بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
محدوديّة المناهج في كتب التّفسير(10) «مفهوم الإعجاز ومستتبعاته 2-2»
 تمّ الإقرار بإعجاز القرآن من جميع علماء المسلمين، ومنهم الرّمّاني القائل: «إنّ حكم القرآن هو في أعلى طبقات البلاغة، وأعلى الطّبقات معجز لجميع العباد»(1). ومن ثمّ توزّعت الآراء إزاء ظاهرة الإعجاز في اتّجاهات عديدة، منها ما حصرته في البيان ومنها ما جعلته في معانيه. والاتّجاه الغالب، هو الّذي قال بالإعجاز الجامع بين الأسلوب والمعنى. والّذي لا مراء فيه أنّ عبد القاهر الجرجانيّ قد دعّم هذا الاتّجاه بجهوده العلميّة البادية في كتبه المتنوّعة. واسمع قوله: «إنّ التّحدّي كان إلى أن يجيئوا في أيّ معنى شاؤوا من المعاني بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه. يدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾(هود: 13) ، أي مثله في النّظم، وليكن المعنى مفترى لما قلتم، فلا إلى المعنى دعيتم ولكن إلى النّظم»(2). لقد كان الهاجس الأكبر عند الرّماني، في تفسيره، هو أن يبرز المناحي المعجميّة والنّحويّة والبلاغيّة البادية في القيل القرآنيّ. والمطالع لهذا التّفسير يلفي أنّ البيان والفصاحة هما المؤدّيان إلى الإعجاز الكامن في القرآن. ومن ثمّ يبدو عجز كلّ امرئ عن تجميع ما جُمع في الخطاب القرآنيّ. إنّ قيمة الاستعمالات اللّغويّة تنبع من جمعها لضروب الفصاحة والبيان والمعاني والإخبار بالغيب بأسلوب ذي خصائص مميّزة جعلت له نظما متفرّدا.
ولقد ركّز القائلون بنظريّة الإعجاز، أنّ الإعجاز يكمن في أسلوب القرآن ولغته، وإذا كان الرّماني لغويّا ونحويّا ومفسّرا، فإنّه لم يشذّ عن هؤلاء جميعا(3). ومن ذلك نركّز الاهتمام على ثلاثة محاور هي: الصّرفة، وأخبار الغيب، وقوّة البلاغة، أي وضع الكلام في مواضعه، والقصد من المسألة البلاغيّة أن يعجز النّاس عن الإتيان بمثل جماله. وقد ذهب الخطّابي والرّماني بشكل واضح، ولاسيّما الجرجاني، إلى معالجتهم لفكرة النّظم، لأنّها تدور حول الفعل القرآني بجماله وجلاله في النّفوس(4). وقد ذهب الرّماني إلى أنّ وجوه الإعجاز في القُرآن تظهر في سبع جهات، وهي: ترك المعارضة مع توفّر الحاجة وكثرة الدّواعي، والتّحدي للكافّة، والصّرفة، والبلاغة، والأخبار الصّادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكلّ معجزة(5). علما بأنّ البلاغة، بالنّسبة إليه، تتفرّع إلى ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين الأقصى والأدنى. والطّبقة العالية هي موطن الإعجاز القرآني، وهي بلاغة القرآن، وما كان دون ذلك فهو ممكن كبلاغة النّاس. والبلاغة تتجاوز في وظيفتها الإفهام، ومجرّد تحقيق المعنى على اللّفظ لأنّ التّواصل قد يتمّ بين عييّ وبليغ، وقد يقع المعنى على الغثّ من الكلام. ومن ثمّ يتّضح المعنى الأوفى للبلاغة وهو: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللّفظ(6). والمهمّ هو معرفة أنّ أعلى طبقات البلاغة معجزٌ لكافّة النّاس عربا وعجما. 
