في النقد الأدبي
بقلم |
![]() |
عبد الهادي الزّين |
في منهج القراءة النقديّة «الحتميّة الانتصارية في مدوّنة أبي القاسم الشّابّي، بحث في الأصول القرآنيّ |
تمهيد
نجم الشّابّي في الثلث الأول من القرن العشرين، فسطع نجمه في عالم الأدب والنّقد والفكر «فملأ الدّنيا وشغل النّاس»(1) من خلال ما أنشأ من الشّعر وما دوّن من آراء ومواقف نقديّة أدبيّة وفكريّة.
وشغلت مواقفه النقدية وإبداعاته الشّعريّة جمهورا واسعا من الأدباء والمثقفين المعاصرين له،وتواصلت اهتماماتهم به بعد رحيله المبكّر (1909-1934م) إلى يومنا هذا، وقد قلّبوا شعره ونثره على كلّ الوجوه، وبحثوا عن أسرار عبقريته الشعريّة وعن طرافة مواقفه النقديّة الأدبيّة والفكريّة، واختلفوا في شأنه بين قادح ومادح وبين متحامل عليه ومنصف له، ولا يتّسع حيز هذا التقديم المختصر لمصنّف الأستاذ والشاعر بحري العرفاوي لاستعراض مختلف هذه الدّراسات النّقديّة حول الشّابّي.
طبيعة البحث ودوافعه ومنهجه
يعدّ بحث العرفاوي المعنى بهذا التّقديم من أواخر ما صنّف في تقويم شعر الشّابّي ونثره، ونحن في الذّكرى التّسعين لوفاة الشّاعر. وهذا العمل تمّ إنجازه باعتباره «مبحثا حضاريّا وليس مبحثا في الأدب»(2) وقد جعل له المؤلّف هدفا محوريّا وهو «الكشف عن كيمياء القرآن الكريم في الرّوحيّة الانتصاريّة في مدوّنة أبي القاسم الشّابّي(3). ومن ذلك انتصار النّور على الظلمة والحقّ على الباطل والعدل على الظلم والحرّية على القيد... غير أنّ ذلك لا ينفي ما نجده أحيانا عند الشّابّي من حالات القلق والشكوى والألم واليأس.
أنشأ المؤلّف هذا البحث مدفوعا بعاملين: الأول عامل موضوعي معرفي حضاري «أثر الكلمة في بثّ الحياة وتفجير الإرادة وإلهام الشوق واليقين وتحقيق الانجذاب إلى المستقبل»(4) والثاني عامل ذاتي وهو اعتبار النصّ القرآني الملهم الأعظم لمشاعر الأمل والقوّة والإرادة، والشعراء هم الأقدر على استلهام ذلك. وتساءل الباحث عن وجود مفارقة بين انتصاريّة النصّ الشعري وبين انهزامية الواقع المعيش وعن سرّ صمود الشّابّي إلى اليوم «فنّيا وقيميّا وفلسفيّا»(5)
أمّا منهج هذه القراءة النقديّة الحضاريّة فقد وسمه بالسياقي فيه بحث عن «الوشائج الدّلاليّة بين النصّ القرآني وقول الشّابّي شعرا ونثرا» وحاول المؤلف أن يمسك بالخيط الناظم في سياق التاريخ بين مفاعيل عوالم المادّة والأشياء والوقائع وبين تفاعلات عوالم النفس والعواطف»(6)، وهو يرى أنّ الكينونة التاريخيّة هي الجامع بين الإنسان وبين الكلمة بما فيهما من الحركة والنمو والضمور والضعف وفق ما تمليه البيئة والوقائع والأحداث.
هذا هو البيان النظري التمهيدي الذي حدّده الباحث لعمله النقدي الحضاري وفيه ضبط للمنهج وللدّوافع والمقاصد. ثمّ حدّد التخطيط الذي وضعه لبحثه المكوّن من مقدّمة وأربعة فصول وثمانية مباحث وخاتمة، وأشار إلى بعض الصعوبات التي واجهها في هذا البحث - وهو رسالة ماجستير- بحكم أنّه مبحث حضاريّ وليس مبحثا في الأدب.
