رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
الثّورة السّوريّة وقضيّة فلسطين
 مقدّمة
الشّعب السّوري الأصيل أشدّ التصاقاً بفلسطين والعمل الجادّ لأجلها، وعندما يعبر الشّعب عن إرادته الحقيقيّة، فسيكون أكثر قدرة على الإسهام في دعم فلسطين ومشروع تحريرها، وعلى قوى الثّورة أن تعلن موقفها الثّابت والرّاسخ تجاه القدس وفلسطين، وفي دعم فلسطين وشعبها ومقاومتها، ورفضها للتّطبيع.
النّظام السّابق وإشكاليّة العمل لفلسطين
بسقوط نظام بشار الأسد طويت 61 عاماً من حكم حزب البعث، و53 عاماً من حكم «آل الأسد» لسورية؛ التي عانت من نظام حكم ديكتاتوري طائفي أخذ غطاء قوميّاً. وبالرّغم من رفع النّظام السّوري لشعارات الممانعة وإسناد المقاومة، وأنّه لم يدخل في الاعتراف بالعدوّ الإسرائيلي والتّطبيع معه، وبالرّغم من استضافته لحماس وقيادتها في الفترة 2000-2011 وتوفير الدّعم اللّوجيستي لها؛ إلاّ أنّ النّظام كان يُعاني من مشاكل جوهريّة أبرزها أنّه كان مسكوناً بالسّيطرة على الشّعب السّوري وعدم تمكينه من التّعبير بحرّية عن إرادته، وأنّه فشل في الاستفادة من طاقات الشّعب السّوري وكفاءاته ومقدراته. وقد تحوّل النّظام، فوق دكتاتوريّته، إلى حالة قمعيّة شرسة في مواجهة الثّورة الشّعبيّة السّوريّة التي انطلقت في سنة 2011. في الوقت نفسه، حرص النّظام على إبقاء جبهة مواجهته مع الكيان الإسرائيلي هادئة على مدى عشرات السّنوات، وتعرَّض لما يزيد عن 3,500 ضربة إسرائيليّة طوال الـ 12 سنة ماضية، دون أن يردّ ولو مرّة واحدة بشكل مكافئ على الاحتلال الإسرائيلي.
وتحوَّل التّحالف مع القوى الخارجيّة التي جاءت تدعم «صموده» في وجه «المؤامرة الكونيّة» وتدعم «ممانعته» إلى تحالف مشغول بقمع إرادة الشّعب السّوري نفسه، بدلاً من مواجهة الاحتلال؛ وفي الإبقاء على حالة من الدّيكتاتوريّة والفساد السّياسي والاقتصادي والأمني. ودفعت سورية ثمناً غالياً تجاوز نحو 600 ألف قتيل ومليون و900 ألف جريح، و13.5 مليون لاجئ ومهجَّر في داخل سورية وخارجها، وخسائر اقتصاديّة ودمار نتيجة الصّراع الدّاخلي يُقدّر من 400 إلى 700 مليار دولار، ووقع 90% من أبناء سورية تحت خطّ الفقر؛ مع تصعيد الخطاب الطّائفي والعرقي وتمزيق سورية… وهو ما أعاد سورية للوراء عشرات السّنوات ليس فقط في نهضة سورية وازدهارها، وإنّما حتّى على صعيد قدرتها في مواجهة العدوّ الصّهيوني نفسه.
واللاّفت للنّظر أنّ القوى التي دعمت النّظام السّوري في أثناء الثّورة الشّعبيّة (2011-2024) بما فيها إيران وحلفائها وروسيا طالبت بعد انتصار الثّورة قبل بضعة أيام بتحقيق إرادة الشّعب السّوري، ولو أنّها فعلت ذلك منذ البداية لما احتاج النّظام السّوري وحلفاؤه للخوض في بحر من الدّماء والدّمار، وتأجيج المشاعر الطّائفيّة والعرقيّة. فالشّعب السّوري سنة 2011 كان مستعدّاً للتّفاهم مع الأسد نحو حلّ سلمي، وكان ما يزال قادراً على تحجيم التّدخّلات المباشرة الإقليميّة والدّوليّة، غير أنّ النّظام اختار الحسم الأمني والعسكري.