ويعمد الرّمّاني، في مقام آخر، إلى تحليل عوالم البلاغة وإرجاعها إلى عشرة أقسام، وهي: الإيجاز، والمقصود منه: تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى، وهو يتفرّع إلى فرعيْن: القصر والحذف. والتّشبيه، ويقصد به: العقد على أنّ أحد الشّيئيْن يسد مسدّ الآخر. والاستعارة وهي: تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللّغة على جهة النّقل للإبانة. والتّلاؤم، وهو نقيض التّنافر، والتّلاؤم يعني تعديل الحروف في التّأليف. والفواصل، والمقصود بها: حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعنى. والتّجانس، وهو: بيان لأنواع الكلام الّذي يجمعه أصل واحد في اللّغة. والتّصريف، وهو يقوم على تصريف المعنى في المعاني المختلفة، كتصريف الاشتقاق في المعاني المختلفة. والتّضمين، وهو حصول المعنى من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه. والمبالغة، ويقصد بها الدّلالة على كبر المعنى من جهة التّغيير عن أصل اللّغة لتلك الإبانة. وحسن البيان، ومعناه الإحضار لما يظهر به تميّز الشّيء من غيره في الإدراك (7). 
والجليّ ممّا تقدّم هو أنّ الرّمّاني حريص على بيان تعالي الخطاب القرآني ومفارقته للخطاب البشري في اعتداد تام أنّ للقرآن الفضل على سائر الكلام لأنّه خارج القدرة أصلا طالما أنّ الإعجاز في أصل مدلوله اللّغوي عجز وقعود واستحالة لتعذر المعرفة وانتفاء العلم(8). ومن خلال كلّ هذه الأنواع يخلص الرّمّاني إلى أنّ معارضة القرآن استحالت مع توفّر الدّواعي وشدّة الحاجة إليها، وقيام التّحدّي لجميع النّاس، ثمّ إنّ البلاغة قائمة في لغة القوم وعاداتهم، فتحوّلت، في الآن نفسه، إلى دليل صدق في النّبوءة ودليل عجز عن الإتيان بمثله. فكان مثلهم مثل العطشان يحتضر والماء قربه، فما دلّ ذلك إلاّ على عجزه عن إنقاذ نفسه. ثمّ إنّ المعجزات المادّية محدودة بحدودها، كحال ما توفّر من المعجزات المادّيّة مع الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى. أمّا التّحدّي القائم بالقيل القرآني، فيظلّ قائما على الدّوام، لأنّ المعجزة تضامّت مع النّص المعجز في حدّ ذاته، فأصبح الدّال في هذه المعجزة من جنس دليلها. فكان العجز حتّى في مستوى الإتيان بما يشبه قِصار السّور فضلا عن الطّوال. 
والجدير بالملاحظة، في هذا الصّدد، هو أنّ محمّد شحرور قد فرّق بين أمريْن هما: التّحذير والتّحدّي. والطّريف لديه أنّ الإعجاز في الرّسالة المحمّديّة كامن في النّبوءة فحسب، دون الرّسالة. وإذا تعلّق التّحذير بالإتيان بالمثل، في المستوى التّشريعي، الّذي هو الرّسالة، فإنّ التّحدّي قد ارتبط بالنّبوءة، الّتي هي جملة معارف وعلوم. وفي نطاق العناية والمحافظة على التّشريع، فإنّ الله توعّد الّذين يكتبونه على غير وجهه.
وأمّا فيما يتعلّق بالعلوم والمعارف الواردة في النّبوءة، فقد تحدّى اللّه بها من أراد أن يأتي بمثلها. وليس خافيا، أنّ التّحذير في المُصحف قد شمل، أيضا، كتمان ما ورد في الكتاب، ولاسيّما الآيات البيّنات الّتي لا تحتاج إلى تأويل ولا إلى واسطة حتّى تُفهم، كما هو الحال الّذي جرى عليه الأمر، وفق مذهب أو فرقة، حيث يتحوّل الفقه شارحا للمذهب لا للنصّ. وبناء على هذا التّفريق، يشير محمّد شحرور إلى أنّ الطّرح المعقول، في معجزة محمّد قد سبق المدرك المحسوس وقدّمها القرآن في صياغة يسمّيها بالمتشابه. وعليه فإنّ طروحات القرآن تدخل ضمن المحسوس المدرك كلّما تقدّم الزّمن، وهو ما يسمّى بالتّأويل المباشر(9). ولعلّ أبرز النّتائج الّتي أسفر عنها تفريق محمّد شحرور بين النّبوءة والرّسالة وبين الإعجاز والتّحدّي هو أنّ القرآن، إذا حوى الحقيقة المطلقة، فإنّ العقل البشريّ يفهم منه ما تيسّر له بنسبيّة التّأويل والتّفسير. ويبدو أنّ هذا هو الوجه البارز لإعجاز القرآن. فكلّ مفسّر لا يعكس المعرفة القرآنية، وإنّما يعكس معارف عصره. والقرآن لا يهب العقل البشريّ من الإدراكات إلاّ بالقدر الّذي يسمح به السّقف المعرفيّ في زمن من الأزمنة.  وقديما، قام التّحدّي أمام البلغاء فضلا عن المولّدين، ولاسيّما أنّ لكلّ معنى لفظا قمينا به، والنّفس إليه أميل. وقد ذهب الجاحظ، في هذا المجال، إلى أنّ للعرب الفضل على الأمم كلّها في الخطابة والبلاغة. وهو في حقيقة أمره، يناظر أصحاب الشّعوبيّة ويُجهّلهم ويُسفّههم في إنكارهم ذلك، ويقضي عليهم بالشّقوة، وبالتّهالك في العصبيّة(10). 