فصول الكتاب ومباحثه: قراءة في المضامين
خصّص المؤلّف الفصل الأول من البحث لدراسة نشأة أبي القاسم الشّابّي الروحيّة والذهنيّة والتاريخيّة، فوقف عند علاقته بوالده الأزهري الزيتوني، وقد قال عنه في صفحة الإهداء لمحاضرته «الخيال الشعري عند العرب»: «إنّه أفهمني معاني الرّحمة والحنان،وعلّمني أنّ الحقّ خير ما في هذا العالم وأقدس ما في هذا الوجود»(7) فعلاقته بوالده جمعت بين الوجدان والفكر والقيم الأخلاقيّة، وقد تنقّل الشّابي معه في العديد من المدن التونسيّة حيث تولّى القضاء الشرعي، وكانت الأسرة المحافظة هي الحاضنة الأولى لشخصيّة الشّابّي قبل أن يلتحق بالعاصمة وهو في سنّ الثانية عشرة من عمره، ويدرس بجامع الزيتونة المعمور، وينهل من علومه الشّرعيّة واللّغويّة والأدبيّة، «لقد عاش الشّابّي في عالم المعنى واستمع باكرا إلى قول الكائنات كما لو أنّه يتلقّى بقايا وحي. في عوالم الحقيقة والكمال ينشا شاعرا يتجاوز الأمكنة والأزمنة ويكون شاعرا إنسانيّا فيلسوفا رومانسيّا منتصرا للحياة وللمستقبل، متمرّدا على التقليد والموت»(8) هكذا يرى المؤلف شخصيّة الشّابّي بكلّ أبعادها الانتصاريّة وبتنشئتها القرآنيّة الزيتونيّة وبروحها النضاليّة العمليّة وهو من كان من الأعضاء المؤسّسين لجمعيّة الشّبان المسلمين مع ثلّة من مشائخ الزيتونة في 30 ذي الحجّة 1347هـ / 07 جوان 1929م.
إنّ رومنطيقيّة الشّابّي في تقدير المؤلف «يغلب فيها التفاؤل على التّشاؤم ، وقصائده الوطنيّة تعكس روح الأمل في الخلاص من الظلم والانتصار عليه، على أنّنا نجد في بعض أشعاره أحيانا حالات من القلق والحزن واليأس ولكنّها لا تطغى على الرّوح التفاؤليّة الانتصاريّة المستمدّة من القرآن الكريم»(9)
وتعرّض الباحث إلى السّياق التّاريخي الذي واكبه الشّابّي وأثّر في شخصيّته، فقد عاش ما بين الحربين العالميتين «في وضع اجتمع فيه الظّلم والظّلمة»(10) واحتدم فيه الصراع بين المقلّدين والمجدّدين في مجالات الأدب والفكر والسياسة، وبرزت حركات الإصلاح والمواقف الدّاعية إلى مقاومة الهيمنة الاستعماريّة، وانتشرت الأفكار التحرّرية المقاومة للجمود والركود والتخلّف بكلّ وجوهه، «كان الشّابّي معنيّا بمعركة الحياة، معركة التحرّر الوطني التي تبدأ بخوض معركة الوعي ومعركة تصحيح المفاهيم ومعالجة الانحرافات، وكان الشّابّي شجاعا في مواجهة إرث تقليديّ كبّل عزائم الواهمين وجعلهم يستسلمون للظّلم وكأنّه قضاء وقدر.. تجد انتصاريّة الشّابّي جذورها في الفكر الإصلاحي ونجد أصولها العقديّة في القرآن الكريم»(11). ذلك هو رأي العرفاوي في شخصيّة الشّابّي بمختلف العوامل المؤثرة فيها روحيّا وثقافيّا وأدبيّا، وهو ما سيكون له الأثر البيّن في ما أنتجه شعرا ونثرا وفي ما أشاعه في أدبه من المواقف والآراء.
وانتقل بنا الباحث في الفصل الثاني من كتابه (ص25-61) وقد وسمه بـ «جدليّة الذّات والواقع» إلى الحديث عن «كيمياء القرآن الانتصاريّة» ليبحث عن «التواشج الدّلالي بين النصّ القرآني وقول أبي القاسم الشابّي»، ويستعرض أوجها مختلفة من هذه الإنتصاريّة وهي «حضاريّة وجوديّة إنسانيّة جماليّة»(12)، وهي أيضا «انتصاريّة نفسيّة لدى الشاعر القرآني أبي القاسم الشّابّي»(13). ومن نماذج هذه الانتصاريّة الانبعاث في مواجهة العدم والمقاومة والإيمان بالحقّ والجمال والكمال والعدالة والاستخلاف في الأرض ، ويؤكّد أنّها إنتصاريّة قرآنيّة يتراوح فيها حال الشّاعر بين «صوفيّة وجوديّة حالمة وبين غضبة الثّائرين وحزن المخيبين وشكوى الموجوعين»(14). ويستدعي المؤلّف شاهدا من شعر الشّابّي لتأكيد هذه الانتصاريّة المقاومة : ومن يتهيّب صعود الجبال *** يعش أبد الدّهر بين الحفر»(15).
