تأملات
بقلم |
![]() |
د.حسن الأمراني |
في الطّريق إلى حلف الفضول |
بسم اللّه والحمد للّه والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد رسول اللّه، سيد الخلق كافّة، الذي بعثه اللّه تعالى بشيرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه بإذنه وسراجا منيرا.
أمّا بعد، فما من مرحلة من مراحل عمر الرّسول محمد ﷺ إلاّ وهي تحمل نورا مبينا، وكشفا مضيئا، لتكون للنّاس هاديا إلى طريق السّعادة في الأولى وفي الآخرة.
والاحتفال بذكرى المولد النبوي الشّريف سنة حسنة، وإن كان بعض المتنطّعين يعتبرها بدعة. وكان رسول اللّه ﷺ يكثر من صيام يوم الاثنين، فلمّا سئل عليه السّلام عن ذلك قال: «ذلك يوم ولدت فيه»، كما ورد في صحيح مسلم.
والاحتفال بذكرى المولد النّبوي الشّريف هو من السّنن الحسنة التي تندرج في حديثه عليه السّلام: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(1).
ومثل هذا الحديث ما رواه أبو هريرة رضي اللّه عنه «عن النّبي ﷺ أنّه قال: من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا يُنقص ذلك من آثامهم شيئًا»، ولا شك أن تخليد ذكرى المولد النّبوي الشّريف من الهدى، ما لم يقترن الاحتفال بها بمظاهر هي واضحة المخالفة لشرع اللّه عزّ وجل وسنّة نبيّه عليه السّلام.
وفي هذا رد على المتنطّعين الذين يرون المنكرات فلا يغيرونها، بل هم يعيشونها، حتّى إذا ذكر المولد النّبوي تحوّلوا إلى دعاة يحذرون من البدع، ألا في البدعة سقطوا.
وفي حياة رسول اللّه ﷺ في الجاهليّة وفي الإسلام مواقف ما أحوجنا إلى تدبّرها والاستفادة منها والعمل بها. ومنها مشاهد ومواقف كانت في الجاهليّة، وهي جديرة بالتّأمل وأخذ الدّروس والعبر. ومن تلك المشاهد مشهد «حلف الفضول».
ونأتي بخبره هنا:
قال ابن كثير في كتابه «البداية والنّهاية»: «عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ: «ما شهدت حلْفا لقريش إلاّ حلف المطيِّبين، وما أحبّ أن لي حمر النّعم، وأني نقضته». قال: والمطيّبون، هاشم، وأميّة، وزهرة، ومخزوم. قال البيهقي: كذا رُويَ هذا التّفسير مُدرجاً في الحديث، ولا أدري قائله، وزعم بعض أهل السّيَر أنّه أراد حلف الفضول، وأنّ النّبي ﷺ، لم يدرك حلف المطيَّبين.
قال: قلت: هذا لا شكّ فيه، وذلك أنّ قريشا تحالفوا بعد موت قُصيّ، وتنازعوا في الذي كان جعله لابنه عبد الدّار من السّقاية، والرّفادة، واللّواء، والنّدوة، والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف، وقامت مع كلّ طائفة قبائل من قريش، وتحالفوا على النّصرة لحزبهم، فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب، فوضعوا أيديهم فيها، وتحالفوا، فلمّا قاموا مسّحوا أيديهم بأركان البيت، فسُمّوا المطيِّبين، كما تقدّم، وكان هذا قديما، ولكن المراد بهذا الحلف، حلفُ الفضول، وكان في دار عبد اللّه بن جدعان، كما رواه الحميديّن عن سفيان بن عُيينة، عن عبد اله، عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر، قالا: قال رسول اللّه ﷺ: «لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جُدعان حلفاً، لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردّوا الفضول على أهلها وألا يَعُزّ ظالمٌ مظلوما»(يعُزّ: يغلب ويقهر). قالوا: وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة، في شهر ذي القعدة، وكان بعد حرب الفِجار بأربعة أشهر، وذلك لأنّ الفجار كان في شعبان من هذه السّنة، وكان حلف الفضول أكرمَ حلف سُمِع به، وأشرفَه في العرب، وكان أوّل من تكلّم به، ودعا إليه، الزّبير بن عبد المطلب، وكان سببُه، أنّ رجلا من زُبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقّه، فاستعدى عليه الزبيديُّ الأحلاف، عبدَ الدار، ومخزوما، وجُمحَ، وسهماً، وعديّ بن كعب، فأبوا أن يُعينوا على العاص بن وائل، وزبروه ـ أي انتهروه ـ فلمّا رأى الزُّبيديّ الشرّ، أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشّمس ـ وقريش في أنديتهم حول الكعبة، ونادى بأعلى صوته:
يا آل فهـرٍ لمظلـومٍ بضاعتـــه *** ببطن مكة نائي الدار والنفـــرِ
ومُحْرمٍ أشعثٍ لم يقض عُمْرتـه *** يا لَلرّجالِ وبين الحِجْر والحَجـرِ
إنّ الحرام لمن تمّتْ كرامتُـــــهُ *** ولا حـرام لثوب الفـاجِرِ الـغُدَرِ
فقام في ذلك الزّبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مَتْركٌ. فاجتمعت هاشم، وزُهرةُ، وتيم بنُ مُــرّة، في دار عبد اللّه بن جُدْعان، فصَنَع لهم طعاماً، وتحالفوا في ذي القعدة، في شهر حرام، وتعاقدوا، وتعاهدوا باللّه: لَيكُونُنَّ يدا واحدةً مع المظلوم على الظّالم، حتّى يؤدّى إليه حقُّه، ما بلَّ بحْرٌ صوفةً، وما رسا ثبيرٌ وحراء مكانَهما، وعلى التأسّي في المعاش، فسمّت قريش ذلك الحلفَ، حلفَ الفضول. وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر. ثمّ مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزّبيدي، فدفعوها إليه»(2).
