في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
احتياجات رفع التّحديات التّنموية المقال الرّابع: سياسات للتّنمية الشّاملة
عرضنا، في سياق تحديدنا لاحتياجات رفع التّحدّيات التّنموية، في مقال أوّل، الحاجة لمُقاربة تنمويّة بديلة نظرا لمحدوديّة المقاربة التّقليديّة، ولاختلال موازين القوى عالميّا ومحلّيّا، ولاستهداف العنصر البشري وتهديد مستقبله ومصيره(1)  ثمّ في مقال ثانٍ، لِمَا رأيناه كفيلا بالتّمهيد لرفع تلك التّحدّيات من أسس لتلك المقاربة البديلة من كتاب وميزان وحديد ليقوم النّاس بالقسط ولضمان النّفع لجميع النّاس.

وبعد عرضنا لملامحَ تلك المقاربة من حيث أنّها مقاربة ذات أبعاد ثلاثة، أوّلها أنّها إيمانيّة ذات مرجعيّة إلهيّة مُعبّر عنها من خلال القرآن الكريم، وثانيها، أنّها مقاربة نفعيّة عالميّة توحيديّة عامّة، وثالثها، أنّها مقاربة تشاركيّة جماعيّة تشاوريّة تهدف إعادة هيكلة النّفوس والعقول، ومن ثمَّةَ إعادة هيكلة الأهداف والغايات وكذلك إعادة النّظر في المُمَكِّن وفي نهج التّمكين والمعنيّين به(2). حدّدنا في مقال ثالث(3)، نمطا للتّنمية أطلقنا عليه صفة الشّموليّة، يحتاجه النّاس ليتحقّق وعد اللّه لهم بذهاب الزّبد، زبد المقاربة التّنمويّة التّقليديّة المُهيمنة، ومُكُوث النّفع لهم، ولِضمان الحفاظ على ما منحه الخالق للإنسان من كرامة وحرّية ورزق وتفضيل على كثير من الخلق.والتّنمية الشّاملة لا ترتكز حصرا على النّمو الاقتصادي بل تتعدّاه لاعتماد النّمو الشّامل باعتباره أسّا من أسس سياسات تعميم التّنمية الّتي تهدف الى أن يستفيد منها الجميع وأساسا الذين تمّ إقصاؤهم منها اقتصاديّا وماليّا (4)  وهذا النّمو الشّامل يقوم على ركائز أربع هي: • استراتيجيّة النّمو المحرّك للتّشغيل،  • التّمويل الشّامل، • الاستثمارات في أولويّات التّنمية البشريّة، • التّدخّلات المتعدّدة الأبعاد العالية التّأثير والمحقّقة للمكاسب للجميع.وتبنّينا نمط التّنمية الشّاملة كعنوان للمرحلة القادمة مَرَدهُ فشل العمليّة التّنمويّة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وعدم تحقّق أهدافها المعلنة، ويقيننا أنّ أهداف التّنمية المتبناة لن تتحقّق في جميع مجالات الحياة ما لم تتغيّر النّظرة المزدوجة للإنسان المرافقة لكلّ النّماذج التّنموية للمقاربة التّقليديّة والّتي مهّدت لما نشهده من فقر وبطالة ومرض وإقصاء وتهميش مِّما فاقم التّحدّيات التّنمويّة، ممّا يدعو الى إعادة النّظر في مفهوم الإنسان ودوره وطبيعة علاقته بأخيه الإنسان في اتّجاه التّخلص من النّظرة العنصريّة والتّحرّر من الدّوران في فلك الاقتصاد والمال والتّمحور حول القيم الّتي تُعلي من شأن الإنسان والحياة الطيّبة والعمل الصّالح، الّذي ينفع كلّ النّاس ويُحافظ على الأرض بَرّا وبحرًا وجوًّا. وهذه التّنمية شاملة لأنّ أهدافها شاملة تضمن الكرامة البشريّة والحياة الطّيبة للنّاس وتحول دون أن يعيشوا معيشة ضنكا، فهي أهداف تتمحور حول كرامة الإنسان وضمان النّفع له وترتبط بتوسيع الاختيارات لدى البشر(5) من خلال تعزيز حقوقهم وحرّيّاتهم وإمكاناتهم وفرصهم وتمكينهم من حياة مديدة وصِحّيّة ومُبدِعة، واحترام الذّات واحترام الآخرين(6)، كما أنّها تنمية ترتبط بتحقيق أهدافها الاجتماعيّة من إدماج، والحيلولة دون أيّ نوع من الإقصاء أو التّهميش، وهي تنمية تتطلّب تحقيق أهدافها الاقتصاديّة الّتي تضمن ديمومة الإنتاج(7)، لتوفير الكفاية لدى طالبيها وتحقيق الأهداف البيئيّة من حماية للمحيط والمحافظة عليه والحفاظ على شروط حياة سليمة للأجيال القادمة.ولتحقيق التّنمية الشّاملة لابُدّ من وضع مجموعة من السّياسات الهيكليّة والاجتماعيّة والبيئيّة والاقتصاديّة

