبل موته، فإذا ذهب ذلك أو بعضه في مشاريع إستثماريّة تعود بالنّفع على المحتاجين كان خيرا. وقد تذهب في أحباس وأوقاف تكفل للمجتمع حاجات وضرورات. 
قيام هذا النّظام على قيمة التّناصر.
هذا موضوع شديد الأهمّية ولم ينل حظّه من البحث لا في الغابر ولا في الحاضر. نصّ على ذلك بعضهم ولكن بإستحياء شديد وبكلمات قليلات. آن أوان بسط ذلك حتّى يعلم المشتغلون بهذا الضّرب من العلم أنّ سبب الميراث (سواء كان بسبب زوجيّة ومصاهرة أو بسبب رحميّة وقربى) هو ما يغلب على أعضاء العائلة الواحدة الموسّعة من قيم التّناصر على جمع ذلك المال وحفظه، ولكن بطرق كثيرة. بعضها معلوم معروف وبعضها الآخر لا يبصره عدا المتأمّل المتريّث. في مقابل قيمة التّناصر تأتي قيمة الرّحمية. رعاية العلاقة الرّحمية معلوم معروف، ولكنّه هو نفسه قائم على التّناصر بين الأرحام (وخاصّة فروع صاحب المال، أي ولده مهما سفل، وأصوله، أي أبواه مهما علوا). إذ يتناصر في العادة - التي هي محكّمة - الولد مع والده. وهذا مع ذاك كذلك في حلقات كثيرة وطويلة لأجل ذلك المال سواء كسبا أو حفظا أو تيسيرا لأسباب كسبه وأسباب حفظه. ذلك هو معنى التّناصر الرّحميّ. ولكنّ ذلك التّناصر يقوم كذلك بين الزّوجين ممّن ليس بينهما علاقة رحميّة مباشرة وقريبة، إذ في العادة يتناصر الزّوجان على كسب ذلك المال، ولكن بطرق غير مباشرة. وذلك عندما تهيّء الزّوجة أسباب البيت ومرافقه ليتفرّغ زوجها إلى كسب المال. ولو لم تفعل ذلك لما كسب مالا، ولو كسبه ما حفظه. وفي الأعمّ الأغلب لا يكسب أحد مالا ثمّ يحفظه ويستثمره فيدرّ عليه ما يدرّ عدا بحلقات من التّناصر طويلة. ولكنّ بعضها غير معلوم للنّاس. الخلاصة من هذا هي أنّ سبب الميراث ليس هو الرحميّة فحسب. ولكنّ سبب التّناصر كذلك قويّ وملحوظ. وقد مرّ بنا أنّ التّناصر قويّ حتّى في الدّائرة الرّحميّة. المقصود من كلّ ذلك هو أنّ من عمل لأجل كسب المال وحفظه وإستثماره وكان في الآن ذاته عضوا إمّا في دائرة الرّحم أو في دائرة الزّوجيّة له حقّ في ذلك المال بسبب عمله تناصرا على كسبه وحفظه ولو بوسائل لا يراها كلّ من هبّ ودبّ. 
ومن ذا فإنّ رعاية الزّوجة غير المسلمة بنصيب من ذلك المال وصيّة لا تتجاوز الثّلث مطلوب ومفروض رعاية لسبب التّوريث، أي التّناصر، وخاصّة بين الزّوجين. ولا يجور ذلك على حديث صحيح قاض بعدم وراثة بين مختلفي الدّين. ولكنّ الحديث له دراية غير التي درج عليها النّاس، إذ قرأ بعض الصّحابة أنّ درايته متّجهة إلى زمن كاف يفصل في تلك الأيام بين الإيمان والكفر. بل إنّ المعنيّ هنا - وفي مواضع أخرى كثيرة - هم المحاربون، وليس الكفّار المسالمون. ولذلك ورّث اولئك الصّحابة المسلم من الكافر. 
وقبل ذلك وبعده ليس هناك ما يقيّد مطلقه سبحانه في قوله ﴿ولهنّ الرّبع ممّا تركتم... ﴾ (النساء: 12) فنحرم الزّوجة غير المسلمة التي ناصرت صاحب المال (زوجها) كلّ نصر لكسب ماله وحفظه وإستثماره. وهذا في زماننا معلوم معروف بالتّجربة وفي أوضاع كثيرة. وخاصّة في أوروبا وغيرها يكون التّناصر منها أقوى. وفي أحيان أخرى تكون هي القيومة على البيت بما أنفقت من مالها. وليس من ميزان الإسلام في شيء ولا من حكمته في شريعته التّوريثيّة حرمان تلك الزّوجة بسبب كفرها قياسا لها على محاربة. وهي التي قال فيها سبحانه ﴿..وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً.. ﴾(الروم: 21)، وقال ﴿...هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنًّ.. ﴾ (البقرة: 187) وجعل العلاقة سكنا وغير ذلك ممّا هو معلوم دينا وتجربة.
