نحو أفق جديد
بقلم |
![]() |
أ.د.عبدالجبار الرفاعي |
السّلفيّة حالة متفشية في كلِّ الأديان والمذاهب |
السّلفيّة حالة متفشّية في كلِّ الأديان والفرَق والمذاهب، ليس هناك فرقٌ نوعيٌّ بين الاتجاهات السّلفيّة للأديان والفرَق والمذاهب، سواءٌ أكانت سماويّة أو أرضيّة. تتنوّع الأقنعةُ السّلفيّة وتتعدّد إلاّ أنّ المضمونَ المتشدّد واحدٌ أيًّا كان دينُ السّلفي ومعتقده. السّلفيّة كالأصوليّة والتّراثيّة، مهما تنوّعت التّسميات، تعكس تصوّرًا لازمانيّاً للعلوم والهويّة والمعارف الدّينيّة، ورؤية خاصّة للعالَم، وبنيةً فكريّة وعاطفيّة وسيكولوجيّة، وقراءةً حرفيّة مغلقة متشدّدة للنّصوص الدّينيّة. الإسلام السّلفي المتشدّد أغلق العقل، وأطفأ جذوة الرّوح، وعبث بذائقة القلب.
أقصدُ بالسّلفيّة تعطيلَ عقل الإنسان الفرد، أو تنازلَ الإنسان عن عقله واستسلامَه بشكل تامّ لما يقوله التّفسيرُ المغلق المتشدّد لنصوص معتقده. لا أقصد بالسّلفيّةِ دينًا معينًا أو مذهبًا خاصًّا أو فرقةً بذاتها. السّلفيةُ كأنّها وعاءٌ يمكن أن تشغله أيّةُ عقيدة أو أيديولوجيا، سواء أكانت دينيّةً أو دنيويّة، سواء أكانت يساريّة أمميّة، أو يساريّة قوميّة، أو يساريّة أصوليّة. المواقفُ متشابهة، كلُّ سلفي مغلَق، بغضّ النّظر عن عقيدته والأيديولوجيا التي تحرّكه، كلٌّ منهم يشعر بالاصطفاء لمعتقده وتراثه وهويته وماضيه وجماعته، وغير مستعد للاستماع إلاّ إلى صوته.
لعلّ أدقّ تصوير لرؤية السّلفي للعالَم هو ما كتبه «هربرت جورج ويلز» في قصّة «بلد العميان» الصّادرة سنة 1904، التي شرح فيها مصيرَ جماعةٍ من البشر معزولين عن النّاس، يعيشون في وادٍ تحتضنه جبالٌ منيعة، يتفشّى بينهم مرضٌ يفتك بأبصارهم، يتوارثُ هذا المرضَ الأبناءُ من الآباء، ويحيل الكلَّ إلى عميان. بعدَ أن يختفي من حياتهم البصرُ نهائيًّا يموتُ المعنى الذي يدلّ عليه البصرُ في أذهانهم. عندما يصيرُ العمى شاملًا يترسخُ حضوره بما هو معنىً لا مقابلَ له ينفيه، فيشعرون جميعًا أنّ العمى هو الحالة الطّبيعيّة، وأنّ واديهم هو العالَم الذي لا عالَم خارجه.
السّلفيّةُ طريقةُ تفكيرٍ ورؤيةٌ للعالَم يسكنها التّوهّم ويغيب عنها الواقع، التّربيةُ السّلفيّة في الأديان تجعلُ الإنسانَ يُضحّي بالحاضر والمستقبل من أجل ماضٍ رومانسي متخيَّل لم يتحقّق أمس، ويعتقد بأنّ وظيفتَه استئنافُ الماضي كما رسمته المخيلة، ومناهضةُ كلّ شيءٍ لم يقع في الماضي لأنّه ابتداعٌ.