.1.  السّياسات الهيكليّة 

نقصد بالسّياسات الهيكليّة تلك التي تهدف إلى إعادة هيكلة النّفوس والعقول ومن ثمَّةَ إعادة هيكلة الأهداف والغايات في اتجاه أن يقوم النّاس بالقسط ويعمّ النّفع الجميع، وما يتطلّب ذلك من إعادة النّظر في المُمَكِّن وفي نهج التّمكين والمعنيين به والتي تتطلب بدورها إعادة هيكلة القطاعات والمؤسّسات والتّنظيمات ووضع التّشريعات المُلائمة لكلّ ذلك وإشاعة المناخ المساعد على تحقيق مجموع تلك الأهداف.ولن يقوم النّاس بالقسط ما لم تُقَمْ موازين كلّ من الاقتصاد والسّوق والماليّة العموميّة بالقسط.فميزان الاقتصاد تستوجب إقامته بالقسط أمورا ثلاثة بالأساس وهي: - مُساهمة جميع النّاشطين في تحمّل تكاليف النّشاط الاقتصادي واستفادتهم جميعا بثمار ذلك النّشاط، وهذا يتطلّب التزام الجميع بثقافة الأخذ والعطاء وانخراط الجميع في التّنافس الشّريف والشّفّاف على تقديم الأفضل﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(المطففين: 26)-  توازن بين قطاعات الاقتصاد على مستوى مجالات النّشاط وكذلك على مستوى هياكل الإنتاج ونظام الملكية المعتمد لديها على مستوى جميع الجهات والأقاليم بالبلد شمالا وجنوبا، شرقا وغربا.- أولويّة اعتماد التّمويل الذّاتي للنّشاط الاقتصادي وقوامة الإنفاق، بدون إسراف أو تقتير، أو اكتناز بما يستجيب لحاجيّات المجتمع أفرادا وفئات وجهات وبشكل مُتوازن ومُنصف وألاّ يكون ذلك النّشاط على حساب الأجيال القادمة والبيئة والمحيط.وإقامة ميزان السّوق بالقسط يقتضي أمورا ثلاثة بالأساس: - مُلاءمة عرض المنتجات والخدمات الدّاخلية مع الطّلبات الخارجيّة في الأسواق الخارجيّة وهذا يتطلّب اشتغال كلّ من الاستثمار والتّصدير كمُحرّكين أساسيّين من محرّكات النّمو الاقتصادي بنسق سريع وبمستوى عال من الاتقان والإحسان لكسب معركة المُنافسة الدّوليّة.