بحوث
بقلم |
![]() |
م.لسعد سليم |
الكبائر في القرآن الكريم(4) التقول على الله/ شهادة الزور |
التّقوّل على الله (الأيمان/التّحريم/الفرض باسم الله بدون يقين)
التقوّل على اللّه جلّ جلاله بدون يقين (علم) هو من أوّل ما حرّم اللّه (مع الفواحش) وذلك منذ أوّل البعثة (سورة الأعراف): ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(الأعراف:33)
وذلك بعد أن فنّد جلّ جلاله الادّعاء بأنّه هو الذي أمر بفاحشة(التّزوّج من أرملة الأب): ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(الأعراف:28)، فقرن سبحانه التّقوّل عليه بدون علم (يقين) بالشّرك في دلالة واضحة على عظم هذه الكبيرة بعد أن كرّر نفس القول «أَتَقُولُونَ/أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَعْلَمُونَ». كيف لا والتقوّل على اللّه (بدون علم) هو أصل تحريف «الدّين»، ولا أقول أديان لأنّها هي ذاتها نتيجة لتحريف الدّين الحقّ الذي هو الإسلام أي الدّين الذي أتى به كلّ الأنبياء والرّسل منذ بدأ الخلق، سواء كان شفويّا أو كتابيّا. حيث وقع تحريف هذه الكتب، فكان اللّه سبحانه يبعث رسولا آخر ليصحّح الرّسالة من جديد وصولا إلى سيدنا محمد ﷺ خاتم النّبيّين، بعدها تعهّد اللّه بحفظ القرآن إلى قيام السّاعة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُون﴾(الحجر:9)
فكما طالب جلّ جلاله بإتيان الدّليل (العلم) وعدم اتباع الظنّ في المعتقدات سواء من المشركين (أو الكافرين )كجعل آلهة معه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا أوادعاء أنوثة الملائكة أو إنكار الآخرة:
*﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾(الصّافات:149-150)
*﴿وَقَالُوا مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾(الجاثية:24)
أو من «مؤمني» أهل الكتاب كدعائهم قصر مدّة عذابهم: ﴿وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ* بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة:80-81)،﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ*ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾(آل عمران:23-24)
طلب أيضا دليلا يقينيّا لكلّ من يدّعي أنّ اللّه حرّم أو فرض بعض الأعمال، وهذا اليقين لا يكون إلّا بما يبلغ الرّسل عن اللّه عزّ وجل لمن عاصرهم، أمّا في وقتنا الحاضر فالقرآن هو المصدر الوحيد الذي يفيد العلم وبالتّالي اليقين، بعد اندثار النّسخ «الأصليّة» للتّوراة والإنجيل بينما القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي نزل على الرّسول ﷺ، فقد تعهّد اللّه بحفظه إلى قيام السّاعة كما ذكرنا، فلا حاجة للرّسل بعد محمد ﷺ. ولكن للأسف حصلت كثير من التّجاوزات في موروثنا الفقهي والتي تفاقمت على مرّ العصور، فصار التّحريم/الفرض من طرف المسلمين أيضا بغلبة الظّنّ لا باليقين بحجج وقواعد كـ«الأعمال ليست كالعقائد فيكفي الحكم عليها (أي التّحليل والتّحريم باسم اللّه عزّ وجلّ) بغلبة الظّنّ، متناسين قوله سبحانه وتعالى مخاطبا من يدّعي تحريم اللّه لنوع من الأنعام وذلك في سورة تحمل نفس الإسم «الأنعام»، والتي محورها الأساسي هو التّحريم باسم اللّه بدون علم أو يقين:
*﴿وَقَالُوا هَٰذهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ *وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَٰذهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *.... ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(الأنعام:138-144)
فوصف اللّه جلّ جلاله من يحرّم أو يفرض باسمه تعالى بدون علم بـ «الضّالّين»، سواء كان مسلما أم لا. فسياق الآيات يتحدّث عن تحريم أفعال معيّنة ونسبتها إلى اللّه عزّ وجلّ لا على الإيمان من عدمه، وعلى هذا الأساس تحدّاهم سبحانه بإتيان الدّليل اليقين على صدقهم، بسؤالهم إن كانوا شهداء عندما أوصى بذلك أو حرّم، ليختم بوصف من يقوم بهذه الكبيرة «بالظّالمين» وهو الوصف الذي يكون عادة للقوم الذين دمّرهم اللّه وأفناهم كقوم نوح وعاد وغيرهم كما ذكر في كتابه الكريم:﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾(النحل:116)
ولم يكتف «الفقهاء» (بتزكية/حثّ من السّلطان)(3) بفرض وتحريم الأفعال بغلبة الظّنّ لا باليقين، بل صارت العقائد نفسها مع مرور الزّمن هي أيضا تأخذ بغلبة الظّنّ (بصحيح الآحاد الذي لا يفيد العلم)(4)/(5) في مخالفة صريحة لما اشترط الأئمة في أوّل ظهور المذاهب من العلم (أي القرآن والحديث الصّحيح المتواتر) كمصدر وحيد للإيمان والمعتقدات، ثمّ أخذت الأمور منحنى خطيرا بظهور المذهب الحنبلي الذي يدعو صراحة بالأخذ بالحديث الضّعيف(6).
