خواطر
بقلم |
![]() |
شكري سلطاني |
أزمة تربية وتعليم أم أزمة مجتمع وقيّم؟ |
إنّ المتابع للشّأن التّربوي والمتأمّل لما وصلت إليه حالة التّربية والتّعليم يحزن ويصاب بالإحباط، فقد نفقد أهمّ سلاح لمواجهة الحياة لما يوفّره التّعلّم من مهارات ومعارف ضروريّة. فقد أصبحنا نحتلّ المراتب الأخيرة جودة وتحصيلا ونجاحا في ميدان التّعليم، فما عاد تلميذنا وطالبنا متفوّقا، وما عاد تعليمنا مجديّا ونافعا ومنتجا للكوادر والإطارات ومصدّرا لها. فهل أضحى تعليمنا عقيما وتربيتنا سقيمة هزيلة؟ هل هي أزمة تعليم وتربية أم أزمة مجتمع برمّته تغيّرت مدلولاته وكينونته، واجتاحته قيّم وعادات مختلفة وفنون وأذواق أخرى، واعتملت فيه مناهج خفيّة غيّرت روحه وجوهره، وأبقت رسمه وشكله، فأقعدته عن حماية النّسيج المجتمعي من الاضمحلال وشبابنا من الانحراف؟.
هل كان التّعليم في السّابق ذا جودة عالية من حيث المحتوى والطرق والأهداف والتقييم والتكوين، فأصبح في الحاضر نقيض ما كان عليه، فاختلفت النّتائج مع تعاقب الأجيال؟
1 - تطوّر أنظمة التّعليم
لقد راهنت الدّولة التّونسيّة منذ الاستقلال على التّعليم، ورصدت له الموارد والإمكانيّات وتضافرت الجهود حتّى يتعلّم التّلميذ، ويتخرج من الجامعات الكوادر والإطارات التّي تتولّى تسيير دواليب الدّولة وتساهم في بناء الوطن وازدهاره.
كان التّعليم إجباريّا مجانيّا، في مدارس عموميّة تتساوى فيها حظوظ المتعلّمين وتتحقّق من خلالها الأهداف والمشاريع الوطنيّة وأهمّها بناء جيل جديد يمسك بدواليب الدّولة.
وقد مرّ نظام التّعليم من فترة الستينات مرورا بفترة السبعينات والثمانينات وفترة التسعينات وفترة الإصلاح التّربوي 23 جويلية 2003 إلى الآن بعدّة تحوّلات في جلّ المواضيع المتعلّقة بالتّعلّم والتّعليم:
* التّعلّم : تطوّر من محتويات متدرّجة إلى محتويات وأهداف ثمّ إلى كفايات .
* المدرّس : كان مصدرا للمعرفة ثمّ أصبح باثّا لها ثمّ تحوّل إلى منشّط وموجّه ومعدّل لعمليّات التعلّم.
* التّلميذ: كان متقبلا للمعرفة ثم أصبح يعتمد على قدراته ويساهم في البحث عن المعرفة واكتشافها ثمّ أصبح محور العمليّة التربويّة .
* التّعليم:كان يركّز على التّلقين معتبرا رأس التّلميذ وعاء فارغا، ثمّ أصبح يركّز على التّلقين والاستجواب معتبرا البنى الذّهنيّة للتّلميذ صندوقا أسود، ثم أصبح يركّز على أنشطة وطرق تنشيط مختلفة تعتمد الحوار وتسعى لتنمية القدرات والمهارات، ثمّ أصبح تعليما تفاعليّا يركّز على أنشطة التّعلّم وعلى التّقييم التّكويني قصد تنمية الكفايات.
* التّقييم : كان إشهادي جزائي (امتحانات) يتضمّن جانبا تكوينيّا يتمثّل في فروض منزليّة يصلحها المعلّم خارج القسم ثمّ داخله، ثمّ إشهادي جزائي (المراقبة المستمرة)، ثم إشهادي جزائي (المراقبة المستمرة وحضور محتشم للتقييم التّشخيصي والتّكويني)، ثمّ تقييم دوري منتظم تشخيصي وتكويني.
* التّكوين: في فترة الستينيّات لم يكن هناك تكوين بإستثناء التّربص أو بعض الأيام التّربويّة، ثمّ غلب التّكوين الأساسي العلمي مع فترة السبعينيّات والثمانينيّات، ثمّ التّركيز على التّكوين البيداغوجي الصّناعي في فترة التسعينيّات، ثم التّركيز على التّكوين البيداغوجي العلمي وعلى التّكوين المستمر (تكوين المكوّنين والتّكوين المستمر لفائدة الإطار التّربوي والإداري) بعد الإصلاح التّربوي لسنة 2003.