ويتحدّث المؤلف عن حضور الزّمن في شعر الشّابّي فيرى أنّه من فعل «كيمياء القرآن الكريم» وآيات القرآن الكريم في تقديره نزلت في سياق زماني ومكاني وتاريخي لمعالجة وقائع وأحداث وتأسيس واقع جديد، ويورد شاهدا من شعر الشّابّي لتأكيد هذا المعنى في قصيدته «إلى الشّعب»:
أنت دنيا يظلّهـا أفـق الماضي *** وليـــل الكآبــة الأبـــدي
مات فيها الزّمان والكـون إلاّ *** أمسها الغابر القديم القصيّ
الشقيّ الشقيّ في الأرض قلب *** يومه ميّت وماضيه حــيّ
ويحرص الباحث على تأصيل هذه الدلالات الشعريّة في مدوّنة النصّ القرآني من خلال ما ورد فيه من القصص والمعاني والأحكام، ويسوق أنموذج قصّة أهل الكهف وقصّة القرية لفهم فلسفة الزّمن وقانون الحركة ومفهوم الحياة»(16) فالذي ينام «يوما أو بعض يوم» قد يضيع على نفسه «مائة عام»وهذا يعني رمزا وتأويلا أنّ البعض يواكبون حركة الزّمن فينجزون حضاريّا بينما ينام آخرون فيعزفون عن أي منجز حضاريّ. بهذا المنهج التأويلي الرمزي يقرأ المؤلّف قصّتي أهل الكهف والقرية في القرآن الكريم ، وهذه القراءة الحضاريّة الثّقافيّة في مقاربة النصّ القرآني تذكّرنا بالقراءة الرمزيّة لدى المتصوّفة قديما وحديثا، أي أنّه يتمّ تجاوز ظاهر النصّ للولوج إلى بواطنه القابلة للانفتاح على العديد من التأويلات، وهذا ما نجده مثلا لدى إبن عربي في كتاباته النّثريّة والشّعريّة ولدى الحلاّج وإبن الفارض والجنيد وغيرهم من أعلام الصّوفيّة.
وعلى هذا المنوال التأويلي سعى العرفاوي إلى البحث عن «التواشج الدّلالي بين حتميّات القرآن الانتصاريّة وبين قول الشّابيّ»(17)، وهو يتساءل عن «انجذابات الشّاعر الصّوفيّة» وعن «تداخل بعض نصوصه مع الخطاب الصّوفي»(18)، ثمّ يجيب مباشرة عن تساؤله ليؤكّد أن «المنحى الصّوفي» حاضر في مواطن عديدة من خطاب الشّابّي شعرا ونثرا، وهذا التصوّف «صفاء نفسي وجهد روحي في التسامي عن كثافة المادّة والاقتراب من عالم الحقيقة والكمال»(19) ويذكّرنا بصوفيّة بعض الشعراء المحدثين ومنهم الشّاعر الفيلسوف محمد إقبال. ثمّ يقرّ أدبيّا أنّ الشّابّي ينتمي إلى المدرسة الرومنسيّة كردّفعل على الحضارة المادّية، ويعود ليذكّرنا بالخيط الناظم لعمله وهو البحث عن «حتميّة القرآن الانتصاريّة في مدوّنة الشّابّي»(20)، غير أنّ هذه الانتصاريّة لم تكن مطلقة إذ تنتاب الشّاعر أحيانا انفعالات فيها مزيج من الأمل واليأس والفرح والحزن والطمأنينة والقلق، ولكنّه يقاوم هذه المحاولات من اليأس والإحباط، منتصرا للأمل وداعيا إلى التحرّر من قيود الخوف والتردّد والخنوع. ويعلّل المؤلّف ذلك بما ورد في القرآن الكريم من دعوة إلى مقاومة اليأس ووسواس الشيطان وحثّ على الشجاعة والصبر ونحو ذلك من المعاني الانتصاريّة المستمدّة ضمنيّا من المدوّنة الدينيّة(21)
