أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
كيف يمكن تفسير نشأة واستمرار دوران معظم الأجرام السماوية حول محورها
 المعرفة الطبيعية هي ربط الطبيعة بالعدد
يصف قانون «نيوتن» للجاذبيّة العامّة وقانون «كبلر» لحركة الكواكب حركة الكواكب حول الشّمس في مداراتها. معادلات الحركة مشتقّة من هذه القوانين، ومن هنا تمّ ولادة الميكانيكا السّماويّة، هذا العلم الذي يهتمّ بدراسة حركة الأجرام السّماويّة، وقد تمّ تطويره ليشمل حركة الأقمار الاصطناعيّة. لكن لا يمكن أن نجد في أيّ مكان في الأدبيّات العلميّة قانونًا مقبولاً لدوران الكواكب، لأنّ الجميع مقتنعون بأنّه لا يوجد شيء مميّز حول دوران الكواكب، باستثناء التّفسير «المفرط في الاستخدام» «... منذ زمن طويل في مجرّة بعيدة جدًّا...تمّ غزل - دوران - الغاز والغبار إلى قرص كوكبي أوّلي، وبسبب الحفاظ على الزّخم الزّاوي، تدور الكواكب الآن بسرعات عشوائيّة». إنّه نفس القول بأنّنا لا نعرف حقًّا كيف يحدث الأمر. لدينا مفهوم لكنّه ليس كافيا للتّعبير عنه بالأرقام. يقول اللّورد كلفن: «عندما تتمكّن من قياس ما تتحدّث عنه، والتّعبير عنه بالأرقام، فإنّك تعرف شيئًا عنه؛ ولكن عندما لا تستطيع قياسه، عندما لا تتمكّن من التّعبير عنه بالأرقام، تكون معرفتك هزيلة وغير مرضيّة، ربّما تكون بداية المعرفة، لكنّك بالكاد تتقدّم في أفكارك إلى مرحلة العلم، مهما كان الأمر». 
هل هو شرط أن تدور الأجسام السّماويّة حول محورها؟
لا يعرف العلماء إلى الآن شرطا فيزيائيّا لدوران الأجسام السّماويّة حول نفسها مثل شرط دوران الالكترونات حول نفسها في مداراتها حول النّواة، لكنّ الأجسام السّماوية تفعل ذلك بشكل عام، أي تدور دون معرفة الشّرط الفيزيائي الدّقيق لذلك. 
إذا فكّرنا في أصول تلك الأجسام السّماويّة، فمن السّهل فهمها إلى حدّ ما: سحابة كبيرة غير مستوية من الغاز والغبار، وربّما مع  فكرة «التّجاذب المتبادل المبثوثة في أيّة كتلة في الكون كلّه» وهي موجودة في تجمّعات مزدوجة، ثمّ تجمّعات أكبر فأكبر (تماما مثل فكرة التّمفصل المزدوج في اللّغة التي يتألّف منها المونيمات، ثمّ من المونيمات تتألّف الفونيمات أي الجمل ذات السّياقات المختلفة). وبعيدا عن فكرة التّقوقع حول الذّات، فإنّ التّكثيف الأوّلي للمادّة إلى جسم كثيف أكبر فأكبر، كميّات صغيرة جدًا من المادّة المتساقطة نحو بعضها البعض تتصادم تمامًا على طول نصف القطر الممتدّ من مركزها، تأتي معظمها من زوايا مختلفة بالنّسبة لنصف القطر الممتدّ من مركزه. ومن عواقب تلك التّصادمات نقل زخم زاوي صّافي يتماشى مع التّدفّق الصّافي للمواد إلى الجسم وحوله. بمجرد نقله، يتمّ الحفاظ على الزّخم الزّاوي، في الغالب، ويدور الجسم على محور واحد أو أكثر. يمكن أن يكون هذا الدّوران معقّدًا جدًا. ومع ذلك فهذا كلّه تفسير وليس شرطا فيزيائيّا لدوران الأجسام السّماويّة حول نفسها.