- توزيع جغرافي شامل في كامل مناطق البلاد للإنتاج، وتوفير كلّ متطلبات ذلك من تهيئة مناخ مُلائم وجذّاب للاستثمار وتوفير التّمويل اللاّزم والبنية الماديّة والرّقميّة الضّروريّة والإعداد الجيّد للفاعلين الاقتصاديّين ولكلّ النّفُوس والعقول والأيادي العاملة. - تدرّب الجميع، هياكل وأفراد على إقامة الميزان بين مستوى الاستهلاك والإنتاج وكذلك تطوّره وما يعنيه من إقامة الميزان بالقسط بين العرض والطّلب بما يُعدّل الأسعار ويُحافظ بالتّالي على المقدرة الشّرائية للمواطنين.  أمّا إقامة الوزن بالقسط على مستوى الماليّة العموميّة، فيتطلّب أمورا ثلاثة بالأساس:- زيادة حجم المداخيل ذات المصدر الدّاخلي عن حجم المداخيل ذات المصدر الخارجي، فضلا عن الحدّ من استحواذ الضّرائب على النّصيب الأكبر من هيكلة المداخيل الدّاخليّة.- جعل الانفاق العام محكوما بأداء دور القوامة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة دون الانزلاق، لا الى الاسراف ولا الى التّقتير، فكلّ إسراف هو إهدار للموارد المحدودة أصلا وكلّ تقتير هو ركود للنّشاط الاقتصادي المحدود أيضا، وبالتّالي تراجع لخلق الثّروة وعدم القدرة على الاستجابة لمتطلبّات الحياة والعيش للنّاس.- جعل الدّائرة الماليّة والدّائرة الاقتصاديّة شبه مُتطابقة حفاظا على الدّور الأصلي والأصيل للمال في النّشاط الاقتصادي إنتاجًا للسّلع وإسداءً للخدمات، لا أن يكون دُولة بين الأغنياء أو أن يكون رِبًا يمحقه اللّه وذلك حفاظا على اقتصادنا الوطني من الظّواهر المرضيّة كالتّضخم والرّكود والبطالة معا، الّتي تشلّ حركة النّاشطين فيه وينضب تبعا لذلك رصيدنا من السّلع والبضائع، وتتعسّر بذلك حياة النّاس ومعاشهم وتتّسع دائرة الفقر والحرمان بينهم. وللسّياسات الهيكليّة مُتعدّدة الأبعاد، النّاجعة والنّاجزة دور حاسم لإقامة تلك الموازين الثّلاثة بالقسط، ولعلّ المُنطلق لذلك يكمن في إعادة النّظر في كلّ من هيكلة ميزانيّة الدّولة، إيرادات وأعباء على حدّ سواء وفي هيكلة كلّ من الاقتصاد والسّوق، كلّ ذلك بعيدا عن السّياسات الهيكليّة، سواء المُوجّهة للسّياسات الكلّية للدّولة، من طرف صندوق النّقد الدّولي أو تلك المعنيّة بالتّنمية والمُحدّدة من طرف مجموعة البنك العالمي، نظرا لمخاطرها