ويحرص العرفاوي في أكثر من موضع من كتابه على الموازنة بين الرسل والأنبياء وبين الشعراء والفلاسفة في ما يواجهون من الحواجز والعوائق والعراقيل من أقوامهم ومن جمهورهم المتلقّي،وكذلك كان شأن الشّابّي في علاقته بالمثقفين في عصره وبأبناء شعبه وقد عبّر عن ذلك في ما دوّنه من شعر ونثر(22). ثمّ يوازن الكاتب بين حضور الطبيعة في القرآن الكريم باعتبارها «مصدرَ إلهام ومنبع أمل ومجالا للتفكير والتدبّر والتساؤل»(23) ، وبيّن حُضورها في شعر الشّابّي بما فيه من قاموس قرآني ومن «حضور لحتميّة الانتصار التي يبشّر بها القرآن دائما»(24) ، ويستدعي لتأكيد ذلك صورا ونماذج من ذكر الطبيعة في المدونتين: القرآن وشعر الشّابيّ(25)، ويقتبس شواهد من سورة الفتح (الآية 29) حين ضرب اللّه مثلا بمحمد ﷺ وأصحابه في شدّتهم على الكفّار وتراحمهم بينهم وكذلك مثل أصحاب التوراة والإنجيل ﴿... كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ (الفتح: 29)، فيذهب في تأويله الرمزي إلى أنّ الزرّاع الوارد ذكرهم في هذه الآية هم زرّاع الأمل ومقاومي الجدب محبّي الحياة صنّاع الانتصارات»(26) وهذا التأويل على طرافته فيه توليد لمعنى مستحدث وقراءة تعكس مقاربة شعريّة مخصوصة للنصّ القرآني، فتكون الطبيعة في تقديره متحرّكة «في انسجام مع إرادة الله المنتصرة للحقّ والحقيقة... الطبيعة ليست في صراع مع الإنسان وليست مصدر شقاء»(27)
وتلك هي منزلة الأرض في الخطاب القرآني مفعمة دوما بالحياة والجمال والخصب والإعمار. ويتحدّث الشّابّي في قصيدته «إلى الطّاغية» عن أحلام البلاد الدّفينة المتجمجمة في الأعماق في إنتظار الإنبعاث والنشر،وهذه الصّورة الشعريّة ينزّلها العرفاوي تأويلا في سياق مرجعي من المعاني القرآنيّة الانتصاريّة يقتبسها من سورة الأنعام (الآية 29) حول إنزال الماء من السّماء وإخصاب الأرض بكلّ الثمرات(28). وتنبض قصيدة «يا ابن أمّي» للشّابّي بزخم من المعاني التفاؤليّة الانتصاريّة حيث «الدّعوة إلى السير في سبيل الحياة وإلى تحقيق مشيئة الله»(29). وذكر الطّبيعة في هذه القصيدة يدفع الإنسان إلى الأمل ويجعل الانتصار ممكنا طالما أنّ الكون مسخّر بمشيئة الله لابن الوجود(30). ويبدو أنّ المؤلف مدفوع دوما بهاجس البحث عن الوشائج الواصلة بين الرّوح الانتصارية المستمدّة من القرآن وبين الحتمية الانتصارية في شعر الشّابّي. لذلك تجده يهوّن من معاني الحزن والأسى الواردة في شعر الشّابّي فيرى أنّها «لا تنال من انتصاريته»(31). ذلك أنّ القلق والضعف والحزن واليأس والانكسار حالات نفسيّة طارئة تقتضي صبرا وجلدا دون انحدار إلى الانهزام. ويستشهد المؤلّف في هذا السّياق بما تعرض إليه الرّسل والأنبياء من عنت و مقاومة وعناء من أقوامهم ولكن الله دعاهم إلى الصّبر وإلى دفع أسباب الحزن وبشّرهم بالنصر(32).