لا يحدثُ تطوّرٌ في حياة المجتمع من دون إبداع، فإذا كان كلُّ إبداع ابتداع كيف يتطوّرُ المجتمع؟. هذه التّربيةُ تُشعِر مَنْ يتشبّع بها وينحبس في إطارها بأنّه الوكيلُ الحصريّ للحضرة الرّبوبيّة، والسّلطانُ المتوّج بعناية إلهيّة استثنائيّة، والحاكمُ المفوّض بتفتيش الضّمير الدّيني للنّاس ومعتقداتهم. يورّطُ هذا الشّعورُ السّلفيَّ بإصدار حكمه على مَنْ يشاء، يُدخِل للدّين مَنْ يشاء، ويُخرِج من الدّين مَنْ يشاء. وأحيانًا يقوده هذا الشّعورُ لاستخدام العنف مع مَنْ يشاء، سواء أكان عنفًا لفظيًّا، أو رمزيًّا، وربّما جسديًّا.
الدّين ليس نصوصًا مقدّسة فقط، بل هو كائنٌ حيٌّ منخرطٌ في التّاريخ ومشروطيّاته، يخضع الدّينُ في الحياة لنواميس التّغيير والتّحوّل والتّطوّر، وفقًا للزّمان والمكان والبيئة الحاضنة له. تختلف تمثّلاتُ الدّين باختلاف المجتمعات وثقافاتها ولغاتها ودرجة تطوّرها الحضاري، ويختلف التّعبيرُ عنه باختلاف المدن والأرياف والإثنيّات واللّغات والثّقافات في بلد واحد. إذا أردنا إنتاج فهمٍ روحيٍّ وأخلاقيٍّ وجماليٍّ للدّين ونصوصه، وخفض وتيرة العنف النّاتج عن القراءة المغلقة للنّصوص الدّينية، يجب العملُ على تغيير وعي الإنسان وظروفه المعاشة وثقافته، واعتمادُ المناهج الحديثة لتفسير النّصوص الدّينيّة. في المجتمعات المتحضّرة المكفول عيش أفرادها ويحكمها قانون عادل صارم، يحدث أيضًا فهم عنيف للدّين لكنّه يظلّ محصـورًا في نطاق أفراد أو جماعات محدودة، ولا يتحـوّل إلى موجٍ مجتمعي يعصف بالبناء الاجتماعي، ويزلزل ركائـز الدّولـة ويهشِّم مؤسّساتها،كما يحدث في الدّول الفاشلة والمجتمعات القلقة.
السّلفيّة في كلِّ الأديان والمعتقدات والمذاهب تعمل على تعطيلِ إيقاع الزّمان، وإيقافِ صيرورة التّاريخ، ومحاولة تحويلِ الحاضر والمستقبل إلى ماضٍ يتكرّر فيه كلُّ شيء إلى ما لا نهاية. السّلفيّة في الإسلام تريد أن يخرج المسلمُ من القرن الواحد والعشرين، ويرحل ليعيش في عصر الصّحابة وظروفه وأحواله وملابساته، ويستنسخ كيفيّةَ عيشه شكلًا ومضمونًا، وطريقةَ إدارته لكلِّ شيء في الحياة. إنّها ترى وظيفة كلّ مسلم يعكسها استعداده لاقتباس نمط عيشه من عصر الرّسالة وكأنّه أحدُ الصّحابة، بنحو يتحوّل إلى نسخة مماثلة تعيد انتاجَ أنماط العلاقات والمعاملات والثّقافة والفنون والآداب، وتقلّد الصّحابةَ حتّى في الذّوق واللّباس والأزياء.
من نتائج هذه الرّؤية توسيع دائرة المحرّمات في الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، بنحو يضيق فيه فضاء حريته، ويختنق الإنسان فلا يرى من حوله إلاّ ممنوعات، لا يسمح له بالاقتراب منها. حدث ذلك بعد عدّة قرون من عصر البعثة، حتّى صار الحرام كأنّه هو الأصل. فمثلًا أضحت الفنون الجميلة بكلّ تعبيراتها السّمعيّة والمرئيّة محرّمة عند أكثر الفقهاء في مختلف المذاهب، واتسع التّحريم عند بعضهم ليستوعب كلّ ما ينتج مرحًا وفرحًا وابتهاجًا.