.2.  سياسات مُتعدّدة الأبعاد

تتطلّب التّنمية الشّاملة مع السّياسات الهيكليّة سياسات متعدّدة الأبعاد منها الاجتماعيّة والبيئيّة وكذلك الاقتصاديّة

. 1.2.  السّياسات الاجتماعية 

للسّياسات الاجتماعيّة غايات منها التّنظيمي ومنها التّضامني وأيضا التّمكيني وآخرها الحمائي، فما دلالات تلك الغايات؟ وماهي مُولِّداتُها؟لغايات السّياسات الاجتماعيّة جذور في النّفس والذّهن والوجدان والضّمير الإنساني وهي بمثابة المُولّدات لها، فمنها العقدي التّصوّري ومنها الإرادي ومنها القيمي. فكلّما ازداد منسوب الايمان بعدم عبثيّة الوجود الإنساني كلّما زاد الاهتمام بالتّنظيم الاجتماعي في حياة النّاس حفاظا على الحقوق ومنعا للفوضى، ويكون ذلك من خلال سياسة تشريعيّة تهدف الى ترجمة التّوجهات الاجتماعيّة في الغرض الى نصوص تشريعيّة تنظيميّة لعمل الأشخاص ونشاطهم الاقتصادي، على سبيل المثال، ومحافظة على حقوق العمال وواجباتهم وعلى حقوق الأفراد والعائلات بمختلف مستوياتهم الاجتماعية وحقوق الانسان الاجتماعيّة في مختلف مراحل عمره.  وكلّما ازداد الاعتقاد في علاقة الأخوة الآدميّة بين جميع النّاس وما تقتضيه من تعاون كلّما زاد المدّ التّضامني في المجتمع بما يجعله كالبنيان المرصوص ويحميه من الاحتقان الدّاخلي والاضطرابات الاجتماعيّة، ولن يتحقّق ذلك الاّ بإعادة توزيع الثّروة المُنتجة على المستوى الكُلّي والدّخل العام بشكل مُنصف للجميع وبما يُوفّر الاحتياجات الأساسيّة لمن لا يقدرون على تلبيتها، وبإعادة توزيع الثّروة المُنتجة على المستوى الجُزئي من خلال تفعيل دور الزّكاة والتّمويل الجماعي عبر الصّدَقات وآليات الوقف. أمّا غاية التّمكين من تلك السّياسات والّتي تقف وراءها إرادة بشريّة مُتماهية مع إرادة إلهيّة فهو تمليك أفراد المجتمع قُدرات الاستفادة من الفُرص المُتاحة وحُسن التّصرّف في المُتوفّر ليَتجذّر وجودهم في مجتمعهم وأسواقهم، ويتطلّب ذلك  تقديم الخدمات الصّحّية الأساسيّة ونشر التّعليم للجميع دون استثناء وإيجاد بُنَى تحتيّة ورقميّة وهياكل مُساندة وإرشاد ومُصاحبة وجهات تمويل تشاركيّة يستطيع الجميع الاستفادة منها كلٌّ حسب حاجته، حتّى يكون للجميع موقع قدم في المجال الاقتصادي والمالي بشكل أو بآخر وبما يحمي الجميع من الإقصاء والتّهميش أو أن يكون عالة على أحد أو أن يقع بين براثن البطالة والفقر وبما يضمن مُشاركة الجميع في صنع القرار ليكون الكلّ سيّد أمره والكلّ مُشارك في تقرير مصيره ومصير وطنه.وأخيرا الغاية الحمائيّة للسّياسات الاجتماعية والمحكومة بإرادة الحفاظ على الكرامة البشريّة لأفراد المجتمع والحفاظ على وحدته وبقائه وذلك من خلال تمحور تلك السّياسات حول مكارم الأخلاق«إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت ***  فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهُم ذهبُوا».ولتلك السّياسات دور حاسم في حماية أفراد المجتمع من الانحراف والمجتمع ككل من الآفات والظّواهر المُلحقة ضررا بتلاحمه ووحدته، أو تلك الّتي تجعله عرضة للاختراق من طرف دُعاة «الماسونيّة والصّهيونيّة اليهوديّة المسيحيّة»، أو استهداف وُجوده من خلال إشاعة سوء الخلق بين أفراده وفئاته. ومن بين تلك السّياسات الاجتماعيّة والتي تعمل على حماية الأفراد والمجتمع ككل، نذكر السّياسات التي تقوم على تأصيل مجموعة من الحقوق لأفراد المجتمع وتكريسها كالحقّ في الصّحة والتّربية والتّعليم والتّكوين والحقّ في العمل وفي الشّروط السّليمة