أمّا الغربة في شعر الشّابّي(33) فهي «غربة رسالة» بين قوم لا يفقهون جوهر ما يحمله من مشاعر وأشواق وأفكار، وقصيدته «النبيّ المجهول» تعبّر عن صرخته في وجه شعب لا يفقه هذه الرّسالة بما كان عليه من الجهل والغباء وغياب الإدراك والكرامة وأسباب الحياة. ويرى المؤلّف في هذا الموقف من الشّابّي دفقا من «كيمياء» القرآن الكريم ومفردات قاموسه النابض بالحركة والمزدحم بالصور، إنها غضبة نوح وهجرة إبراهيم «إنّي ذاهب إلى ربّي سيهديني»(34). والذهاب إلى الغاب الوارد في قصيدة الشابّي هو الذهاب إلى حياة بكر غير مستهلكة وغير ملوّثة حيث يصغي إلى المعنى وإلى الحقيقة، إنّه ذهاب إلى اللّه (35)، وغربته هي غربة الأنبياء يستخفّ بهم قومهم وينأون عنهم. ويبرّر المؤلّف هذا الهروب إلى الغاب بالذّهاب إلى «عالم أرقى وأنقى» حيث يكون الانتصار على الموت وعلى دعاة الموت، ويوازن بين هذا الذّهاب إلى الغاب وبين ما ورد في القرآن الكريم من وصف للطبيعة واحتفال بمختلف عناصرها من رياح وأعاصير ورعود وبرق وسحاب. ويستشهد بقوله تعالى : ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(الحج: 5).والحديث عن الطّبيعة دفع المؤلّف إلى الحديث عن موقف الشّابّي من «الخيال الشعري عند العرب»، فالشّاعر لم يجد في هذا الخيال «المعاني المنتصرة لفلسفة الخلق كما هي في القرآن الكريم»(36) ويقتبس من محاضرة الشّابّي شاهدا لتعزيز هذا الاستنتاج «إنما أريد أن أبحث في الخيال من ذلك الجانب الذي يتكشّف من نهر الإنسانيّة الجميل الذي أوّله لا نهاية الإنسان وهو الرّوح وآخره لا نهاية الحياة وهي اللّه»(37)، وقصيدة الشّابّي «مناجاة عصفور» تؤكّد ما كان لدى الشّابّي من شعور حادّ بالغربة في مواجهة الآخرين، فهو لا يرتضى ما يصنعون وما ينطقون به من غثّ الحديث، وتلك لعمري منزلة الشّاعر والفيلسوف والنّبي في علاقتهم بالآخرين، وماهم عليه من الغثاثة والضعف والهوان، ويعالج المؤلف ما أسماه بـ «فلسفة القوّة والتحدّي» في شعر الشّابّي(38) وهي في نظره بعض فلسفة القرآن الانتصاريّة حيث تدعو عديد الآيات الإنسان إلى عدم الاستكانة للظلم أو القبول بالمهانة ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾( آل عمران: 139) و﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾( المنافقون: 8)، ويستدعي لتأكيد هذا المعنى قصيدة «إلى الطّاغية» أنموذجا للتعبير عن فلسفة القوّة عند الشّابّي:
لك الويل يا صرح المظالم من غـد *** إذا نهض المستضعفون وصمّموا
إذا حطّم المستعبدون قيودهـــم *** وصبّوا حميم السّخط أيان تعلـم
إنّ روافد الشّابّي في نظرته للإنسان والحياة والوجود مستمدّة من القرآن الكريم بالأساس فضلا عن معارفه الأخرى في الأدب والفكر. وقد ميّز الشّابّي في شعره بين الإنسان الحيّ الذي يحقّق الفعل والتجديد والنماء وبين الإنسان الميّت الذي يكتفي «بالعيش بما هو حالة بيولوجيّة . وحين تنتصر فيه الشهوة على الإرادة والغريزة على الوعي»(39). وهذه الصورة للأحياء/الموتى يجد لها المؤّلف نظيرا في القرآن الكريم ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾(المنافقون: 4) و﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾(الحاقة: 7)(40). إنّ هذه الموازنة يعقدها المؤلّف بين المدونتين «القرآنيّة» و«الشعريّة» ليثبت قناعة لديه قوامها أنّ المعاني الانتصاريّة لدى الشّابّي مستمدّة من رصيد مرجعي ديني فيستدعي الآيات المناسبة ليوافق بينها وبين الأبيات الشعريّة ليقتبس من ديوان الشّابّي ما يثبت تأثّره بآيات الذكر الحكيم في حديثه مثلا عن «الجموع الجمّة التي لا تعدو أن تكون ركاما بشريّا يعيش بلا لبّ :