والمهمّ في كلّ ما تقدّم، هو أنّ العرب كانوا مدركين لهذا العجز القائم أمام القرآن، ولو كان الأمر في المستطاع لعجّل الشّعراء والبلغاء بالاستجابة لهذا التّحدّي(11). وقد انتبه الوليد بن المغيرة إلى أنّ الّذي يقوله محمّد بن عبد الله ليس بالشّعر ولا هو بسجع الكهّان، ولا هو من كلام العرب، وإنّما هو سحر لأنّه لا يفهم، ومن تأثيراته التّفريق بين المرء وزوجه(12). وقد قال عُتبة بن ربيعة، لمّا استمع إلى القرآن، وبالتّحديد إلى سورة فصّلت، قال: «إنّي سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قطّ وما هو بالشّعر ولا السّحر ولا الكهانة. يا معشر قريش أطيعوني، خلّوا بين هذا الرّجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكوننّ لقوله الّذي سمعت نبأ»(13). فبان وفق هذه الضّروب من الشّهادة أنّ القرآن معجز خارق للعادة(14). 
ولقد أرجع الخطّابي عجز الإنسان عن الاستكانة لتحدّي الله لأنّ إحاطة الإنسان بجميع أسماء اللّغة ومعانيها إحاطة نسبيّة. ومعارفه لا تتّسع إلى إدراك جميع معاني الأشياء الّتي تُحمل عليها كلّ الألفاظ(15). ويظلّ التّساؤل قائما إزاء جدوى التّحدّي الإلهيّ لمن خلق وبثّ فيه جذوة العلم من روحه؟ وهل يوازي الإنسان ربّه في المنزلة حتّى يُصبح للتّحدّي معنى؟ ويبدو أنّ الإجابة تكمن في سوْق درس مفاده أنّ العرب قد بلغوا ذروة الإجادة للّسان العربيّ الّذي قُدَّ منه القرآن. وعلى هذه الصّورة أصبح للتّحدّي معنى ومن ورائه فائدة تتمثّل في الوظيفة الإقناعيّة بأنّ هذا الخطاب إلهيّ وليس بشريّا. ولقد اتّخذ الرّسول القرآن سلاحا نافذ التّأثير في نفوس المتلقّين لما يتمتّع به من سلطة أدبيّة تذعن لها النّفوس، وحجّته في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾(الفرقان: 50). ولا أدلّ على هذا التّأثير في النّفوس  ممّا أشار القرآن نفسه إليه من أنّ الجنّ قد اعتبروه  شيئا عجبا، ومصداق ذلك قوله: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾(الجنّ: 1-2)، وكذلك قوله: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الحشر: 21). 
