نافذة على الفلسفة
بقلم |
![]() |
أ.د. عبدالرزاق بلقروز |
تحولات الفكر الفلسفي المعاصر |
تشهد الفلسفة المعاصرة نشاطا مخصوصا في مساءلاتها وتفكّراتها ومساراتها، هذه المخصوصيّة تتأتّى من التّحوّلات التي مسّت نماذج الفهم ومقولات التّفكير، خاصّة تلك التي صاغتها عقلانيّة الحداثة الفلسفيّة مع لحظة التّأسيس الذّاتي الدّيكارتيّة وتوابعها المعرفيّة والتّاريخيّة: الإصلاح الدّيني والثّورة العلميّة والثّورة السّياسيّة وعصر النّهضة وعصر الأنوار وصولا إلى الإغلاق الفلسفي مع هيجل Hegel، إنّه إغلاق لأنّه رفع هذه المعقوليّة بمحدّداتها المشهورة : الحقّ في النّقد، الحرّية، استقلال العمل، المنزع المثالي في الفلسفة، رفعها إلى مرتبة الوعي المطلق بالذّات، هذا الوعي تعدّ الحرّية ملمحا جوهريّا عليه في عناصر الثّقافة الغربيّة المختلفة: السّياسة، القانون، الأخلاق، الفلسفة، الدّين...
إنّ هذه المخاطرة الفلسفيّة الكبرى التي طوّرها هيجل تكمن في أنّها تعالت بهذه المعقوليّة إلى رتبة الميتافيزيقا، وأقصد بمفردة الميتافيزيقا في هذا المقام أيّة فكرة مجتثّة عن أصولها، حاجبة لتاريخيتها ومركبات تكوينها، لقد صار للميتافيزيقا تاريخ كما قرأ ذلك هيدجر Heidegger، هذه المعقوليّة الفلسفيّة ليست في الحقيقة من نواتج المنظورات الفلسفيّة الحداثيّة فقط ، فإلى جانب هذه المحدّدات ثمّة نسل معرفي يوناني كامن قوامه الثّقة في العقل وفي مقولاته ومحاكمة كافّة أشكال اللاّمعقول باسمه (كالدين والحسّ الأخلاقي مثلا).
هذا ما دفع أحد المهتمين الفرنسيّين بالفلسفة المعاصرة «بيير هيبر سوفرين» Pierre Héber Suffrin إلى التّصريح بأنّ النّموذج العقلاني بخاصّة الذّاتي منه، يجد مكوناته وبواكيره الأولى في فلسفة سقراط، إنّها النّظرة التي امتدّت خلال مسار الفلسفة في التّاريخ بأشكال متعدّدة، وتحت مسمّى واحد هو العقلانيّة، هذه العقلانيّة السّقراطيّة هي التي مهّدت لظهور نظريّة ثنائيّة العالم عند أفلاطون، وهي التي جمّدت على امتداد ألفي عام أطر أفكارها في منطق أرسطو، وهي التي أدخلها اللاّهوتيّون في الدّين، وهي التي تجدّدت وابتدعت العلم مع الطّريقة الدّيكارتيّة، وهي التي نقع عليها من جديد في ديالكتيك هيجل، وعبارته المشهورة «ما هو عقلاني هو واقعي، وما هو واقعي إنّما هو عقلاني».
إنّ هذه الرّؤية لم تبْقَ في دائرة الفلسفة فقط، بل تمظهرت في أشكال التّعابير الثّقافيّة المختلفة، وكوّنت لنفسها تمركزا ثقافيّا ذاتيّا هو التّمركز الثّقافي الغربي، بما هو تكثّف مجموعة من الرّؤى في مجال فكري وشعوري مخصوص، أين تكون الذّات هي المرجعيّة الفاعلة في أي نشاط سواء باستكشاف أبعاد نفسها أو بمعرفة الآخر.
لكن مع نهاية القرن التّاسع عشر، الذي كان يلوح بمعالم فكر فلسفي مختلف، تبدّلت هذه النّظرة إلى نماذج العقلانيّة خاصّة الفلسفة الذّاتيّة وريثة الدّيكارتيّة، وصارت هذه الذّاتية ينظر إليها كتهمة لا ينفك الفكر الفلسفي المعاصر على ترديدها ونقدها، وأضحت نُذرا على حلول عصر العدميّة الآتي لا محالة، وبشارة على تصدّع التّمركز الثّقافي الغربي وريث فلسفة الذّاتيّة ومثل التّنوير الفلسفي ونظريّات التّقدّم الحضاري.