إنّي أرى فأرى جموعا جمّـة *** لكنّها تحيــــا بـلا ألبــاب
يدوي حواليها الزّمان كأنما *** يدوي حوالي جندل وتـــراب
إذا استجابوا للزّمان تناكروا *** وتراشقوا بالشّوك والأحصاب
إلى آخر ما في هذه القصيدة «الدنيا الميّتة» من ثورة على المستكين والرّاضي بالمذلّة والهوان، وهي معان يستمدّها الشّاعر من حتمية القرآن الانتصاريّة(41). والشاعر يثور على أسباب التقليد والضعف والعجز ولكنّه لا يستسلم ذلك أنّ «الشّابّي كما عدّ من شعراء الرومانسيّة يعتبر نفسه صاحب رسالة كما الأنبياء»(42)، ويستدعي العرفاوي آيات من القرآن الكريم تعزّز معاني الصّبر والمقاومة لأسباب القلق واليأس في خطاب الله لمحمّد ﷺ ، يقول تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾(الكهف: 6) وقوله: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾(فاطر: 8)وقوله جلّ ذكره:﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾(النحل: 127)، وبذلك يعتبر القرآن ملهما لأسس الانتصار محرّرا للإنسان من الحسرة والحزن(43)، وذاك هو مسلك الأنبياء والشعراء في مواجهة المكاره وفي مكابدة الخطوب. ورسالة الشّابّي هي إرادة الإصلاح ، «وهي رسالة مستوحاة من إرادة اللّه وأوامره»(44).
كلَّما قامَ في البـــلادِ خَطيــبٌ *** مُوقِظٌ شعبَهُ يُريدُ صَلاحَــــهْ
أَلْبَسوا رُوحَهُ قَميصَ اضْطِهادٍ *** فاتِكٍ شائِكٍ يَــرُدُّ جَمَاحَـــــهْ
أَخْمَدوا صَوْتَهُ الإِلهيَّ بالعَسْفِ *** أَماتـــوا صُدَاحَهُ وَنُواحَــــهْ
تلك هي «القومة» الحضاريّة يعلنها الشّابّي في مواجهة القاعدين والمقعدين، دون أن يطفئ ذلك في كيانه جذوة الحتمية الانتصاريّة (45):
إنَّ ذا عَصْرُ ظُلْمَةٍ غَيْرَ أنِّــــي *** مِنْ وراءِ الظَّلامِ شِمْتُ صَبَاحَهْ
ضَيَّعَ الدَّهْرُ مَجْدَ شَعْبي ولكِنْ *** سَتَرُدُّ الحَيَاةُ يومـاً وِشَاحَـــهْ
نجد في أطوار هذا البحث الحضاري الأدبي قناعة مطلقة لدى المؤلف بأنّ هذه المعاني الشعريّة الانتصاريّة لدى الشّابّي تستمدّ أصولها من رصيد مرجعي قرآني وهذا ما يدفعه إلى اختيار الآيات المناسبة للموازنة بينها وبين الأشعار الموافقة لها في الدّلالة العامّة للصّور والعبارات والألفاظ.
ويبدي العرفاوي حرصا واضحا على استقصاء الآيات القرآنيّة التي يرى أن لها علاقة بيّنة بأشعار الشّابّي وما تشي به من دلالات انتصاريّة متعدّدة المشارب والوجوه كدلالات القوّة ومعاني الانتصار وجدليّة الصّراع بين الحقّ والباطل و«النهايات المذلّة للطّغاة والمتجبّرين وبدايات انتصار المستضعفين»(46)، ويورد في سياق هذه الموازنات بين الاشعار والآيات ما حدث لعاد وثمود من هلاك ودمار مقتبسا شواهد ممّا ورد في سورتي الحاقّة (1-10) والشمس (14)، ويردف ذلك بالقول «يعبّر أبو القاسم الشّابّي عن هذه المعاني في قصيدته «إلى الطّاغية»(47)، ويستدعي شاهدا شعريّا من ستّة أبيات يقتطفها من هذه القصيدة فيها