فبعد ما كان الأساس، دعوة غير المسلمين إلى الإيمان باللّه وكتابه الكريم وتبيان ذلك بالحجج والأدلة اليقينيّة، أصبح البحث في القضاء والقدر/صفات اللّه، إلخ... من الأمور الغيبيّة مركز اهتمام «العلماء» مع أخذهم بالأدلّة الظّنّية، فوجدت الخرافات طريقها إلى مجتمعاتنا الإسلاميّة وكثرت الاختلافات والصّراعات الفقهيّة بينهم حتّى وصل الأمر إلى تكفير بعضهم البعض. فصار الإيمان بـ«خلق القرآن» شركا باللّه عند فئة من «الفقهاء»، بينما اعتبره آخرون من أسس الإيمان يعرض منكره للعقاب «الشّرعي» ألا وهو الإعدام.
في نفس الإطار تضخّمت ظاهرة التّحريم/الفرض بوضع قاعدة: «الأصل في الأعمال التّقيّد بالحكم الشّرعي» فأقحم الدّين في الكثير من الجزئيّات، وصارت الفتاوى والاجتهادات تأتي بالحكم ونقيضه في نفس المسألة، فهي عند البعض حرامٌ وعند آخرين حلالٌ، وبرّر هذا الأمر غير المعقول (فكيف يبيح اللّه عزّ وجل أمرا ويحرّمه في نفس الوقت؟؟؟) بحجّة أن الاختلاف «رحمة» و«من اجتهد وأصاب فله أجران ومن لم يصب فله أجر واحد»إلخ...من القواعد التي صارت مع مرور الزّمن من «المسلّمات». فوقع «تحريف» الدّين (من الدّاخل) وغابت أسسه (الكبائر) من واقع المسلمين، فكانت بداية الانحطاط ومن ثمّ تخلّفنا وفقداننا لدورنا الرّيادي في العالم إلى أن صرنا لقمة سائغة للاستعمار الغربي وتبعا له. ويزداد الأمر سوءا في يومنا هذا ببروز مطامع الهند، حاملة راية الشّرك وتعدّد الآلهة في العالم وعدائها المعلن للإسلام والمسلمين.
وقد بيّنت هذا «التّحريف من الدّاخل» في مقال سابق تطرّق لحدود اللّه في القرآن الكريم(7)، والذي كان دافعا لبحث «الكبائر في القرآن الكريم» لمعرفة أسس الدين) والتي وردت محكمة و بينة في كتاب اللّه ولكن غيّبت معانيها القرآنيّة كلّيا وقام الفقهاء بإعطائها معنى مختلفا تماما يتعلّق حصرا بالعقوبات، بدعوى أنّ رسول اللّه ﷺ قال ذلك وفعله، وحاشى أن يصدر منه ما يخالف محكم القرآن(8). فوقع تغييب القرآن في تعارض كامل مع القاعدة التي وضعوها بأنّ النّصّ هو القرآن ثمّ السّنّة، ومع مرور الزّمن ضربوا السّنّة هي أيضا عارض الحائط، فلا قرآن ولا سنّة، بل صارت أقوالهم وأراؤهم هي «النّصوص» التي تفرض وتحرّم باسم اللّه (بدعوى «القياس» وغيرها من القواعد...) مع تعصّب أعمى للمذهب حتّى وصل الأمر إلى إقامة عدّة صلوات في نفس الوقت وفي باحة نفس المسجد لكلّ مذهب من المذاهب (السّنّية نفسها) على حدة. هذا الأمر الذي أحدث صراعا واقتتالا داخليّا، وما بروز ابن حزم في الأندلس (مع بداية عهد ملوك الطّوائف أوائل القرن 5 ه/11م) ودعوته إلى الرّجوع للتّقيّد بالقرآن والسّنّة فقط ونبذ أقوال الفقهاء واجتهاداتهم (ومذاهبهم) إلاّ أكبر دليل على هذا المنحنى الخطير إلّا أنّه وقعت محاربته وأُحرق العديد من كتبه وأتلفت أخرى (كما وقع إتلاف كتب «الخوارج» وجلّ كتب «المعتزلة» وغيرهم من قبل)، ودخلت الأندلس في مرحلة ملوك الطّوائف، فكانت العاقبة زوال هذه الممالك وما نتج عنها من أهوال وقتل وتشريد لعامّة المسلمين من هذه البلاد كما يعلم الجميع.