ولقد تضمّن هذا الكتاب أحسن الحديث والمتشابه منه والمثاني، حتّى أنّ الأبدان تقشعرّ منه. وفي قصّة عمر بن الخطّاب دليل على الفعل القرآنيّ في الوجدان، فقد كان إسلامه علامة فارقة على التّحوّل الخطير من وضعِ المصمّم على قتل الرّسول إلى حالة المؤمن به المذعن له تحت تأثير الخطاب القرآنيّ(16). وكذلك حادثة إسلام جبير بن مطعم المتمثّلة في سماعه للرّسول وهو يتلو قول الله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾(الطور: 7-8)،  فقال: «خشيت أن يدركني العذاب(17). وما ذلك إلاّ لما حواه الخطاب القرآنيّ من دفق موسيقي ثاو وراء براعة النّظم وحسن التّأليف وكلّ ذلك في تعالقِ بين الشّكل والمضمون وقوّة قوليّة نافذة. ولا مراء في أنّ الجرجاني قد أجاد وأفاد في اعتباره، أنّ لا معوّل في الإعجاز إلاّ على النّظم. وليس الدّليل في الإتيان بنظم جديد لم يُعرف من قبل، وإنّما أن يكون هذا النّظم مجموعا إلى أجزاء تنتظم في سياق واحد، حتّى إذا استقام المعنى لِفاهمه أحسّ بالعجز عن الإتيان بمثله، حتّى كأنّ القلب قد أُفرغ(18)، فاستقرّ في الذّهن أنّ الّذي جاء به الوحي كلام يفوق قدرة الإنسان، ولا سبيل لديه أن يأتي بمثله أبدا، ولا معجزة إلاّ ما كان من هذا القبيل الّذي يظلّ متعاليا. وعلى الرّغم من ذلك، وما أُوتيَه العرب من بلاغة، فإنّهم عجزوا عن الإتيان بمعان هي من قبيل المعاني القرآنيّة. وعلى هذه الشّاكلة، يتّضح أنّ موطن الإعجاز من منظور الجرجاني يكمن في صنعة النّظم الّتي اعتمدها القرآن، فالتّحدّي، حينئذ، قائم في نظم المعاني من حيث شرفها وما قام بها من الرّفعة. وأنّ القرآن لا تنتهي معانيه لما انطوى عليه نظمه من طاقة إيحائيّة بدلا ممّا تكون عليه ضروب النّظم الصّادرة من بشر محدود بأحياز الزّمان والمكان. 
ولا يُخفي الجرجاني رأيه المتمثّل في أنّه لمّا توهّم البعض أنّ الله صرف قلوب البلغاء أن يأتوا بمثل عبارة القرآن ونظمه، فإنّ ذلك يستتبع أنّ قدر البلاغة العربيّة قد تراجع، والحال أنّ الأمر ليس كذلك، فبان بذاك أنّ الإعجاز يعود إلى أمر أعلى من الفصاحة، لتشمل مزيّة تكون فوق قدرة العرب في القول وذلك ظاهر في الآية الصّريحة:﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا﴾(الإسراء: 88) . ومع ذلك يظلّ السّؤال قائما في ذهن الدّارس وهو كيف يُمنع المرء من الإتيان بشيء إذا كان قادرا عليه؟ وينتهي عبد القاهر الجرجاني، إلى أنّ الصّرفة بهذا المعنى المتعلّق بالأسلوب في غاية التّبسيط والتّهافت، لأنّ الفصحاء قادرون على الإتيان بكلام يشبه أسلوب القرآن ممّا يدعم أطروحة أنّ التّحدّي ألصق بالمعاني، وهي الّتي تبدو سهلة ومع ذلك ينعدم الإتيان بمثلها، وهو ما يسمّيه الجرجاني بالنّظم(19). يقول: «إنّ العرب سمعوا منه ما بهرهم وعظم في نفوسهم، ولكنّهم على حال أنسوا من أنفسهم بأن يأتوا بمثله إذا هم اجتهدوا، فحيل بينهم وبين ذلك الاجتهاد، وأُخذوا عن طريقة، ومُنعوا فضل المنّة، الّتي طمعوا معها في أن يجروا إلى تلك الغاية، وليبلغوا ذلك المدى الّذي أرادوا»(20). ويعالج الجرجاني أطروحة القائلين إنّ القرآن قد تحدّى العرب بالبلاغة من جهة الإتيان بهذا المقال ومن جهة العقل والخبر. ويخلص إلى بطلان ذلك، لأنّ ذلك يخرجه عن أن يكون وحيا، وأنّ الرّسول قد تلقّاه من جبريل، وأنّ ذلك من قبيل تكلّف المرء ما ليس أهلا له. 
