شخصيات الإصلاح
بقلم |
![]() |
التحرير الإصلاح |
أو الوفاء البوزجاني «الرّياضيّات للجميع» |
يرجع الفضل الأكبر لعلماء المسلمين في وضع علم حساب المثلثات بشكل علمي منتظم مستقل عن علم الفلك، ولا يخفى ما لهذا العلم من أثر في الاختراع والاكتشاف، وفي تسهيل كثير من البحوث الطّبيعيّة والهندسيّة والصّناعيّة. وضيف هذا الرّكن هو «أبو الوفاء البوزجاني» أحد العلماء المسلمين الذين برعوا في هذا العلم، في فترة ازدهار حضارة الإسلام في بغداد في القرن الرّابع الهجري/العاشر الميلادي، وعمل على فصل علم حساب المثلثات عن علم الفلك بطريقة نظاميّة لم تؤثّر أبدًا على تقدّم علم الفلك، بل شجّعت على استخدام الطّريقة الاستنتاجيّة في حلّ المسائل الفلكيّة.
ولم يكن ممّن اهتموا بحصر الرّياضيّات في دائرة التّخصّص على مجموعة العلماء والطّلبة الرّاغبين في هذا المجال فقط، بل كان من أوائل مَن عملوا على «تبسيط» الرّياضيّات وعلم الحساب ليكون علما يسهلُ على الجميع فهمه في دولة كانت بحاجة ماسّة إلى هذا الابتكار والإبداع.
ولد أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس البوزجاني الحاسب سنة 328 هـ (940م) في قرية تُسمّى بوزجان بين هراة (في أقصى غرب أفغانستان اليوم) وبين نيسابور (في أقصى شرق إيران) فنُسب إليها، فهو بحسب عصره بوزجاني خراساني .
نشأ مُتعلِّما للعلوم الشّرعيّة الأوّليّة التي كان يتعلّمها طلبة العلم آنذاك من القرآن الكريم وبعض من الحديث النّبوي والفقه وغيره، لكن لحُسن حظّه كانت أسرته من الأسر الحاضنة للعلم، حيث أخذ على عمّه المعروف بأبي عمرو المغازلي، وعلى خاله المعروف بأبي عبد الله محمد بن عنبسة وهما من المهتمين بعلوم الهندسة والرياضيات، ما كان من علوم العدديّات والحسابيات. ولما بلغ العشرين من العمر انتقل إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية والإسلامية حيث اشتغل بالرّياضيات والأرصاد وعلم الفلك، وفاضت قريحته ولمع اسمه وظهر للنّاس إنتاجه في كتبه ورسائله، ويُعَدُّ أحد الأئمة المعدودين في الرّياضيّات وعلم الفلك، وله فيهما مؤلَّفات قيِّمة، من أشهرها: «المنازل السّبع»، و«تفسير الجبر» و«المقابلة للخوارزمي» و«المدخل إلى الأرثماطيقي»، و«استخراج الأوتار»، و«العمل بالجدول الستيني»، و«معرفة الدائرة من الفلك، والكامل، و«الزيج الشامل»، و«المجسطي» و«ما يحتاج إليه الصانع من علم الهندسة». وقام بتقديم شروح كثيرة لمؤلفات «ديوفانتوس» و«بطليموس» و«إقليدس»، جامعًا بين المنهجين اليوناني والهندي.
وقد قضى «أبو الوفاء» جزءا من وقته في دراسة مؤلفات الرياضي الكبير «البتّاني» في علم حساب المثلثات، فعلَّق عليها وفسر الغامض منها. واطّلع على بحوث «الخوارزمي» وأضاف إليها إضافات هامّة جدًّا، ولا سيما فيما يخصّ علاقة الهندسة بالجبر، وذلك بحلّ بعض المعادلات الجبريّة المهمة هندسيًّا، واستطاع أن يجد حلولاً جديدة للقطع المكافئ، فمهّد بذلك لظهور الهندسة وحساب التّفاضل والتّكامل.