هذا موضوع جدير بإجتهاد جديد يواصل إجتهاد الصّحابة الذين علّمونا فقه دراية الحديث الصّحيح الذي يتّكىء عليه المشتغلون بهذا العلم بإطلاق لا معنى له. وغالب الظنّ عندي أنّ كثيرين اليوم لا ينقصهم ذلك الفقه ولكن تنقصهم الجرأة الأدبيّة العلميّة خوفا من ثائرة طوائف كثيفة من المنسوبين إلى العلم ممّن ينقلون، ولكنهم لا يفقهون ما ينقلون. ولكم صدق صاحب الرّسالة ﷺ إذ قال: «ربّ مبلَّغ أوعى من سامع وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه». 
خلاصة :
نظامنا التّوريثيّ لا يعيبه شيء ممّا يهرف به الهارفون من أذناب الغرب، عدا جمود في بعض القضايا التي آن لها أن يجتهد فيها من جديد سواء إنتقائيّا، أي ترجيحيّا أو إنشائيّا. ومنها الوصيّة الواجبة وضرورة تقنينها لمعالجة حالات طارئة أن يظنّ النّاس أنّ الشّريعة منقوصة. وكذلك توسيع مجالاتها، وليس حصرها فيمن مات أبوه في حياة جده فحسب. ولقد أحسن أحد أكبر فقهاء العصر إذ قال بالوصية الواجبة للزّوجة غير المسلمة. ومن ذلك كذلك إخضاع توريث الإخوة مع الجدّ لمعالجة حالات مختلفة. وليس إعتماد ذلك مطلقا ولا إلغاؤه مطلقا ولكن تراعى الحالات. وليس إجتهاد الصّحابة هنا (زيد وعليّ عليهما الرّضوان) مغلقا فإمّا توريث أو لا توريث. ومن ذلك كذلك تجميد باب توريث بيت المال (الدّولة) بسبب هويّة الدّولة العربيّة المعروفة اليوم. إذ هي دولة تابعة متذيّلة للقوى الدّوليّة النّافذة ومنزوعة السّيادة وليس على قرارها السّياسيّ الإستراتيجيّ والقوميّ فحسب ولا حتّى على مالها وثروتها فحسب، ولكن كذلك وفي أحيان معروفة على وحدتها التّرابية التي يسعى الطّاغوت الدّوليّ النّافذ إلى تمزيقه. توريث الدّولة اليوم قياسا على توريث بيت المال في تاريخنا هو توريث للبنك الدّوليّ الذي يسنّ سياساتنا الماليّة وينهب ثرواتنا. ومعلوم أنّ تراثنا الفقهيّ يشمل توريث الأرحام وتوريث الدّولة. وبعض الفقهاء قدّموا الدّولة على الرّحميّة، وهذا كانت له مسوغاته التي ذهبت وولّت. وبذا تكون جهات التّوريث : أصحاب الفروض ثمّ العصبة ثمّ الرّحميّة، فإن عدم ذلك تورث الجمعيّات الخيريّة وليس الدّولة. 
وقيل ذلك وبعده - خلاصة - لا بدّ من البصر الثّاقب من لدن علماء الميراث بالحكمة العليا العظمى العامّة من نظام التّركات، إذ في ضوئها يستهدي العالم فيما يعالجه وخاصّة في الحالات الطّارئة. 
وما يقتضي ذلك من إعراض عن لغو اللاّغين حول نصيب المرأة أنّه نصف نصيب الرّجل، فهو نظر أحول ومشي أعرج. إذ هدف الإسلام من ذلك مسك الأسرة على صراط سويّ من جهة وتحرّي العدل - وليس المساواة العمياء - من جهة أخرى.  ونحن اليوم أبصر النّاس بحال الذين تنكّبوا قيم العدل وأغروا المرأة بحرّية بهيميّة غير مسؤولة، فكانت الثّمرة المرّة تحرّر المرأة من ذاتها وهويّتها وأسرتها. وما أغنى عنها مالها من شيء إذ هي عجوز ملقاة في مآوي المسنّين أو وحيدة في بيتها يرعاها كلب وفيّ بعدما غدر بها أهلها. وقبل ذلك وبعده حرّروها من نعمة الأمومة وربوبيّة عائلة وأسرة وبيت ودفء رحميّ.