سؤال الاستمرار
الإجابة على سؤال الاستمرار في الدّوران إلى حدّ ما يسير، إنّ «قانون القصور الذّاتي»، وهو قانون «نيوتن» الأول للحركة، يخبرنا بما يلي: «يبقي الجسم على حالته من السّكون أو الحركة بسرعة منتظمة في خطّ مستقيم ما لم تؤثّر عليه قوّة غير متوازنة تغيّر من حالته»، وهو وإن كان في حالة الحركة الخطّية إلاّ أنّ له نظيرا في الحركة الدّورانيّة أيضا، لذلك فإنّ كلمة السّرّ هي القصور الذّاتي. أمّا سؤال النّشأة فهو شيء آخر.
عود إلى سؤال النّشأة
تتراكم كتلة الجسم الفضائي أثناء التّكوين من سحابة أوّليّة من الغبار والغاز ذي الحركة الدّواميّة، وبفضل الجاذبيّة والقوى الطّبيعيّة الأخرى تتصادم الجزيئات الأوليّة المكوّنة للنّماذج الأوليّة للأجرام السّماوية، وحتما لن تكون معظم التّصادمات وجها لوجه، أي على طول الخطّ الواصل بين مركزي الجسمين المتصادمين، فهذه الجسيمات تتلقّى طاقة حركيّة أكثر في اتجاه ما أكثر من الآخر، وبفضل قوى التّصادم هذه تتجمّع هذه الجسيمات داخل السّحابة الأوليّة مكوّنة نواة للجرم السّماوي الوليد. والذي سيمتلك زخما زاويّا صافيا حتّى وإن كان صغيرا. يسبّب هذا الزّخم الوليد دورانًا صغيرًا على السّحابة. يخبرنا قانون الحفاظ على الزّخم الزّاوي أنّه عندما تتكثّف السّحابة، يجب أن تدور بشكل أسرع - تمامًا كما يدور المتزلّج على الجليد بشكل أسرع عندما تنقبض أذرعه.  
وفي حالة دوران الأرض حول محورها، فهناك عزم الدّوران النّاجم عن الأجسام الأخرى، مثل الشّمس والقمر والمشتري والكويكبات القريبة وقوى المدّ والجزر التي تؤثّر على دوران الأرض. حيث تبطئ هذه التّأثيرات الخارجيّة من خلال عملها بمثابة مكابح لجاذبيّة دوران الأرض، لذلك لدينا حاليا  24 ساعة في اليوم بدلاً من 16 ساعة في الماضي. لذا فإنّ تخيّل أرض لا تدور هو تخيّل أرض لم تؤثّر عليها قوّة أو تمّ التّأثير عليها من قبل قوى تلغي بعضها البعض تمامًا. ومن غير المحتمل حدوث أيّ من الحالتين في تاريخ الأرض الذي يبلغ 4.54 مليار سنة.
حدود السّرعة التي يمكن أن يدور بها جسم سماوي حول نفسه
من المعلوم من دراسة الحركة بالضّرورة أنّه كلّما دار الجسم بسرعة أكبر كلّما تولّدت فيه قوّة طاردة مركزيّة أكبر، والتي من جرّائها تتحرّك الجسيمات الأسرع بعيدًا عن المركز، وتسقط الجسيمات الأبطأ إلى الدّاخل، وتُطرد الجزيئات الأثقل إلى الخارج. هذا كلّه يضع حدّا أعلى للسّرعة التي يمكن أن يدور بها جسم سماوي حول نفسه. فلكي يبقي الجسم متماسكا ينبغي أن يدور بسرعة أقلّ من تلك التي تقذف به أشلاء في الفراغ الكوني. 