ثمّ إنّ إعادة الاعتبار لمقولات التّعدّدية والاعتراف، والخصوصيّة الفلسفيّة واللاّمعقول والدين ... لم تصبح ممكنة إلاّ خارج الخريطة الإشكاليّة التي رسمتها خطّاطة الأنوار.
هذه النّتيجة تجد ضماناتها ومبرّراتها المعرفيّة في المفاعيل العكسيّة التي لم ينتبه إليها العقل الغربي، لأنّها كانت تعمل في الخفاء، إنّها آلت إلى نقيض مقصودها كما يقول علماء الأصول. فإذا كان الإنسان الغربي قد أسّس مشروعه الحداثي الذّاتي على مجموعة مسلّمات منها: عقلنة الأسطورة وأنسنة المفارق وعلمنة القداسة، أو بتحديد آخر نترصّده في مبادئ ثلاثة:مبدأ التّوجّه إلى الإنسان (وحده) والانفصال عن الإله، ومبدأ الثّقة في العقل (وحده) والانفصال عن الوحي، ومبدأ التّعلّق بالدّنيا أو الدّنيويّة (وحدها)، والانفصال عن أيّة دلالة أخرويّة، فإنّ مآلات هذا الفعل الانفصالي انتهت به إقرارا إلى استمرار ما ثار ضده، مع تغيّر الأمكنة والمواقع :أي أسطرة العقل وتقديس العلمنة وتأليه الإنسان، حتّى صرنا نجد في الفلسفة المعاصرة من يدعو بناء على هذه الخلاصات المعرفيّة إلى انتفاء التّأسيس والاندراج في دوامة التّأويل اللاّمتناهي للأشياء، والبحث في المقابل لشكل من أشكال العقلانيّة في الخطابات التي كانت تصنّف سابقا على أنّها تتغذّى على الوهم :كالخيال والتّصوّف والأسطورة والخرافة وكافة أشكال اللاّمعقول الأخرى، ثم إيجاد نوع من التّساوي في القيمة بينها وبين التّفكير الفلسفي العقلاني والعلمي، فهم جميعا يحكمهم ناظم أو واصل مشترك هو كونهم منظورات أو تقنيات للسّيطرة على الأشياء وإعادة تأويلها بشكل مختلف. لتتحول هذه التوجّسات والانتقادات إلى منظورات في الهدم والتّقويض للتّراث الثّقافي الغربي من جهة إفراز تقنيات مختلفة في التّأويل والفهم، يتمظهر هذا في القطائع والإنفصالات التي نظّر لها فلاسفة الارتياب «ماركس، نيتشه، فرويد»، الذين هم بحسب منظوريّة ميشيل فوكو M-Foukaultلم يضيفوا معاني جديدة على أشياء لم يكن لها معنى، إنّما طرحوا أمامنا إمكانيّة أخرى للتّأويل أو إنّهم أسّسوا إمكانيّة قيام تأويل جديد، تغيّرت معه طبيعة الدّليل وتبدّلت الكيفيّة التي كان بإمكان الدّليل أن يؤول بها.
إنّه مسعى مختلف عن الفلسفة بمعناها الأنواري والعقلاني، فهو يقوم على صيرورة البحث، عن معنى عميق ،كامن، غير مباشر، تحت المعنى الظّاهر والواعي بصورة مباشرة للأحداث الإنسانيّة، فخلف سلوك ما مثلما يحلّل فرويد دافعا نفسيّا غير واع، أو مثلما يفضح ماركس إيديولوجيّة استغلاليّة، ومع نيتشه يتمّ اعتبار كلّ شيء كجملة من القوى التي تنجز فعلا، وينتج عن هذا كلّه أنّ تحليل أي اعتقاد أو مؤسّسة أو سلوك إنّما هو بادئ ذي بدء النّظر إليها كقدرات، كنشاطات فعّالة، ومن ثمّة التّساؤل من أين تأتي هذه القدرات، ومن أيّة نيّة تنبثق؟ وإلى أين تتجه؟ وماذا يريد ذلك الذي يعتقد هكذا؟.