وقد طبع الرّمّاني التّفكير البلاغي الّذي هو متين الصّلة بالإعجاز بما فصّله من طبقات البلاغة ومن براعة في اللّسان، فسار الّذين بعده في ما رسم من ضروب البيان، علما بأنّ ما يدرك بالتّعلّم من البلاغة وما يدرك بالتّعمّل له ليس صالحا بالضّرورة لمعرفة إعجاز القرآن، وأمّا ما يدرك بغير التّعمّل والتّعلّم، فهو السّبيل القويم لإدراك هذا الإعجاز(21)، حيث يعتدل النّظم، ويسلم ويحسن موقعه في السّمع، ويسهل في اللّسان، ويقع في النّفس موقع القبول، ويُتصوّر تصوّر المشاهد، حتّى يحلّ محلّ البرهان ويدلّ على التّأليف(22). وهكذا تتوالد علامات التّأثير والإقناع، حيث المرامي البعيدة والمسالك الدّقيقة، وهو ما اختصره الرّمّاني بقوله: «إنّ البلاغة هي الطّبع». وإذا حصر الرّمّاني البلاغة في الطّبع فإنّ أبا سليمان الخطّابي قد ذهب إلى أن الإعجاز يكمن فيما يتجاوز هذا الطّبع المتمثّل في البراعة البيانية واللّغويّة، إذ يتجاوز طاقة البشر من الأساس، لذلك انقطع العرب دونه رغم طول المدّة التي استغرقها زمن التّحدّي في حياة الرّسول(23). وما دلّ ذلك إلاّ على عجز العرب، وهو ما يحيل على أنّ القصد من عروبة القرآن تتجاوز طبيعة اللّسان إلى معنى الاكتمال وانعدام النّقص. ولئن ذهب البعض إلى القول بالصّرفة، وهي صرف الهمم عن المعارضة رغم توفّر الإرادة والقدرة البيانيّة، فإنّ معنى الصّرفة، حينئذ، قد اقترن بالمعنى الّذي تحتلّه المعجزة. والمعجزة لا تصحّ أن تكون معجزة، إلاّ إذا خرقت العادة وكانت مناقضة لها ولا تُقاس بضخامة الحدث أو الحركة الجارييْن فيها.  
ولعلّ نظريّة النّظم، مع عبد القاهر الجرجانيّ، تمثّل ذروة التّفكير البلاغيّ عند العرب بمقتضى المعطى الثقافيّ العربي وبمقتضى تفاعلها مع المؤثّرات اليونانيّة البادية في كثير من المؤلّفات اللّغويّة والمنطقيّة. إنّ النّظم يمثّل منطلقا نظريّا يجعل النّصّ بنية متكاملة ونسقا كليّا تتفاعل أجزاؤه الصّوتيّة واللّفظيّة والتّركيبيّة والمعنويّة. ولكلّ أسلوب من الأساليب مجال يحاوره العقل البشريّ بحسب طاقة كلّ عقل على الفهم والاستيعاب. والمجاز هو مفخرة العرب، على حدّ عبارة عبد الحميد أحمد يوسف هنداوي(24)، في لغتهم لأنّها اتّسعت به وتجمّلت. والتّفسير اللّغويّ يدّعي المعقوليّة من خلال التماسه للمعنى الجاري في الألفاظ المعتمدة في الأساليب البلاغيّة كما دأب عليها اللّسان العربيّ. وهكذا بدت النّزعة التّأليفيّة في المنظور البلاغيّ العربي تتشكّل وتتبلور وتتّضح معالمها شيئا فشيئا، يقول شكري عيّاد في هذا الاتّجاه: «نظنّ أنّ كتاب البديع قد تأثّر بكتاب الخطابة لأرسطو لأنّه كان أوّل محاولة منتظمة للخروج من أفق النّقد الجزئيّ إلى أفق التّقنين والتّعميم»(25).
ولقد دأب القرآن على مخاطبة العرب بما يفهمون باستعماله أساليبهم في الكلام وخصائصهم في التشبيه وتوسّعهم في اللّغة، ولذلك انبرى علماء اللّغة يستنبطون منه فنون مجازه وصنوف بلاغته. وقد انصبّ هذا المجهود على تنظيم الاستعمال اللّغوي باعتماد القواعد والقوانين وباعتبار المقولات المنطقيّة والمعرفيّة، وإن بدا التّعارض ظاهرا بين القاعدة والاستعمال(26). وقد فُكّ هذا التّعارض سريعاً بمقتضى التوّسّع المتجاوز للاستعمالات العربيّة والفرديّة. فالدّلالة كامنة في اللّفظ وخصائصه وعلاقته بغيره من الألفاظ. وما حُذف من الألفاظ يُقدّر ويُفهم بحسب السّياق. فاللّفظ قد يحسن في مقام ولا يحسن في مقام آخر. والاهتمام بالتّشبيه والاستعارة والمجاز والكناية، إنّما هو من باب تقديرها أدوات تساعد على تحديد المراد.
