نافذة على الفلسفة
بقلم |
![]() |
أ.د. عبدالرزاق بلقروز |
في الحاجة إلى تعليم التَّفكير الإبداعي |
لا نحتاج في واقعنا اليوم إلى الوعي بأهمّية التَّعليم والمعرفة فقط، وإنّما إلى المعرفة والتَّفكير الإبداعيين، فالتَّراكم على جلالة قدره، إذا لم يُعَلم القدرة على الإبداع، سيصبح ثقافة أثريّة، تتضخّم بموجبها الحاسّة التَّاريخيّة؛ حتّى تصبح عائقا نحو التَّجديد والتّغيير، لذا؛ فإنَّ من أهمّ، التّحديات التي تلوح في الأفق، رسم معالم لأجل إتقان التَّفكير الإبداعي وكذا السُّلوك الإبداعي والحضارة الإبداعيّة، فالمحكَّات الحاسمة اليوم، إنّما تدور ضمن هذه الزَّاوية، فالمجتمعات الحيّة هي تلك التي تخلق البيئات الحاضنة لتنمية التّفكير، والمجتمعات الميِّتة هي تلك التي تحارب التَّفكير وتعتبره خروجا عن المألوف وتشكيكا فيه، من هنا، فإنَّه من اللاَّزم، كما أتقن علماؤنا في الحضارة الإسلاميّة، التَّفكير الإبداعي، أن نهتم به نحن، ونسعى لأجل تنميته؛ فكم من طاقات تعطل مفعولها، لأنّها لم تجد الفضاءات التي تحتضن إمكاناتها الفكريّة وطاقاتها الإبداعيّة، فكانت وجهتها هي الهجرة، ليس فقط هجرة المكان، وإنّما هجرة العقل نحو أمكنة المعرفة وفضاءات الإبداع والتّجديد، أي نحو أوروبا وترك الأوطان فريسة للتّخلف الفكري والحضاري.
لأجل ذلك، فإنَّه حقيق بنا، البدء بهذا المشروع لأجل رفع التّحدي ومواجهة إرادات القوى التي تستعمل المعرفة من أجل التّملك والهيمنة وإدامة التخلف.
لقد انتقدت «مارثا نوسباوم»، فيلسوفة المشاعر الأخلاقيّة الأمريكيّة، اتجاه أمريكا المفرط نحو الاقتصادانيّة، مذكّرة مؤسَّسات الدَّولة، بأهمّية تعليم العلوم الإنسانيّة، إنّها علوم تنمية الإبداع، فمخزونها من الخيال طاقة لا تنفذ، بينما قواعد التَّفكير الاقتصادانيّة: إجرائيّة كمّية حسابيّة، وكأنَّ المنحى العام لأمريكا نحو الاقتصادانيّة؛ هو نسيانٌ للأسباب الأولى الثَّاوية، خلف أنظمة التِّجارة وقوانينها العقلية.
لنقل إذن بأنّ تعليم التَّفكير الإبداعي، إذا لم نبدأ منه، فإنَّنا سننتهي إليه، وما يغلب علينا في واقعنا العربي عقليّة التّراكم وإدامة العطالة الفكريّة، لأنّ التَّفكير والنّقد وحبّ الاستطلاع والرّغبة في التّجديد باتت تُهَماَ أكثر منها آفاقا بحثيّة وتجديديّة، لأجل ذلك فإنّنا - وكي نرتقي إلى آفاق التّفكير الإبداعي - يلزمنا الوعي بجملة من المعايير الأساسية منها :
1) تعليم التَّكامل المعرفي :
ليس الغرض من هذا الشّرط، مجرّد حشو الأذهان بالمعارف، أو القول، بأنّ العلاقة بين العلوم هي علاقة تداخل، وإنّما الاستناد إلى عديد الأدوات من حقول المعرفة، لأجل علاج التّحديات، فالقاعدة العلميّة تقرّر، بأنَّ المشكلة التي لا حلّ لها من منظور علم ما، ستجد حلاّ لها في حقل علمي آخر، وهكذا كان الأمر في منهج ابن خلدون، فمسألة الانحطاط في العالم الإسلامي احتاجت إلى تطوير أدوات علميّة ومعجم مفاهيمي عابر للتّخصُّصات.
2) تعليم الاشتباك مع الأحداث :
ليس من سمات التّفكير الإبداعي السَّكن في المفاهيم المجرّدة، البعيدة عن ضجيج الأحداث، وإنّما التَّعالق بين العقل والحدث، لأنَّ هذا التَّعالق يخلق الحرارة الحواريّة ويُلينُ المذهبيّات المغلقة التي تريد أن تستوعب الواقع في مفاهيمها وأنساقها، والأمر بالاجتهاد في الدّين، يعني أنّ الحقيقة لصيقة ببذل الطَّاقة والوُسْع، والإجابة عن أسئلة الزّمان، وليس الانكفاء في الأبراج الشّاهقة أو الكهوف النّائية .
3) الارتكاز على الفكر الطبيعي :
ليست العلوم والمعارف دوما أدوات للعلاج والتّعليم، بل قد تكون هي نفسها حُجبا نحو الحقيقة؛ ومن معيقات الصَّواب والصّحة، لذا، اعتبر أبو حامد الغزالي في كتابه : «ميزان العمل»، أنّ شرط الاستقلال هو الانتباذ بعيدا عن المذاهب السّائدة، وكان الشّكّ المنهجي بالنّسبة له، هو الطّريق نحو الحقّ، وكذا الأمر مع ابن خلدون، الذي دعا دوما إلى استمطار الفكر الطّبيعي، ونبذ حجب المفاهيم والعلوم أو بلغته: «المنطق الصناعي»، كي نقتدر على إيقاظ القدرة الكامنة في الذّات .
4) الاستلهام من سقف المعرفة المعاصرة
من مرتكزات التَّفكير الإبداعي، الاستلهام من ثمرات المعرفة في حقولها العديدة، فالرّئة التي لا تتنفس هواء الفجر الجديد في الصَّباح، ستعتمد على الهواء الملوّث في اليوم، وكذا العقل، الذي إذا لم ينفتح على جديد المعارف في فجرها الجديد؛ فإنّه سيبقى قزما في زمن عمالقة التّفكير والإبداع، وعليه؛ فإنَّ الاستلهام من المعرفة المعاصرة، هو مرتكز حيّ من مرتكزات تعليم التّفكير الإبداعي .
لنقل إذن، بأنّ حاجتنا إلى التّفكير الإبداعي، فضلا عن أنّها من بدائه العقل، تفرضها التّحديات التي نمرّ بها، إنّها تحدّيات الهيمنة بالمعرفة، فمن يملك المعرفة سيملك وسيسود، ومن لا يملكها سيُستعبد ويُستضعف. وروح المعرفة التي تسود وتستولي هو الإبداع، إذن، فالتّفكير الإبداعي هو الحاجة الحضاريّة العاجلة. |