بناء على ماسبق بيانه، فإنّ مرادنا من خلال هذه المقاربات ذات المنحى الفلسفي، رصد لحظة التّحوّل الجذري العميق والمساءلات النّقدية العنيفة لنماذج العقل بمعناه الحداثي، وقيم التّنوير الفلسفي، ونظريّات التّقدّم الحضاري، بخاصّة تلك التي طوّرتها عناوين الحداثة الغربيّة المختلفة، متبوعة بإرادة تأصيلها حضاريّا، أوفي جعلها كونيّة أو شموليّة، وسيكون رصدنا لهذا النّقد يجمع بين الدّاخلي والخارجي، داخلي يستثمر العدّة المعرفيّة والمنهجيّة التي أفرزتها تحوّلات العلوم الإنسانيّة المعاصرة والقراءات التّأويليّة المختلفة كقراءة نيتشه Nietzsche الجينيالوجيّة ومقاربة فوكو - Foucaultالحفريّة ونقدية جون بودريار Jen baudrillard التي تتوسّط الفلسفة والسّوسيولوجيا ....
وخارجي: يعتمد على الخصوصيّة الثّقافيّة في شكلها الأخلاقي، لتقويم الحداثة الغربية وكشف الآفات الأخلاقيّة التي لحقت بها وألحقتها بالإنسان.
أخيرا، فإنّنا توصّلنا إلى بناء الهيكل المشكّل لموضوع مقاربات هذا الكتاب على النّحو التّالي:
الباب الأول: خصّصنا فيه البحث حول تحوّلات المفهوم في الفلسفة من منطق الكليّة والتّجرُّديّة إلى المنظوريّة والرّهان التّداولي :
اختصّ الفصل الأول منه بالكلام في إشكاليّة المصطلح الفلسفي: من جهة العلاقة بين الإرادة والكلمة والمعنى، وقد بيّنا فيه أنّ البرنامج الذي أفرزته هذه المقاربة يتأسّس على قاعدة إطلاق التّسمية من أسر الإتباع والكشف عن تحيّز سياقات المصطلحيّة ومقاماتها لتحصيل القدرة على تسمية الأشياء وترتيبها على ضوء الجهاز المقولاتي الخاصّ والنّموذج المعرفي التّوليدي المبدع.
كما اختصّ الفصل الثّاني بالكلام في «سؤال الحداثة عند طه عبد الرحمن» أردنا من خلاله الوقوف على نموذج لغوي تداولي يهدف بمشروعه المسمّى: «إعادة إبداع المفاهيم» إلى نهوض الهمّة إلى الإبداع، وتخليص القول الفلسفي العربي الإسلامي من قلق العبارة والاتّباع، حيث قمنا بتشخيص هذه الدّعوى ثمّ نقدها.
لننعطف بعدها إلى نموذج آخر يتعرّض بالتّوصيف والتّحليل لفكرة التّداخل بين المفهوم الفلسفي وتمظهراته في فروع المعرفة الأخرى، بخاصّة أدب الطّفل لدى عبد الوهاب المسيري، ثمّ نقد مفاهيم المسيري التي يتوسّل بها في مقارباته المختلفة.
واختص الفصل الثّالث بتوضيح كيف أنّ المفهوم الفلسفي يسهم في الوصل بين العلوم الإجتماعيّة من أجل فعل تواصلي يراعي معايير منطق الخطاب، هذا المنظور كان قد ركّب عناصره الفيلسوف الألماني: يورغن هابرماس.Habermas. وبهذا الإجراء التّداولي يدخل المفهوم الفلسفي عالم الحياة ويعمل على إغنائها وتوجيهها.
ويتناول الباب الثّاني: تحولات العلاقة بين الفلسفة والحداثة: من التّوحّد وتأسيس المشروعيّة إلى النّقد الجذري والمواجهة.