والملائمة له والحقّ في مستوى معيشي كاف ونوعيّة حياة راضٍ عنها والحقّ في الوصول للمعلومة وللأنشطة الثّقافيّة بحرّيّة، وكذلك السّياسات الّتي توجب حماية النّفس والمال والعرض والعقل والنّسل وحماية حرّية الأشخاص وممتلكاتهم. ومن السّياسات الاجتماعيّة التي تحتاجها التّنمية الشّاملة نذكر ما يلي:- سياسة الحدّ من الفقر عبر اتباع ما يلي: • سياسة تجفيف منابع الفقر المُتعدّدة؛  • سياسة التّمكين الاقتصادي لأصحاب القدرات العلمية التكنولوجية والفكرية الذهنية عموما والمهارات اليدوية؛  • سياسة التّمكين الاجتماعي لأصحاب الاحتياجات الخصوصية وغير القادرين على النّشاط الاقتصادي؛- سياسة الصّحة للجميع والتّعليم للجميع من خلال حزمة من السّياسات الفرعية حسب كل مجال:*  مجال الصّحة: - سياسة الصّحة لجميع المُقيمين والوافدين؛ - سياسة إصلاح المنظومة الصّحيّة برمّتها (عقليّة وتشريعات وهياكل وموازنات)؛ - سياسة الاختيار الأمثل أو الاستغلال الأمثل للإمكانيّات المتاحة؛ - سياسة الوقاية من الأمراض المزمنة وغير السّارية كالسّكري وضغط الدّم، والتّشجيع على ممارسة الرّياضة للجميع خاصّة وأنّ نسبة ممارسة الرّياضة في تونس منذ 2009 لم تتجاوز 16 % وتوفير البنى التحتية الرّياضية اللاّزمة؛  - سياسة الوقاية من أمراض السّمنة لدى اليافعين حماية لهم من الإصابة بالأمراض المزمنة غير السّارية في المستقبل، وحفاظا بالتّالي على عنصر بشري بأقل أمراض لسلامة حياته وآدائه الاقتصادي والتّنموي عموما.*  مجال التّعليم: - سياسة التّعليم للجميع صغارا وكبارا والحيلولة دون انقطاع النّاشئة عن التّعليم خاصّة في مراحله الأولى بتغيير نمط التّقييم المدرسي وعدم اتباع سياسة الرّسوب واستبدالها بسياسة الاجتياز الآلي الى مستوى معين ثمّ اتباع سياسة التّكوين المهني.  - سياسة إصلاح المنظومة التّعليميّة برمّتها (عقليّة وتشريعات وهياكل وموازنات)؛ - سياسة تحصين المجتمع وفئاته من التّصدّع والتّفكّك وأفراده من الانحلال والتّفسّخ من خلال غرس القيم الإنسانيّة ومكارم الأخلاق وتربية النّفوس عليها منذ نعومة الأظافر؛  - سياسة تعريب التّعليم وإعادة مناهجه ومضامينه وتشجيع البحث العلمي المنطلق من واقعنا التونسي بهدف تطويره؛ - سياسة رقمنة التعليم والتعليم عن بعد وان يكون متاحا للجميع....؛ - سياسة تمليك التونسي القدرة على التأقلم الايجابي مع المتغيرات بمختلف ابعادها؛  - سياسة الاعتناء بالنّسل وليس الحدّ منه. فبعد اتباع سياسة تحديد النّسل منذ 60 سنة ومع خطر التهرّم السّكّاني، حان الوقت لاتباع سياسة بديلة لا تحدّ من النّسل بقدر ما تعتني به في تناغم مع سبيل التّنمية الّذي يعتمد على التّنمية البشريّة ولا يعتمد فقط على نظريّة النّمو الاقتصادي الّتي وضعها «مالتوس» وأرجع من خلالها عسر حياة النّاس لعدم تناسب النّمو السّكاني مع النّمو الاقتصادي. -  سياسة الادماج الاجتماعي: خلص تقرير اعتنى بقضايا الاندماج الاجتماعي في تونس المتعلقة بالتّشغيل والتّعليم والتّكوين وأيضا توزيع المداخيل الى «أنّ سياسة متعدّدة الأبعاد للحدّ من الفقر وزيادة مواطن التّشغيل مهمّة للإدماج الاجتماعي للشّباب وتسهيل مساهمتهم الاقتصادية»(8) كما بيّنت الدّراسة أنّه «لتقليل العوائق لإدماج فئات مهمّشة وتسهيل مساهمتهم في المجتمع، لا بدّ من سياسة متعدّدة الأبعاد متبوعة بسياسات تشغيل وتعليم وتنمية جهويّة» (9)  الى جانب السّياسات الاجتماعيّة تحتاج التّنمية الشّاملة الى سياسات بيئيّة

