الإنسان والكون
بقلم |
![]() |
د.نبيل غربال |
مفهوما الليّل والنّهار في القرآن (10) إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل (تتمة) |
مقدمة
ورد موضوع «إيلاج اللّيل في النّهار وإيلاج النّهار في اللّيل» في القرآن خمس مرّات، مرّة بصيغة ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ وأربع مرّات بصيغة ﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾. وقد رأينا في الجزء الأوّل من هذا المقال المتعلّق بولوج اللّيل في النّهار والعكس أنّ معنى الولوج في اللّسان هو الدّخول، وأنّ اللّفظين يفترقان فيما يتعلّق بطبيعة الجسم الوالج والجسم المولوج وفي سعة مكان الولوج وفي مصير الوالج. ففي الولوج يُشترط أن يكون الدّخول لشيء في شيء ليس منه من جهة، وأن يكون الدّخول في مضيق مع الغياب والاختفاء. كما تبيّن لنا أنّ الاستعمال القرآني للولوج يتضمّن أساسا معنى دخول شيء في شيء غيره عبر مضيق وهو المعنى اللّساني الأصلي.
إضافة الى ذلك توصّلنا، عند عرضنا لما قاله المفسّرون لآية الولوج، الى نتيجة هامّة مفادها أنّ اللّيل والنّهار عند أغلبهم هما فترتان زمنيّتان، لذلك اعتبروا أنّ نقصان طول زمن أحدهما هو نتيجة لدخول جزء من وقته في الآخر الذي يزيد، وهو ما لا يمكن قبوله باعتبار أنّ الزّمن ليس جسما مادّيّا لكي يدخل في زمن آخر من جهة، والزّمن هو الزّمن وله طبيعة واحدة في عالمنا الذي نعيش فيه من جهة أخرى، فضلا عن أنّ اللّيل والنّهار هما في حقيقة التّسمية يشيران الى جسمين مادّيّين كما وضّحنا في الأعداد الماضية من المجلة. فكيف يحدث الإيلاج الذي تشير إليه الآية؟ وهل استعمال الإيلاج كان استعارةً أم وصفا لحقيقة فيزيائيّة؟
سنبين في ما يلي أنّ استعمال الإيلاج ليس فيه استعارة بل هو استعمال يصف حقيقة الشّروق والغروب، وهما الظّاهرتان اللّتان تشهدان عمليّة حدوث إيلاج اللّيل في النّهار وإيلاج النّهار في اللّيل على التّوالي.
إيلاج اللّيل في النّهار وإيلاج النّهار في اللّيل: وصف لآليّة الشّروق والغروب
نلاحظ أنّ في الجذر (ولج) معنى الحركة، ونعلم أنّ تناول موضوع الحركة في العلم الحديث لا يمكن الّا باعتماد مرجع تنسب اليه تلك الحركة. فهل النّهار يتحرّك؟ ونفس السّؤال يطرح للّيل. وما هو مرجع حركتيهما؟.
رأينا أنّ النّهار جسم مادّي يتشكّل من خليط من الفوتونات وغازي الأكسجين والنّيتروجين، لأنّ تلك الغازات موجودة في فضاء يغمره الضّوء المنبعث من الشّمس، كما أنّه يشغل مساحة من سطح الأرض. أمّا اللّيل فهو أيضا جسم مادّي من غازي الأكسجين والنّيتروجين ولكنّه موجود في ظلّ الأرض ويحتلّ بدوره مساحة من سطحها.