واللاّفت للانتباه أنّ باب المجاز قد كان مدخلا للتّهجّم على أسلوب القرآن والطّعن فيه من بعض المنتقدين. ومصداق ذلك ما تعرّض له تحريم الخنزير من أخذ ورد،ّ وبالتّحديد في الآية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ﴾(المائدة: 3)، إذ اعتبروا أنّ الآية ذكرت اللّحم دون الشّحم ودون الرّأس والمخّ والعصب وسائر الأجزاء بدعوى أنّ الخنزير لم يُذكر بصفة إجماليّة كذكر الميتة بأسرها وكذلك الدّم. ويبدو أنّ الّذي فات المنتقدين، هو أنّ البلاغة تذكر الجزء ويُراد منه الكلَّ المتضمّن لجميع الصّفات، والحقيقة أنّه لا فرق بين الشّحم واللّحم. والعقل وحده قادر على استنباط المراد من ذكر الجزء الملازم للجزء الآخر. فمن غير المنطقي أن يحرَّم لحم الخنزير دون غيره من الأجزاء المتعلّقة به، فالرّجل يقول لوكيله: اشتر لي بهذا الدّينار لحما أو بهذه الدّراهم،  فيأتيه باللّحم فيه الشّحم والعظم والعرق والعصب والغضروف والفؤاد والطّحال والرّئة وببعض أسقاط الشّاة وحشو البطن والرّأس، ولحم السّمك أيضا لحم، فهو اللّحم الطّريّ الّذي ذكره  القرآن. وللنّاس أن يضعوا كلامهم حيث أحبّوا إذا كان لهم مجاز. ولمّا كانت الآية المذكورة آنفا تدلّ على أنّ كلّ الأجزاء المشبّهة باللّحم تدخل في باب العموم الوارد في اسم اللّحم، فإنّ القول واقع على الجميع. وانظر إلى الآية الّتي تشير إلى أنّ السّائل من جوف النّحل يسمّيه القرآن شرابا، والعسل ليس بشراب وإنّما هو شيء يحوّل بالماء شرابا أو بالماء نبيذا وسمّاه شرابا لأنّ الشّراب يجيء منه باعتبار ما سيكون. ولمّا كان المجاز مفخر العرب في لغتهم، فإنّ آفاقها اتّسعت به وبأشباهه (27).
وما من شكّ في أنّ التّفسير اللّغويّ، إنّما ينهض على دلالة الألفاظ ومنه ينبع العمل التّأويليّ الذي تسمح به طبيعة اللّغة المرنة لما تحتوي عليه من سعة آفاق دلاليّة. ومن ثمّ تتلوّن المعاني بألوان المقامات وضروب السّياق المختلفة. ومن ثمّ تولّد الاهتمام بقضايا الائتلاف والاختلاف والتّلاؤم والتّنافر بين الألفاظ والأصوات. 
ولقد اضطلع الفكر الاعتزاليّ بالذَّود عن اللّسان العربيّ بوصفه اللّسان الحاوي لمعاني القرآن. ومن ثمّ تصدّى لطعنات الفئات المتوثّبة الّتي لا تتورّع عن التّشكيك في خصائص هذا اللّسان وقدرته البيانيّة الّتي تمثّل الأساس الّذي ينهض عليه إعجاز هذا الكتاب(28). ولمّا أشار الجاحظ، على سبيل المثال، إلى أنّ المعاني ملقاة على قارعة الطّريق، فهي إشارة إلى أنّ الارتباط بالمعنى يقتضي الإقرار بتساوي حظوظ الأجناس المتعايشة والمتنوّعة في الانتماء الفئوي والاجتماعي، وإن اختلفت في الأشكال اللّغويّة والألسنة وضروب الصّياغة(29). وإذا اعتبر الجاحظ المعاني عبارة عن غوان والألفاظ معارض، فإنّ ذلك يحيل على الفصل بين الأشكال والمضامين في فضاء ثقافيّ يعتبر اللّفظ جسدا والمعنى روحا، واللّفظ زائلا والمعنى باقيا وكلّ ذلك في رؤية لا تنفصل عن التصوّر العام للوجود، فالله هو الباقي إزاء الكون الزّائل.
الهوامش
(1) الرّمّاني، التّفسير، م س، ص222. والجدير بالإشارة هو أنّ الرّمّاني يعتبر أنّ دلائل القرآن  تكون على وجهيْن: دلالة بيان، ودلالة برهان. فدلالة البيان: إظهار المعنى للنّفس. ودلالة البرهان: تصحيح المعنى في النّفس مجيبا بذلك عن سؤال: ما وجوه دلائل القرآن؟ انظر الرّمّاني، التّفسير، م  ن، ص ن.