.2.2.  السّياسات البيئيّة

يستوجب التّعاطي مع التّغيرات المناخيّة سياسات على المستوى الدّولي وأخرى على المستوى الوطني سواء على المستوى الكلّي أو الجزئي.فبحكم تأثّر جميع سكّان الأرض بما تتسبّب فيه أنماط الاستهلاك والإنتاج للدّول الكبرى اقتصاديّا على مستوى البيئة والمناخ من تغيّرات، وما يتبعه من ظواهر وكوارث طبيعيّة، تداعى صنّاع القرار في العالم إلى صياغة اتفاقيّات دوليّة لاحتواء المخاطر البيئيّة، ودعوا بعضهم البعض لاحترامها إلّا أنّ أكبر تلك الدّول لا تزال تتلكّأ في الالتزام بتلك الاتفاقيّات وفي تقييم لمجموع السّياسات المتّبعة دوليّا(10) لتخفيف تغير المناخ واحتواء تداعيّاته خاصّة على مستوى حياة النّاس ومعيشتهم، وباستخدام معايير أربع لعمليّة التّقييم تلك من كفاءة بيئيّة وفاعليّة بالقياس إلى الكلفة والآثار التّوزيعيّة بما في ذلك الإنصاف والجدوى المؤسّساتيّة رشّحت بعض من السّياسات على المستوى الدّولي ذات الفاعليّة البيئيّة في قطاعات الطّاقة والنّقل والزّراعة وقطاعي الغابات وإدارة النّفايات، أمّا على المستوى الوطني تعتبر بلدنا من بين الدّول الأكثر عرضة للآثار السّلبية لتلك التّغيّرات والتي برزت في السّنوات الأخيرة وبوتيرة متسارعة من خلال ظواهر طبيعيّة حادّة كالجفاف وارتفاع درجات الحرارة. وأمام عدم الاعتماد شبه الكلّي في إنتاج الكهرباء على الطّاقات البديلة ببلدنا رغم أنّ أرضنا وسماءنا غنّية بالوقود الأخضر أو الهيدروجين الأخضر، فإن ذلك يدعو للاستغراب ويجعل الحاجة مؤكّدة لاتباع سياسات بيئيّة بديلة منها ما يلي: - سياسة الاستثمار في الوقود الأخضر؛ - سياسة الاعتماد على الطّاقات البديلة؛  - سياسة تشجيع تصدير الهيدروجين الأخضر لشمال المُتوسط