«التّفلطح» كناتج للسّرعة الدّورانيّة 
من الدّوران يُخلق اللّيل والنّهار على الأرض، والدّوران يؤثّر في شكل الأجرام السّماويّة من خلال جعلها تتسطّح عند القطبين وتنتفخ عند الاستواء. إذن «التّفلطح» هو نتاج للسّرعة الدّورانيّة، وهو يصيب جميع الأجسام التي تدور، إذ يجعل أشكال الأجسام السّماوية تحيد عن شكلها الكروي التّام ذي نصف القطر الواحد إلى ما يشبه المجسّم النّاقصيّ ذا الأقطار الثّلاثة المختلفة. يحسب معامل «التّفلطح» هذا من الفرق بين القطر الاستوائي والقطر القطبي النّاتج عن قوى الطّرد المركزي عند خطّ الاستواء معيارا بمتوسّط قطر الجرم السّماوي. ويؤثّر «التّفلطح» على الأرض أيضًا، إذ تنتفخ عند مستوى دائرة الاستواء. وعلى حدّ علمنا، فإنّ الفرق بين هذين القطرين في النّجم النّيوتروني -أسرع النّجوم دورانا حول نفسه- يمكن أن يصل إلى 0.8 مقارنة بحوالي 0.003 بالنسبة للأرض. تنشأ النّجوم النّيوترونيّة من النجوم العملاقة في نهاية حياتها وتنهار معظم كتلتها إلى كتلة فائقة الكثافة تتكوّن أساسًا من النّيوترونات التي تنشأ عندما تطغى قوى الجاذبيّة على قدرة الإلكترونات والبروتونات لتبقى كيانات منفصلة. تظهر هذه على شكل «النّجوم النّابضة» التي تطلق رشقات من موجات الرّاديو من أقطابها أثناء دورانها. أسرع نجم معروف هو PSR J1748−2446ad، الذي يدور 716 مرّة في الثّانية. تدور النّجوم النّيوترونية بسرعة كبيرة لأنّ زخمها الزّاوي محفوظ عندما تنهار من نجم قد يكون حجمه 25 ضعف حجم الشّمس إلى حوالي 20 كيلومترًا. يتمّ الحفاظ على الزّخم الزاوي من خلال صنع نجم أصغر، والذي لا يزال لديه نفس الكتلة في الغالب، تمامًا مثل المتزلّج الذي يسحب ذراعيه إلى الدّاخل.
دوران الأرض كمثال
تكوّنت الأرض من سحابة من الجسيمات الأوليّة التي لها جميعًا زخم فردي - اتجاهات وسرعات فرديّة. يستمر هذا الزّخم في تغذية حركة الأرض في كلّ درجات الحرّية المتاحة لها. وما لم تكن هناك قوّة تمسك بالجسم، فإنّه سيتحرّك بكل درجات الحرّية التي يتمتّع بها. فعلى سبيل المثال، تتمتّع الأرض بدورة أساسيّة مدّتها 24 ساعة، على محور دورانها الأساسي، لكن هذا المحور يرسم دائرة في السّماء على مدى حوالي 26 ألف سنة، تسمّى «مبادرة الاعتدالات»، تنشأ في الغالب من تأثيرات الجاذبيّة المتنافسة للأرض(الشّمس والقمر على الأرض غير الكروية تمامًا)، يحافظ نظام الأرض والقمر على إحساس بالزّخم الزّاوي الذي يتعارض مع مدار كلّ منهما حول الشّمس، على الأرجح بسبب الاصطدام المائل لجسم بحجم المريخ مع الأرض الأوليّة. لذا فإنّ التّناقض في الزّخم الزّاوي الإجمالي يمكن أن يسلّط الضّوء على تاريخ غير واضح من الأشياء اليوم.  
والمثال الأكثر تطرّفا هو دوران كوكب «أورانوس». فهو يحافظ على الإحساس العام بالزّخم الزّاوي الذي نشأ من سحابة الغاز والغبار التي شكّلت الشّمس، ولكنّه يدور حول محور موازٍ تقريبًا لمداره: تشير دراسة حديثة إلى أنّ ذلك كان نتيجة لتعرّضه لضربة قويّة من جسم ما أكبر من الأرض. وهكذا، في حين أنّ مداره يشير إلى الزّخم الزّاوي للنّظام الشّمسي ككل، فإنّ دورانه، وبشكل أكثر تحديدًا محـور دورانــه، يشير إلى مساهمات أخرى في الزّخم الزّاوي الإجمالي.