الثّورة المدنيّة التي خُذلت وحُوصرت وضُربت وحُشرت في الزّاوية، وجدت نفسها عرضة لقوى انتهازيّة عربيّة ودوليّة حاولت أن تركب الثّورة وأن تحرّف بوصلتها؛ وهذا لم يمنع أنّ جوهر الثّورة وجوهر المعاناة وجوهر التّطلّعات ظلّ قائماً.
هل كان من الممكن أن تحدث مقاومة حقيقيّة للمشروع الصّهيوني بشكل فوقي يتجاهل الشّعب السّوري نفسه؟ وهل كان لتحالف النّظام مع داعميه من الخارج أن يشكّلوا إطار مواجهةٍ حقيقياّ ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما هم مستنفذون وغارقون في مواجهة الحاضنة الشّعبيّة نفسها؟
ثمّة حقيقة كبرى هي أنّ «تحرير الأرض يبدأ بتحرير الإنسان»، وأنّ الذي لديه مشروع تحرير حقيقي فعليه أن يُحرّر إنسانه، فيحيا معاني الحرّيّة والعزّة والكرامة، ومعاني الإيمان والتّضحية والتّوكّل على اللّه، ويُطلق طاقاته وإمكاناته (كما حدث في نموذج غزّة والدّاخل الفلسطيني)، لا أن ينزع كرامة الإنسان ويُذلّه، ويُحوّله إلى حالة خائفة مسكونة بالرّعب من النّظام وبالتّعايش مع أشكال فساده السّياسي والأمني والاقتصادي… لقد كان هذا هو الخطأ المتكرّر لكافّة أنظمة الاستبداد والفساد العربي، ولكافة الانقلابات والأنظمة الثّوريّة التي رفعت شعار فلسطين ولكنّها قتلت الإنسان وأذلته… وهل لشعبٍ أن يقاتل عدوه ويحرّر أرضه، وهو مستعبَدٌ مرعوب فاقدٌ للحرّية وللكرامة.
الشّعب السّوري الأصيل
الشّعب السّوري شعب أصيل، وهو والشّعب الفلسطيني (وكذلك الأردني واللّبناني) جزء لا يتجزّأ من أبناء بلاد الشّام وتراثها العريق، والحدود المصطنعة هي جزء من تقسيمات «سايكس بيكو» الاستعمارية. ولذلك فإنّ نصيب أهل سورية في قضيّة فلسطين هو كنصيب إخوانهم في فلسطين، وإنّ قيام شعب سورية على رجليه ووحدته ونهضته وقوّته هي من استحقاقات المشروع الكامل لتحرير فلسطين. وأياً كان موقف النّظام، فإنّ موقف الشّعب السّوري تجاه فلسطين كان متقدّماً على نظامه السّياسي، وكان راسخاً وعميقاً وصادقاً لا يتزعزع، وهو دعمٌ غير محكوم بالمصالح والتّكتيكات، فهي جزء من لحمه ودمه. ولذلك لم يكن ثمّة غرابة أن تُقدِّر المقاومة الفلسطينيّة ذلك، وأن ترفض أن تكون أداةً بيد النّظام ضدّ شعبه، وأن تضطرّ للمغادرة وتخسر قاعدتها الاستراتيجيّة الأساس في الخارج، انسجاماً مع نفسها وتقديراً للشّعب السّوري ودوره. وصدَق الشّهيد إسماعيل هنية عندما قال إن «من نصرنا بالحقّ، فلن ننصره بالباطل».
ثمّة فرصة حقيقيّة أن يعبّر الشّعب السّوري عن إرادته بعد أن تولّت قيادة الثّوار الحكم في دمشق؛ وهو ما يعني أنّنا سنكون أمام حالة أصيلة صلبة، وليس أمام حالة فوقيّة أو متكلَّفة في نصرة فلسطين، وهو ما سيكون في المستقبل أشدّ خطراً على المشروع الصّهيوني.