وتفرّد الفصل الأول منه بالحديث عن نظريّات النّقد المابعد حداثيّة، التي رأينا أنّها تجد أصولها في المساءلة الفلسفيّة النيتشويّة بثورتها النّقديّة العنيفة على التّراث الثّقافي الغربي، ثمّ امتداد هذه المساءلة لدى تقنيات النّقد المابعد حداثيّة.
وتفرّد الفصل الثّاني من هذا الباب بتتبّع خطاب الاستشراق والنّظر إليه لا من زاوية تقاليد النّقد التي تربطه بالاستعمار والدّوافع اللاّعقلانيّة، إنّما النّظر إليه باعتباره خطابا يجد ضماناته التّأسيسيّة في الفلسفة الذّاتية، التي أضحت تهمة معرفيّة في الفلسفة المعاصرة، أين تحوّلت الفلسفة من تأسيس المشروعيّة للخطاب الإستشراقي إلى الثّورة عليه والمواجهة مع مسلماته.
كما تفرّد الفصل الثّالث بالحديث عن المعنى الفلسفي لعودة المكبوت الدّيني في الثّقافات المعاصرة: خصّصنا فيه التّحليل عن أزمة المعنى وعودة هذا المضطهد بأشكال متعدّدة (في الفلسفة، الأخلاق النّظريّة، الصّراعات الدّوليّة)، عودة نقرأ فيها الفراغ الذي أورثته التّقنية من ناحية، وتخلّي الفلسفة عن البحث في الأساس والمعنى والقيمة، وعمق الشّعور الدّيني لدى الإنسان من ناحية أخرى.
وأخيرا يتناول الباب الثّالث: روح العولمة وتحولات مهمّة للفلسفة. عالجنا فيه الأبعاد الكونيّة للتّجربة الصّوفية. الهدف من هذه المقاربة هو تحيين وتشخيص راهنيّة النّص الصّوفي كما تقرأه شبكة العلوم الإنسانيّة المعاصرة بخاصّة ميشيل دوسارتو في الفكر الغربي، إنّها ملمح جوهري على الاعتراف باللاّمعقول في الدّرس الفلسفي المعاصر بخاصّة في زمن العولمة، زمن تسليع الإنسان.
وتفرّد الفصل الثّاني بالحديث عن مفاعيل العولمة وكيف أعادت بناء العديد من المفاهيم، من أبرزها حضورا في الدّرس السّوسيولوجي والفلسفي المعاصر: مفهوم المجتمع المدني الذي أضحي مفهوما كونيّا أومابعد قومي يتجاوز المضائق الاقليميّة إلى الفضاءات العالميّة. قمنا برصد مفاعيل التّحوّل في المفهوم ثمّ تشخيصه ونقده في مستوى قيمته المفهوميّة وتحقّقاته الواقعيّة.
واختص الفصل الثّالث من هذا الباب الأخير بتوضيح كيف أنّ أخلاقيّات التّواصل ممكنة من منظور البحث التّداولي، لأنّها «أي التّداوليّة» تهدف إلى وضع الشّروط المنطقيّة واللغّوية والأخلاقيّة التي بواسطتها نرسم لغة التّسامح بتحريره من أيّة وصاية مزعومة أو سلطة مهيمنة.
وتفرّد الفصل الرّابع بتوصيف العولمة في القول الفلسفي العربي المعاصر، وطرافة هذه المقاربة تأتي من تنوّع المواقف الفلسفيّة العربيّة من لغة العولمة: بين من يدعو إلى الانخراط في عصرها وإتقان لغتها والخروج من وهم العولمة البديلة إلى العقلانيّة المختلفة.وبين من يؤسّس لترشيدها وإعادة بنائها، بفكّ الارتباط بينها وبين نتائجها التي تضرّ بالبعد الأخلاقي في الإنسان من حيث هو كذلك. فضلا على موقف آخر يبصر فيها «أي العولمة» زمن التحقّق الأقصى لمتتالية التّرشيد العلماني باجتثاثها لعنصر القداسة عن الإنسان والحياة، وإدراجهما ضمن عالم الأشياء.
أخيرا، نسأل المولى عزّ وجلّ، أن يكون عملنا هذا لبنة من لبنات البناء، وإسهاما من إسهامات التوجيه والتعمير والتكثير في العاجل و الآجل. واللّه من وراء القصد وهو يهدي السّبيل. |