التّحريم موقف دينيّ حيال العالم، اتساعه بمرور الزّمان في الأديان والمذاهب، يتطلّب دراسات معمّقة في التّاريخ السّياسي والاقتصادي والثّقافي والدّيني للمجتمعات، وتوظيف علوم الاقتصاد والسّياسة، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والميثيولوجيا وعلم النّفس والألسنيّات الحديثة، لكشف الصّلة العضويّة بين حدود التّحريم وتمدّده وحدود السّلطة الرّوحيّة والسّياسيّة وتمدّدها. هذا النّوع من القراءة ضروري للكشف عن كيفيّة الاختباء خلف رداء المقدّس، وتوظيفه بوصفه قناعًا، في صراعات الهيمنة والسّلطة والثّروة، وكيفيّة إدارة السّلطة السّياسيّة للمجال السّياسي والاستحواذ عليه، والسّلطة الرّوحيّة للمجال الدّيني، والعمل على تمديده على الدّوام، عبر استملاك المجال العام رمزيًّا. حدود السّلطة الرّوحيّة حدود المقدّس، فكلّما اتسعت حدود المقدّس اتسعت حدود هذه السّلطة.
الإنسان يخاف المجهول، المستقبل مجهول. ويتوجّس الإنسان ممّا هو مباغت، الحاضر الذي يعيش فيه لا يخلو من المُباغتات. الماضي صار في الذّاكرة، والذّاكرة تمحو الصّورَ المؤلمة، وتحتفظ بالصّور الجميلة. تكمن قوةُ السّلفيّة في امتلاكها للمتخيّل، وفي قدرتها البارعة على إعادة إنتاج صورة آسرة خلّابة للماضي في المتخيّل. من يتحكّم بالمتخيّل يتحكّم بنظام إنتاج السلطة بأنماطها المختلفة.
تعطّل السّلفيةُ في الأديان إيقاعَ العصر، وتجهض صيرورةَ التّاريخ؛ إذ تعمل على توظيف سلطة الحرام وتكريس سطوته، بنحو يتغلغل في أدقّ تفاصيل الحياة الفرديّة والمجتمعيّة. مثل تحريم الفنون الجميلة بتعبيراتها السّمعيّة والمرئيّة، وما جاء متأخّرًا بعد اتساع دائرة الحرام عن عصر الرّسالة. الابتهاج بهذه الفنون يجعل الإنسان أقلّ عرضة للاكتئاب والحزن، الإنسان غير الكئيب أقلّ خوفًا، والإنسان غير الخائف أكثر قدرة على الجرأة واستعمال عقله الخاصّ في التّفكير. الخوف أداة عنيفة في ترويض النّاس وإخضاعهم للسّلطة السّياسيّة والرّوحيّة.
أكثر الكتابات السّلفيّة وسلوك السّلفيين يجعل القلبَ ينفر من اللّه. طبيعة الإنسان ضدّ صورة اللّه المظلمة الكئيبة التي رسمتها السّلفيّة. لا أظنّ هناك إنسانًا يستغني عن اللّه، لو رأى صورةً مضيئة للّه، يفرح ويبتهج عندما يشهد نورَها. لحظة يرى الإنسانُ صورةَ اللّه كما رسمها هو لذاته: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(النور: 35)، ينصت لصوت اللّه في الوجود ويبتهج بالوصال معه.
لن يخرج الدّين من مأزقه، ولن تخرج مجتمعات الإسلام من مأزقها التّاريخي، مالم ترسم حدوداً يتكشّف فيها مجال الدّين وحدوده، ومجال الدّنيوي وحدوده، ويكفُّ أكثر الكتّاب في الدّين عن التّلفيق، ولصق كلّ ما يغويهم بالدّين. لن نكتشف طريق الخلاص مالم يكن الدّين دينًا لا غير، والمقدّس مقدّسًا لا غير، والدّنيا دنيا لا غير، والآخرة آخرة لا غير، والفلسفة فلسفة لا غير، والعلم علمًا لا غير، والأسطورة أسطورةً لا غير، والمتخيّل متخيّلًا لا غير، والأدب أدباً لا غير، والفنّ فناً لا غير. لا بمعنى القطيعة الجذريّة بين كُلّ منها، وإنّما بمعنى رسم خارطة الحدود لكلّ واحدٍ منها، وصورة تضيء ملامحه، وتتعرّف على ماهيته، وتحدّد إطار موضوعه، وتعلن عن وظيفته.
خلط الدّين بكلّ شيء يُفْسِد ذلك الشّيء، وقبل ذلك يُفسد الدّين.
|