فما الغرض من وقوفنا على هذا الحديث؟
إنّ الغرض منه هو أن نجتهد في البحث عن طريق يوصلنا إلى حلف فضول جديد، فنحن نعيش في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة في مظالم متعدّدة ومختلفة الصّور والأشكال، وكلّها بحاجة إلى أن يتحالف أهل الخير فيها إلى الوقوف في سبيل هذه المظالم، حتّى ولو كانوا من ذوي مرجعيّات مختلفة. ولكنّ أكبر المظالم هو ما يتعرّض له العالم الإسلامي، حكّاما ومحكومين، من تسلّط قوى الاستكبار العالمي الذي يريد محو هذه الأمّة وانقراضها، إمّا انقراضا مادّيا، وقد سعى إلى ذلك منذ بدء الحركات الاستعماريّة في القرن التّاسع عشر، وإمّا انقراضا حضاريّا، بأن يبقي على الأجساد وكأنّها خشب مسنّدة، بعد أن ينتزع منها دينها، وهويّتها، ومقومات وجودها وكينونتها الحضاريّة.
وأخطر صور الاستعمار هو الاستعمار الاستيطاني الذي يجد اليوم صورته البشعة مجسّدة في الكيان الصّهيوني الذي يشنّ حرب إبادة على الشّعب الفلسطيني منذ أزيد من سبعين عاما، وعلى كلّ ما هو عربي وإسلامي داخل فلسطين وخارجها. وليست إسرائيل غير أداة في يد الاستعمار الغربي، منذ زرعها في قلب فلسطين منذ الاحتلال الإنجليزي.
وإذا كانت الشّعوب مستضعفة ومغلوبة على أمرها، فهي لا تملك تغيير المنكر في معظم الحالات إلّا بقلوبها، وفي بعض الأحيان بألسنتها أو بأيديها، فإنّ الحكام أيضا مقهورون ومغلوبون على أمرهم، بحيث لا نتصوّر أنّهم راضون بما هم عليه من التّبعيّة، ولا هم راضون بعجزهم عن نصرة إخوانهم في فلسطين. ولذلك فإنّ أوّل خطوات حلف الفضول الجديد هو التّحالف ما بين الحكام والشّعوب لنصرة المظلوم، ورفع الظّلم عن المظلومين من الفقراء والمساكين والمقهورين، ومن المغلوبين على أمرهم ممّن هم تحت نير الاحتلال الصّهيوني.
ثم إنّ على المثقّفين، في العالمين العربي والإسلامي، على اختلاف توجّهاتهم ومرجعيّاتهم، أن يدركوا أنّ العدوّ المتربّص بهم سينقض على الجميع كلّما وجد الطّريق إلى ذلك. وعلى المغترّين بشعارات العولمة، ومبادئ الحرّية الزّائفة، أن يستيقظوا من غفلتهم. وقد رأينا أنّ الغرب أغدق على بعض المغترّين من الأوسمة، ومن العطايا، عندما سارعوا إلى التّبشير بمبادئه، فلمّا أعلن بعضهم الانتصار لأهل غزّة سحبوا منه كلّ العطايا والهدايا والأوسمة، واضطرّوه إلى العودة إلى بلاده، وقد رضي من الغنيمة بالإياب. ومن هؤلاء الفنّانة المغربيّة لبنى أبيضار، المقيمة في فرنسا، التي استرجعت وعيها بانتمائها الحضاري، وأعلنت أنّ استفزاز الرّئيس الفرنسي «ماكرون» للمسلمين، ومسَّه بالمقدسات الإسلامية أمر مرفوض.
ولذلك على الطّبقات المثقّفة أن تبادر إلى حلف فضول جديد، تقف فيه مع المظلومين، سواء أكانوا في أوطانهم، أم في فلسطين، أم في جهات أخرى.
وخلاصة هذه الكلمة هي أنّنا مدعوون إلى تجديد الارتباط بالسّيرة النّبويّة الشّريفة باستمرار، وأنّ علينا أن نتّخذ من ذكرى المولد النّبوي الشّريف كلّ عام مناسبة لتجديد هذا الوعي، ولترسيخ مفهوم الأسوة الحسنة في نفوسنا وفي واقعنا، تطبيقا لقول اللّه جلّ وعلا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾(الأحزاب: 21)
الهوامش
(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي.
(2) البداية والنهاية، الحافظ ابن كثير، الجزء 3، صفحة 457
|