ذكر للطغيان والمذلّة وحديث عن صوت الشّعب ولعلعة الحقّ وتحطيم الاستعباد (48). ويرى أنّ قصّة نوح مع قومه تجسّد «مشهديّة انتصاريّة» وهي بمختلف وقائعها الملحميّة «تلهم الشّابّي طاقة شعوريّة ومعجما شعريّا ويقينا انتصاريّا نجده مبثوثا في نصوصه بكثافة»(49). وهو يستعرض الرصيد المعجمي الشّائع في شعر الشّابّي، ويورد مفردات «منتزعة من ديوان الخلق»(50)، كاللّيل والفجر والجبال والعواصف والرّعد ونحو ذلك، ويرى في ذلك تواشجا مع الصياغات الواردة في النصّ القرآني، ولعلّه يقصد الحقل المعجمي القرآني. ثمّ يورد بعد ذلك اقتباسا من محاضرة الشّابّي «الخيال الشّعري عند العرب»: «فانغمست النّفوس في حمأة الشّهوات انغماسا أمات بها العواطف الهائجة وأخمد نوازع الشّعور. وأصبحت الطّبيعة في أنظارهم وسيلة جامدة من وسائل اللّذة لا منبعا خالدا من منابع الإلهام»(51)، ثمّ يوازن بين هذا الرّأي النّقدي عند الشّابّي وبين قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(الأعراف: 179). إنّه التّقارب الذي يرتئيه المؤلّف بين النّصين في العلاقة التأمّليّة العميقة للطّبيعة بكلّ رموزها وأبعادها ودلالاتها. وينتقد المؤلّف الكتابات المهيمنة حول شخصيّة الشّابّي(52) وفيها تركيز على رومانسيّته وعشقه للطّبيعة وإحساسه المفرط وهروبه إلى الغاب ويأسه من شعبه. وهي كتابات «تغفل الرّوح الانتصاريّة في أدب الشّابّي فلا تكشف عن عنفوانه الثّوري وعن كيمياء القرآن المتفجّرة في نصوصه نثرا وشعرا»(53)، لينتهي إلى الإقرار بتميّز شخصيّة الشّابّي الأدبيّة والفكريّة(54) عن غيره من المدارس الأدبيّة التجديديّة في عصره وعن مختلف الفلسفات السّائدة عصرئذ، فهو لم يتمرّد على المؤسّسة الدّينيّة بل كانت ثورته «من داخل الدّين ليقيم الدّين»(55)
الهوامش
(1) على رأي إبن رشيق في شخصيّة المتنبّي في كتابه العمدة
(2) الحتميّة التّاريخيّة في مدوّنة أبي القاسم الشّابّي، بحث في الأصول القرآنيّة للأستاذ بحري العرفاوي، صفحة 6
(3)، (4) و (5) نفسه، ص 5
(6) نفسه، ص 6
(7) نفسه، ص 9
(8) نفسه، ص 11
(9) نفسه، ص 13-14
(10) نفسه، ص 16
(11) نفسه، ص 22
(12) نفسه، ص 25
(13) نفسه، ص 26
(14) نفسه، ص 26
(15) نفسه، ص 28
(16) نفسه، ص 29
(17) و (18) نفسه، ص 30
(19) نفسه، ص 31
(20) نفسه، ص 32
(21) نفسه، ص 34
(22) و (23) نفسه، ص 36
(24) نفسه، ص 38
(25) نفسه، ص 36-39
(26) و (27) نفسه، ص 37
(28) نفسه، ص 38
(29) و (30) نفسه، ص 39
(31) نفسه، ص 40
(32) نفسه، ص 40-41
(33) نفسه، ص 41-46
(34) و (35) نفسه، ص 43
(36) نفسه، ص 45
(37) الخيال الشعري عند العرب، ص 40
(38) الحتميّة التّاريخيّة في مدوّنة أبي القاسم الشّابّي، ص 46
(39) نفسه، ص 47
(40) نفسه، ص 48
(41) نفسه، ص 48
(42) نفسه، ص 49
(43) نفسه، ص 49
(44) و (45) نفسه، ص 50
(46) نفسه، ص 52
(47) نفسه، ص 52
(48) نفسه، ص 52-53
(49) نفسه، ص 55
(50) نفسه، ص 57
(51) نفسه، ص 60
(52) و(53) نفسه، ص 59
(54) و(55) نفسه، ص 60
ملاحظة: اكتفينا في هذا التّقديم الموجز بعرض نماذج من عمل العرفاوي وهي في تقديرنا ممثّلة لجوهر ما حرص المؤلّف على إنجازه في هذا البحث الحضاري المتعلّق بإثبات الأصول القرآنيّة للحتميّة الانتصاريّة في مدوّنة الشّابّي الشّعريّة والنثريّة.
|