شهادة الزّور(التّقوّل عل النّاس)
وكما حرّم اللّه التّقوّل عليه، حرّم وجعل التّقوّل على النّاس (شهادة الزّور) أيضا من الكبائر والتي يكبر أثمها كلّما كبر أثرها. وقد جاء هذا التّحريم منذ أوّل الفترة المكيّة في سورة الفرقان مع تحريم الكبائر الثّلاث: الشّرك/ القتل/ الزّنا:﴿والَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾(الفرقان:72)
فالتّقول على بريء في جريمة قتل، يجعل المجرم الحقيقي يفلت من العقاب بينما يعاقب البريء (وربّما يعدم) نتيجة شهادة الزّور تلك، والتي يكون تجنّبها أصعب عندما تكون هناك قرابة، لذلك أكّد عزّ وجلّ على العدل في القول ولو ضدّ قريب:﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾(الأنعام:152)
فالأمر بشهادة الحقّ هو ضمنيّا أمر بالشّهادة نفسها وعدم التّهرّب منها، فالتّهرّب صار سائدا في المجتمعات المسلمة الحاليّة (المتخلّفة) بدعوى أنّه تدخّل المرء في ما لا يعنيه، وأنّه مصدر للمشاكل التي يجب على العاقل الابتعاد عنها إلخ...وهذا أيضا من الانحرافات الكبرى، فكيف يُقام العدل وتسترجع الحقوق بدون شهادة الحقّ؟ وعلى هذا الأساس واصل اللّه عزّ وجلّ الأمر بالشّهادة في الآيات المدنيّة فيما يتعلّق بكتابة الدّين/الطّلاق /الوصيّة، مع تشديد النّهي عن إلحاق الضّرر بالشّهيد ووصف هذا الأمر بالفسوق:﴿... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(البقرة:282-283)
*﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾(النساء:135)
*﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾(الطلاق:2)
*﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ*فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ*ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(المائدة:106-108)
إلاّ أنّه شدّد سبحانه في قضيّة الزّنا وأمر بعدم إفشاء الأمر واشترط توفّر أربعة شهود، باستثناء الزّوج الذي أعطاه اللّه حقّ اتهام زوجته بدون شهود لكن بشرط القسم. وفي هذا الأمر حكمة بالغة لمنع إشاعة الفاحشة من جهة ومن جهة أخرى التّستر للحفاظ (قدر المستطاع) على سلامة العائلة (الرّحم) وحفظها من التّشتّت (الطّلاق) مع حفظ واجب الشّهادة في نفس الوقت:﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ*وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾(النور:4-7). لكن هنا أيضا وقع تغييب هذه الأحكام المحكمة والبيّنة، بشهادة اللّه نفسه جلّ جلاله عندما افتتح هذه السّورة الكريمة بقوله عزّ وجل: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النّور: 1) (9)
نختم بعون اللّه في العدد المقبل البحث في الكبائر «الأساسيّة» بالتّطرّق إلى كبيرتي «عدم إقامة الصّلاة» و«عدم إيتاء الزّكاة».
الهوامش
(3) «مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة (ت 150هـ/768م) فإنه لما ولِي منصب قاضي القضاة أبو يوسف (ت 182هـ/298م) كان القضاة من قِبَله، فكان لا يولّي قضاء البلاد -من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية إلا أصحابه المنتمين إلى مذهبه [الحنفي]؛ ومذهب مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) عندنا [بالأندلس]، فإنّ يحيى بن يحيى اللّيثي (ت 234هـ/848م) كان مكينًا عند السلطان مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاضٍ في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه» (رسائل أبن حزم الأندلسي (ت 456ه/1064م)- الجزأ 2–الملحق3).
(4) «واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل هل يوجب العلم والعمل جميعاً، أم يوجب العمل دون العلم والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا، ولا خلاف فيه.» (التمهيد- للحافظ ابن عبد البر (ت463 ه/1071م))
(5) «خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين؟ وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، إذ يسمى الظن علما، ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر. والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن» (المستصفى-للإمام الغزالي ت505ه/1111م))
(6)«الْأَصْلُ الرَّابِعُ: الْأَخْذُ بِالْمُرْسَلِ وَالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ شَيْءٌ يَدْفَعُهُ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضَّعِيفِ عِنْدهُ الْبَاطِلَ وَلَا الْمُنْكَرَ وَلَا مَا فِي رِوَايَتِهِ مُتَّهَمٌ بِحَيْثُ لَا يَسُوغُ الذَّهَابُ إلَيْهِ فَالْعَمَلُ بِهِ، بَلْ الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ عِنْدهُ قَسِيمُ الصَّحِيحِ وَقِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْحَسَنِ....» (أعلام الموقعين - لإبن القيم الجوزية (ت 751ه/1350م), مبينا أصول مذهب الإمام أحمد إبن حنبل (ت 241ه/855م))
(7) انظر مقالنا : «الحدود في القرآن الكريم» ، مجلة الإصلاح عدد 189، صص 46-48
(8) «أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهؤلاء والرّد عليهم تكذيبا للنّبي ﷺ....» ردّ الأمام أبو حنيفة (150هـ/767م) على حديث: «إنّ المؤمن إذا زنى خلع الإيمان من رأسه كما يخلع القميص، وإذا تاب أعيد إليه إيمانه» ورفضه لهذا الحديث لمخالفته القرآن» كما ورد في الكتاب المنسوب إليه «العالم والمتعلم»
(9) كما فصلنا ذلك في بحثنا «فاحشة الزنا في القرآن الكريم» (الإصلاح عدد201)
|