.3.2.  السّياسات الاقتصاديّة 

الى جانب السّياسات الاجتماعيّة والبيئيّة تحتاج التّنمية الشّاملة سياسات اقتصاديّة. ومن بين السّياسات الاقتصاديّة الّتي تحتاجها التّنمية الشّاملة والّتي نقترحها لخلق الثّروة وتوفير الاحتياجات التّمويلية اللاّزمة والضّرورية للاستثمار والإنتاج نذكر: - سياسات حماية العملة وتشجيع الاستثمار وقَوَامَةُ الانفاق وتنويع الموارد؛ - سياسة زيادة إنتاجيّة عوامل الإنتاج؛ - سياسة التّسخير والإعماريُقصد بالتّسخير التّذليل للإنسان باعتباره كائنا عاقلا من خلال امتلاكه لقدرات كامنة يكتشفها تدريجيا عبر تقدّمه في الزّمن وباتباعه للمنهج العلمي التّجريبي، قُدُرات تمكّنه من توظيف ما في السّماوات والأرض بما يُحقّق النّفع للنّاس ضمانا لاستمرار الحياة والنّوع البشري وبما يُمكّنه من القيام بدور الاعمار في الأرض وإصلاح ما فسد في البرّ والبحر بما كسبت ايدي النّاس. فالتّسخير مرتبط بالقدرة على التّوظيف كالقدرة على استعمال ما في السّماوات والأرض بما ييسّر حياة النّاس وتعارفهم تحقيقا لنفعهم، كإرساء الشّبكة العنكبوتية وإنتاج أدوات التواصل والاتصال وتبادل المنافع كتبادل الأموال عبر «سوافت» وكتوليد الطاقات المتجددة وغيرها وكإرساء بُنى تحتية مادية متطورة من طرقات سيارة ومطارات وموانئ وبُنى لا مادية رقمية تُغطّي كل تراب البلد وتقوم بتشبيك كل المناطق حتى يصبح تنقل الأشخاص والأفكار والسّلع والبضائع والخدمات المالية وغيرها بشكل يسير وسلس ومشجع على الاستثمار في كل ربوع البلاد. ويعتبر الوقت والمكان من أهم عوامل الإنتاج والتي تؤثر بشكل مباشر في زيادة انتاجيتها وان كان قد تم احتواء عامل الزّمن جزئيا من خلال العمل عن بعد والذي لا يتأثر بعامل المكان الا ان احداث تنمية متوازنة وعادلة بين الجهات يتطلب احداث وكأولوية مطلقة بُنى تحتية مادية ورقمية تُغطّي البلاد في كل ابعادها الجغرافية لتسهيل عملية الإعمار والتّشجيع على الاستيطان واحتواء ظواهر الهجرة والنّزوح حتى تتحقّق التّنمية في جميع الرّبوع وينعم الجميع برغد العيش ويسر الحياة ويطمان على مستقبل النّوع البشري..

بعد عرض ما تحتاجه التّنمية الشّاملة من سياسات بقي البحث فيما يحتاج تنفيذها من موارد وإمكانات وهذا ما سنبحث فيه في العدد القادم والأخير، إن شاء الله، من سلسلة المقالات هذه والّتي خصصناها للتّفكير في احتياجات رفع التّحدّيات التّنموية.

الهوامش

(1) راجع مقالنا بمجلّة الإصلاح عدد 208 نوفمبر 2024 « احتياجات رفع التّحدّيات التّنمويّة، المقال الأول: الحاجة الى مقاربة بديلة»ص ص 38-43

(2) راجع مقالنا بمجلّة الإصلاح عدد 209 ديسمبر 2024 «احتياجات رفع التّحدّيات التّنمويّة المقال الثاني: بلورة مقاربة بديلة» ص ص 26-31

(3) راجع مقالنا بمجلّة الإصلاح عدد 210 جانفي 2025«احتياجات رفع التّحدّيات التّنمويّة المقال الثّالث: الحاجة الى التّنمية الشّاملة» ص ص 26 – 31

(4) من ادبيات البرنامج الانمائي للأمم المتحدة وبالتّحديد تقرير التّنمية البشرية لعام 2016 

(5) عرّف البرنامج الانمائي للأمم المتحدة التّنميّة البشريّة على انّها «مسار توسيع الامكانات والخيارات المعروضة على الأفراد»( تقرير التنمية البشرية لسنة 1997 ص 15) وحدد أبعادها الأساسية مُتمثلة في «طول العمر والمعرفة ومستوى عيش لائق»  والمُتَضَمِّنَة في مؤشر التنمية البشرية

(6) تقرير الامم المتحدة للتنمية البشرية (2015)، لمحة عامة ص III

(7) فرانسوا بيرو (سياسي اقتصادي فرنسي)

(8) تقرير «الاندماج الاجتماعي في تونس» صفحة 3 منشورات ITCEQ (دراسات المعهد) مارس 2017 www.itceq.tn

(9)  تقرير «الاندماج الاجتماعي في تونس» صفحة 104 منشورات ITCEQ (دراسات المعهد) مارس 2017 www.itceq.tn

(10)  INTERGOVERNMENTAL PANEL ON CLIMATE CHANGE IPCC-Sec@wmo.int