إنّ الغاز المحيط بالأرض هو نفسه الذي يعطي ظلام اللّيل وضياء النّهار. يدور هذا الغاز مع الأرض، أمّا اتجاه الشّمس فهو ثابت بالنّسبة للأرض. ولو تتبّعنا ما يحدث لعمود من الغاز المظلم (ليل) خلال هذه الحركة فسنلاحظ أنّه سيدخل تدريجيّا في الحيز الفضائي الذي تصله أشعة الشّمس، ومع مرور الزّمن سينتقل بالكامل الى جهة الشّمس ليصبح نهارا. لقد دخل اللّيل (غاز كان في فضاء موجود في ظلّ الأرض) في شيء غيره يتمثّل في الفضاء الذي تصله أشعة الشّمس واختفى ظلامه تدريجيّا مع ظهور عمليّة تشتّت الضّوء والتي بدأت من أعلاه وتواصلت الى أسفله حتّى زال بالكامل. وبما أن امتداد عمود اللّيل الى الأعلى لا يتجاوز جزءا من عشرين جزء من سمك الغلاف الغازي فإنّنا أمام جسم حقيقيّ يتحرّك مع الأرض بالنّسبة لاتجاه أشعّة الشّمس عبر مضيق حقيقي الى أن يختفي تماما: إنّنا إذن أمام ليل يلج في فضاء النّهار حقيقة. ويمكن قول نفس الشّيء بالنّسبة لعمود غازي يمثل النّهار ويحدث ذلك في الجهة المقابلة بالكامل من سطح الأرض، إنّه سيدخل تدرجيّا في الحيز الفضائي الموجود في ظلّ الأرض وسيختفي تدرجيّا في الظّلام بدءا من الأسفل الى أن يغيب بالكامل: لقد ولج النّهار حقيقة في فضاء اللّيل.
ربّما يتساءل البعض عن استعمالنا للفظي فضاء اللّيل وفضاء النّهار. إنّ النّهار لا يوجد الاّ في الفضاء المحيط بالأرض كما أنّ اللّيل لا يوجد الاّ في الفضاء المحيط بالأرض كما بيّنا في المقالات السّابقة. لذلك فإنّ استعمال لفظ النّهار وإرادة الفضاء الذي يحدث فيه النّهار، كما أنّ استعمال اللّيل وإرادة الفضاء الذي يحدث فيه اللّيل هو أسلوب من أساليب اللّسان العربي ويسمّى المجاز المرسل بعلاقة الحالية. فالمجاز المرسل في كلمة النّهار الأولى لأنّ النّهار بمعنى الضّياء لا يدخل فيه الظّلام وإنّما الغاز الذي كان في ظلّ الأرض يدخل في الفضاء الذي يحدث فيه النّهار أي المواجه للشّمس. وكذلك بالنّسبة للفظ اللّيل الثّاني فهو مجاز باعتبار أنّ الغاز المضيء (النّهار) يدخل في الفضاء الذي يحدث فيه ظلام اللّيل أي الموجود في ظلّ الأرض.
إنّ التّعامل مع اللّيل والنّهار باعتبارهما جسمين مادّيين تابعين للأرض بل ويمثّلان جزءا لا يتجزّأ منها، ولهما خصائص محدّدة مثل السَّمْك والحركة، والالتزام بالمعنى الذي يحيل إليه الجذر «ولج»، يجعل الجملة القرآنيّة التي تقول بولوج اللّيل في النّهار وولوج النّهار في اللّيل تمثّل وصفا دقيقا لعمليتي الشّروق والغروب على التّوالي. فعند الشّروق ينتقل تدريجيّا الغاز المحيط بالأرض متبعا حركتها حول نفسها من حيز فضائي ضيّق قياسا بأبعاد الأرض كان في ظلّها الى حيز فضائي آخر ضيّق تحدث فيه عمليّة تشتّت الضّوء، فيغيب ظلامه أي يلج حقيقة في النّهار، وعند الغروب يحدث العكس، حيث ينتقل نفس الغاز مصاحبا للأرض في حركتها حول نفسها ليدخل تدريجيّا في حيز فضائي ضيق هو أيضا تنعدم فيه ظاهرة انتشار الضّوء، أي أنّه يلج حقيقة في اللّيل. لذلك يصبح معنى الآية أنّ اللّيل بمعنى الغاز المحيط بنصف الأرض والموجود في ظلّها يدخل في فضاء النّهار فيختفي ظلامه، وأنّ النّهار بمعنى الغاز المضيء المحيط بنصف الأرض يدخل بدوره في فضاء اللّيل فيختفي ضياؤه. وبما أنّ «يولج» و«تولج» فعلان مضارعان، وباعتبار أنّ الفعل المضارع عندما يستعمل فهو يهدف لتحقيق دلالة بلاغيّة وهي الاستمراريّة والتّجدّد والدّيمومة والتّكرار، فإنّ الآليّة التي تحدث بموجبها ظاهرة الشّروق والغروب دائمة، متكرّرة ومتجدّدة وهو ما تشهد به حركة دوران الأرض حول نفسها معرضة باستمرار نصف الفضاء المحيط بها الى أشعّة الشّمس ليتولّد النّهار كحدث فريد في الكون على حدّ معارفنا الآن.
|