المخاطر حقيقيّة
هذا لا يعني أنّ المؤامرات والمخاطر ضدّ سورية وشعبها قد زالت، بل هي ما زالت على أشدّها؛ وسيواجه الحكم الجديد في سورية عواصف عاتية تحاول إفراغ ثورته من محتواها، وتحاول ركوب الموجة، وإعادة تغيير البوصلة، واستخدام المال السّياسي، والتّحريض الطّائفي والتّدخلات العسكريّة والأمنيّة والإعلاميّة وأساليب الشّيطنة لتحقيق أهدافها.
وسيسعى الأمريكان والصّهاينة، كما ستفعل أنظمة إقليميّة، لتحقيق أجنداتهم وفرض مساراتهم ومعاييرهم. وقد يجعل هذا من خروج سورية من محنتها محفوفاً بالمخاطر. وها قد رأينا العدوّ الصّهيوني يُعربد في سورية فيحتلّ المنطقة العازلة ويتوسّع في الدّاخل، ويقصف في أربعة أيام أكثر من خمسمائة موقع وهدف، فيدمّر معظم الطّيران والدّفاع الجوّي والصّواريخ والسّفن الحربيّة، ويحاول أن يخرج مقدرات سورية العسكريّة عن الخدمة. ويحاول أن يضع شروطاً مبكّرة ومسبقة للمعايير الأمنيّة والعسكريّة في سورية، حتّى قبل أن يبدأ الثّوار بإمساك زمام السّلطة.
المطلوب الحالي تجاه فلسطين
من جهة أخرى، فليس من المطلوب ولا المتوقّع من قادة الحكم في دمشق أن يعلنوا الآن الحرب على الاحتلال الإسرائيلي، فالظّروف والأولويّات تُحتّم عليهم التّركيز على وحدة سورية، وانتقال معقول للسّلطة، وعودة المهجَّرين، وإيجاد الحدّ الأدنى للظّروف الموضوعيّة للنّهوض، في بلد منهار منهوب مُدمَّر. ولكن قيادة الحكم الجديد في سورية يسَعُها الآن:
1. أن تدين العدوان الصّهيوني على أراضيها وسيادتها وشعبها، وأنّها لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه العدوان، وأن تدعو المجتمع الدّولي ومؤسّساته لإدانة الممارسات الصّهيونيّة ووقفها.
2. أن تعلن موقفها الثّابت والرّاسخ تجاه القدس وفلسطين، وفي دعم فلسطين وشعبها ومقاومتها، وحقّها في تحرير أرضها ومقدّساتها وعودة لاجئيها، وفي إدانة العدوان الصّهيوني على قطاع غزّة وفلسطين، والمطالبة بوقف العدوان ورفع الحصار.
3. أن ترفض التّطبيع مع العدوّ الصّهيوني، وأن تؤكّد الانسجام مع إرادة الشّعب السّوري والأمّة العربيّة والإسلاميّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه.
هذه المواقف ستزيد من التفاف الشّعب السّوري حول الحكومة الجديدة، وستكون رافعة لها في الأمّة العربيّة والإسلاميّة، وستقطع الألسن والطّريق على المرجفين والمتشكّكين في الثّورة السّوريّة وأجندتها وولاءاتها. ولا يظنّن بعض المتخوّفين من أبناء الثّورة أنّ صمتهم أو تهميشهم لقضية فلسطين في هذه المرحلة سيخدمهم؛ بل إنّ ذلك لن يُغيّر من واقع التّآمر الإسرائيلي الأمريكي الغربي والبيئات العربيّة المطبِّعة عليهم؛ ولكنّه سيأكل من رصيدهم الشّعبي ومصداقيتهم، وسيفتح المجال للقوى المتربّصة لاستغلال ذلك لتشويههم وإفشالهم.
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع «عربي 21» ، 13/12/2024.