فالخوارزمي واضع علم الجبر بكتابه (حساب الجبر والمقابلة)، قد كرّس جهوده في وضع المعادلة ذات الدرجة الثانية، وتبعه علماء مسلمون آخرون طوّروا علم الجبر حتى ظفروا بنتائج مرضية للغاية للمعادلة ذات الدرجة الثالثة، أما أبو الوفاء البوزجاني فكان طموحًا ولم يقف عند هذا الحد، بل واصل العمل الجاد وابتكر حلاًّ للمعادلة ذات الدرجة الرابعة.
إن مكانة أبي الوفاء في علم حساب المثلثات واضحة جليّة لمعظم المتخصصين، فقد وضع طريقة عصريّة سهلة لحساب جداول الظلّ وجيب الزّاوية(sin)، وابتكر متطابقات مثلثيّة لا تزال تدرس في المدارس والجامعات في جميع أنحاء العالم.
وقد اهتمّ «أبو الوفاء» بعلوم الفلك بجانب علوم الرّياضيّات، وقد برع في علم الفلك حتّى أن بعض الباحثين يقولون إنه كان أول عالم مسلم يخترع أداة الرّبع، وهي أداة كانت تُستخدم في الفلك والملاحة لقياس الارتفاع، وتتألف من قوس مقسّم إلى 90 درجة، وهي ذات تصميم بسيط قوامه ربع دائرة من خشب أو نحاس، تتضمن خطوطا هندسية محددة، وضمّن شكلها وفائدة استخداماتها في كتابه «الزيج» في علم الفلك. لذا فهو يعدّ من أشهر علماء الفلك في عصره، وخاصّة في المدرسة البغداديّة ذات الأعمال العلميّة غير المسبوقة في الحضارة الإسلاميّة، خاصّة وأنّ أبا الوفاء قد استعان بأرصاد كثيرة ودقيقة بفضل مرصده ببغداد، والذي ساعد على إنشائه وعمله، وممّا اكتشفه هذا العالم الجليل ـ على ما يذكر «غوستاف لوبون» في كتابه الضخم «حضارة العرب» تعيينه بالضّبط لمبادرة الاعتدالين ووضعه من التقاويم الهامّة والدقيقة لأمكنة الكواكب السيّارة. ومما عرفه عالمنا الكبير الاختلاف القمري الثّالث، فقد استوقف نظره ما في نظرية «بطليموس» من النّقص في أمر القمر، فبحث في أسبابه، فرأى اختلافًا ثالثًا غير المعادلة المركزيّة والاختلاف الدّوري، يعرف اليوم بالاختلاف.
تمتّع باحترام الطّبقة الحاكمة في بغداد، فاحتضنه حكّام بغداد البويهيون آنذاك، وجعلوه من العلماء المقربين لهم نتيجة عبقريته الفذّة، وكان الوزير «ابن سعدان» من الرّواد المنتظمين لمجالسه التي ضمّت أيضا عددا من وجوه العلم مثل «أبي حيان التّوحيدي».
ومن المؤسف حقًّا أن علماء الرياضيّات والفلك في بلاد الغرب يحاولون تجاهل فضل عالمنا المسلم المشهور أبي الوفاء على علم حساب المثلّثات وغيره من فروع الرّياضيّات والفلك، وقد انتحل كثير من علماء الغرب بعض اكتشافاته ونسبوها لأنفسهم مثل: («ريجيو مونتانوس» الذي نسب لنفسه معظم نظريّات أبي الوفاء في علم حساب المثلثات، وكتبها في كتابه المشهور عند الغرب بعنوان (De Trianglis).
لكن برغم هذا التجاهل فقد وقف له العديد من علماء العالم احتراما وإجلالا لإسهاماته المتميزة في الرياضيات والفلك. حيث وصفه المؤرخ البلجيكي «جورج سارتون» في كتابه «تاريخ العلوم» بأنه أعظم علماء الحساب في الإسلام. ورأى المستشرق الفرنسي المعروف «البارون كارادي فو» أنّ «الخدمات التي قدّمها أبو الوفا لعلم المثلّثات لا يمكن أن يجادل فيها، فبفضله أصبح هذا العلم أكثر بساطة ووضوحا».
وتوفي «أبو الوفاء البوزجاني» في بغداد سنة 388 هـ (998م)، وتخليدا لذكرى وفاة هذا العالم الكبير اطلق اسمه على فوهة بركانيّة بالقمر. |