(2) عبد القاهر الجرجاني، الرّسالة الشافية، ضمن ثلاث رسائل  في إعجاز القرآن، م س، ص141.
(3) أورد أبو الحيان التّوحيدي رأيا مهمّا في الرّماني يتمثّل في «أنّه لم يُرَ مثله قطّ علما بالنّحو، وغزارة في الكلام، وبصرا بالمقالات، واستخراجا للعويص، وإيضاحا للمشكل، مع تألّه وتنزه ودين وفصاحة وفكاهة وعفاف ونظافة». انظر  ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرّماني والخطّابي وعبد القاهر الجرجاني، في الدّراسات القرآنيّة والنّقد الأدبي، م س، وبالتّحديد مقدّمة الطبعة الثانية للمحقّقيْن،  ص10. 
(4) يمكن العودة إلى محمد خلف الله، من الوجهة النّفسيّة في دراسة الأدب ونقده، دار مطبعة لجنة التأليف للتّرجمة والنّشر، مصر، ط1، 1947، وبالتّحديد في الفصل الرّابع: المنزع النّفسي في بحث أسرار البلاغة، ص ص 72،115.
(5) الرّماني، كتاب النّكت في إعجاز القرآن، م س،  ص75.
(6) انظر الرّمّاني، النّكت في إعجاز القرآن ، م س، ص75.
(7) انظر الرّمّاني، النّكت في إعجاز القرآن ، م س، ص ص 76،113.
(8) يمكن العودة في هذا المجال إلى فصل مهمّ بعنوان: النسق العقدي والنسق اللّغوي: عودة إلى مسألة النّظم، ضمن كتاب حمّادي صمّود، من تجليّات الخطاب البلاغي، م س، ص ص 31،85.
(9) محمّد شحرور، الكتاب والقرآن، م س، ص ص 182،186.
(10) الجاحظ، البيان والتّبيين، ج3، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، وبالتّحديد: باب العصا، ط 7، 1998، ص5 وما بعدها.
(11) انظر عبد القاهر الجرجاني، الرّسالة الشّافية، م س، ص119.
(12) انظر الجرجاني، م ن،  ص123.
(13)  انظر، الجرجاني، م ن، ص124.
(14)  هاتان الشّهادتان تذكّران بما قاله الوليد بن عقبة في شأن الوحي، وسترد هذه الشهادة في المقام المناسب لاحقا.
(15) الخطّابي، بيان إعجاز القرآن، م س،  ص21 وما بعدها.
(16) تجدر الإشارة إلى وجاهة ما ذهب إليه عباس محمود العقاد من أن إسلام عمر يعود إلى أسباب عديدة متضافرة نفسيّة واجتماعيّة وما الحادثة الّتي جرت له مع أخته وزوجها إلاّ عرَض وقدح. انظر عباس محمود العقّاد، عبقريّة عمر، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، د ت ، ص81 وما بعدها.
(17) أبو بكر الباقلاّني، إعجاز القرآن، م س، ص10.
(18) الجرجاني، الرّسالة الشّافية، م س، ص133.
(19) الجرجاني، الرّسالة الشّافية، م س، ص152.
(20) الجرجاني، م ن، ص ن.
(21) انظر الجرجاني، الرّسالة الشّافية، وبالتّحديد في قسم: تعليقات من جاؤوا بعد الرّماني على آرائه البلاغيّة واقتباسه من تلك الآراء، م س، ص165.
(22) انظر الجرجاني، م ن،  ص166. 
(23) انظر الخطّابي، بيان إعجاز القرآن، م س، ص21.
(24) عبد الحميد أحمد يوسف هنداوي، الإعجاز الصّرفي في القرآن الكريم، م س، ص9.
(25)  انظر شكري محمّد عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشّعر، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967، ص233.
(26) انظر حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب، م س، ص100.
(27) انظر الجاحظ، الحيوان، ج5، م س، ص ص 423،426.
(28) انظر أحمد كمال زكي، الحياة الأدبيّة في البصرة إلى نهاية القرن الثّاني للهجرة، منشورات دار المعارف، القاهرة، 1971، ص76.
(29) انظر حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب، م س، ص 175.