فهل تمّ الإصلاح والتعديل وتجسّمت الاختيارات وتحقّقت أهداف التّقليل من عوامل الفشل وتنمية عوامل النّجاح، نتيجة تلك التّراكمات الكميّة والنّوعيّة والكمّ الهائل من الإصلاحات والتّغييرات في النّظام التّعليمي؟
بالرّغم من تطوير الطّرائق البيداغوجيّة وتنويعها لم تكن النّتائج الواقعيّة متطابقة ومستجيبة للأهداف، فلقد زاد التّعثّر والفشل والإخفاق المدرسي مع تنامي ظاهرة العنف المدرسي كسمة بارزة لحقبة جديدة ومتعلّمين جدد. فمن تحصيل العلم في الماضي إلى تحصيل أنواع الانحراف والمفاسد في الزّمن الحاضر!
فهل استعملنا الدّواء في غير موضعه، أم أنّنا عرفنا الدّاء ولم نتناول الدّواء؟هل طفحت النّظريّات وفاضت الأفكار لكنّها لم تترجم إلى تطبيقات فعليّة نفعيّة؟
2 - بين الماضي والحاضر :
كان التّعليم في السّابق يعتمد على الطّريقة الإلقائيّة والسّلوكيّة، لكنّه أنجب جيلا كادحا من المتعلّمين تذوّق رحيق المعرفة وسهر اللّيالي لطلب العلى، فلم يتواكل ولم يتوانَ على تحصيل العلم والارتقاء رغم قلّة الإمكانيّات وقساوة الامتحانات الجزائيّة الانتقائيّة بامتياز، بالرّغم من إخفاق عدد لا باس به من الممتحنين، ولكن كانت الشّهائد ذات قيمة ونفع كبير. أمّا الجيل الحالي فلم يستفد من تنوّع الطّرق البيداغوجيّة من بيداغوجيا الأهداف وبيداغوجيا الإدماج والبنائيّة الاجتماعيّة، فازداد التّواكل والتّقاعس واللاّمبالاة والفشل المدرسي، وأصبح الانحراف والعنف المدرسي من العناوين البارزة لمدرسة اليوم، ولم يعد المدرّس كما كان في السّابق مهابا محترما مكرّما. فهل انكسر الرّابط المثالي بين المدرّس والتّلميذ؟
لقد أطلقت كل الدّراسات التي تناولت مجال التّربية والتّعليم صيحات فزع من تفاقم ظاهرة الانقطاع عن التّعليم وتنامي الانحراف لدى الشّباب مع ما يكلّفه الإنقطاع من خسارة تقارب 13 % من ميزانية وزارة التّربية. فهل تميّز الجيل السّابق بثقافته ومطالعته وانضباطه ورصانته وعمقه وضاع الجيل الحالي في سطحيته وسذاجته وتنطّعه وتهوّره وغروره ونرجسيته وإتكاليته وقلّة حيائه؟ فقد غابت الرّصانة والأصالة عنده -مع استثناءات بارزة ومشرّفة وواعية- وحضرت الميوعة والسّخافة والتّفاهة والرّداءة.
3 - البيئة والمحيط:
إنّ المتابع للشّأن التّربوي يلاحظ أنّ البيئة العائليّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة لم تعد رافدا من روافد بناء الإنسان ولا سندا للمدرسة، فلم نر دورا لأشكال الوعي الاجتماعي في تهذيب الذّوق العام وتجذير القيّم والمبادئ وتأصيل مقاصد التّربية والتّعليم في نفوس النّاشئة، بل غمرت فوضى الأخلاق شتّى المجالات والميادين وترسّخت القيم السّقيمة وثقافة الاستهلاك، فأنتج جيلا دون مناعة روحيّة ودون وقاية فكريّة فهو معرّض للتغريب والاستلاب. لقد غابت البيئة الحاضنة والرّاعيّة لبناء الإنسان السّوي وحضرت كلّ الشّواغل والدّواخل والهوامش المهمّشة لكيان الفرد السّالبة لإرادته المشوّهة لشخصيّته. فهل هو المنهج الخفيّ المحطّم لكلّ الرّموز والمعاني السّاميّة الرّاقيّة والمرجعيّات الأصيلة التي تكون منارات وبوصلة لكلّ جيل كادح ؟ وهل اخترقت المدرسة واستهلك دورها وتمّ تخريب ما بقي من رمزيّة ومعالم لقيّم وأسس البناء؟ |