نحو أفق جديد
بقلم |
![]() |
أ.د.عبدالجبار الرفاعي |
يترجم القلبُ كلمات الحُبّ بمعنى واحد |
يولد الحُبّ في لغة القلب، وهي من أصدق اللّغات في العالم وأعذبها. يترجم القلبُ كلَّ لغات الحُبّ وكلماته المتنوّعة في مختلف اللّغات بمعنى واحد، لا يرى الإنسانُ في كلمات الحُبّ بكلِّ اللّغات إلاّ الضّوء. الحبّ يعيد إنتاج الذّكريات وكأنّها ضوء يخلِّد أجمل ما يمكث من الإنسان، الحُبّ يوقد جذوة الضّوء في القلب، القلبُ الذي يعيشُ الحُبّ لا يدركه الوهنُ، ولا ينهكه تقدمُ العمر. مَن يتعلّم الاستثمار في الحُبّ يرى الضّوء بمن يتعامل معه، ويجعل حياته أسهل، وعيشه أسعد، ويظفر بجذوة الرّوح وبهجتها.
الحُبّ الأصيل يعنى كون الإنسان المحبوب يمتلك ضميرًا أخلاقيًّا يقظًا، هذا الضّربُ من الحُبّ لا يرهقه فعلٌ مهما كان شاقًّا، بل يجعل كلَّ شيء عذبًا، وإن لم يكن في ذاته عذبًا. ما أعنيه هو الحُبّ الأخلاقي الأصيل غير المشروط، الحُبّ الذي يبادر فيه كلٌّ من المحبَّين بالعطاء بلا أيّة مقايضة أو استرداد لما أعطى، ويكون مَن يُحبّ مستعدًا لتقديم كلِّ شيء بلا أن يمنّ بما أعطى. أتحدّثُ عن الحبِّ الأصيلِ الذي يحميهِ سياجٌ أخلاقي، لا أعني بعضَ الأخلاقِ الكلاميّةِ والفقهيّةِ المضادّةِ لما يحكمُ بهِ العقلُ الأخلاقي(1). الأخلاقُ هنا بمعنى العقلِ العمليِّ، وهي ما يُحسِّنُهُ ويُقبِّحُهُ العقلُ الأخلاقي.
الحُبّ الأخلاقي الأصيل ضرب من الامتنان والإكرام، مَن يحبّك يكرمك ويعبّر عن امتنانه العميق لك. الحُبّ المشروط مُشبَّع بالمنّ لا بالامتنان، وبالإكراه لا بالاختيار، وبالفرض لا بالتّطوع، وبالتكلّف لا بالمبادرة، ممّا يجعله ضربًا من الاستعباد. يتحوّل الحُبّ المشروط بمرور الأيام إلى قائمة مطالب لا تنتهي، تتراكم وتضاف إليها كلّ يوم مطالب جديدة، حتّى يشعر الإنسان أنّه يتعرّض إلى عمليّة ابتزاز تستنزفه وتنهك قلبه، وتعبث بسلامه الدّاخلي.
الحُبّ الأصيل يخفضُ وتيرةَ الخوف والقلق، ويحرّر الإنسانَ من الاكتئاب وفقدان المعنى. الحُبّ الأصيل مُلهِمٌ، الاستبصاراتُ الحاذقة يُلهمُها الحُبّ، استفاقةُ العقل يُلهمُها الحُبّ، العفو والغفران والرّفق واللّطف يُلهمُها الحُبّ. لا يتوقّف فعلُ الحُبّ عند القلب والعواطف، بل يظهر أثره بشكل واضح في توجيهِ بوصلة التّفكير وغاياته في العقل، وبناءِ رؤية جماليّة للّه والإنسان والعالَم، وإثراءِ الشّعور بسحر تجلّيات الجمال في الوجود، وإيقاظِ البهجة في أعماق الإنسان. الحُبّ ينقذ الإنسان من الاغتراب الاجتماعي، ويخفض الاغتراب الوجودي. اكتشاف الحُبّ الأصيل من أثرى اكتشافات المعنى الجميل الملهم لحياة الإنسان.
في مراحلِ عمر الإنسان كلّها، وبتنوّعِ دروب حياته، واختلافِ أنماط عيشه، وتجّددِ احتياجاته ومصالحه، وتضاعفِها، أو تضاؤلها، يظلّ الحُبّ أعذبَ منابع المعنى في حياته. لن يتراجع الأثرُ المُلهِمُ للحبّ مهما تقلّبت أيّامُه واختلفت. يلبث الإنسانُ حتى اللّحظات الأخيرة من عمره بأمسّ الحاجة إلى كلمةِ حبّ صادقة، وضوءِ قلبٍ محبّ، ومحبّةِ روحٍ مشفِقة. جوهرُ المحبّة ضوءٌ يكشفُ تجلّياتِ جمال المُحِبّ والمحبوب. محبّة خلق اللّه من أعظم النّعم الإلهيّة، هذه النّعمةُ يفتقر إليها بعضُ النّاس الذين يتظاهرون بالتّديّن. أعرف بعضَهم يدمن الطّقوسَ والشّعائر، لكنّه يعجز عن المبادرةِ بأيِّ موقفٍ جميل أو فعلٍ أو كلمة تجسِّد محبّتَه للنّاس.
القلوب مرايا؛ عندما يكون الإنسان سخيًّا بكلمة الحُبّ الصّادقة يمتلك قلوب النّاس السّليمة من الأمراض الأخلاقيّة، ويسهم في مداواة النّفوس المصابة بأمراض نفسيّة. المحبّة الصادقة هي رصيد العلاقات الإنسانيّة المثمرة، يكرّسها العمل المتواصل على اكتشاف المشتركات العاطفيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة مع الآخر، مع التّغاضي عن الاختلافات الاعتقاديّة والأيديولوجيّة والفكريّة والمزاجيّة، وتجاهل الكلام والمواقف والثّرثرات المزعجة، وعدم التّدخّل في الخصوصيّات الشّخصيّة، إلاّ إذا بادر الآخر بإخبارنا بمشكلة في حياته الخاصّة وطلب منّا التّدخّل والدّعم بشأن خاصّ به، يدعونا العيش بسلام إلى أن نكفّ عن ملاحقة عثرات الآخرين وأخطائهم. لو رأينا أعماق الإنسان كما هي لأصابنا الذّعر؛ الحُبّ هو الحالة الوحيدة التي تجعلنا نرى الإنسان كما يراه اللّه بنوره ورحمته التي وسعت كلَّ شيء. الإنسان الذي يمتلك القدرة على الاستثمار في الحُبّ وتذوّق تجليات الجمال في العالم لا يدركه الهرم. يضيع الإنسان، حتّى وإن ظفر بكلِّ شيء، عندما يضيع عليه الطّريق إلى الحُبّ الأصيل في حياته.
الإنسانُ منذورٌ للحُبّ؛ يولد وتولد معه الحاجةُ الأبديّة للمحبّة، الرّضيع يتشبّث بأمّه ليل نهار، لا يطلب رضاعة الحليب فقط، بل يرتضع المحبّة ودفء حنان الأمّ وحميميّتها وشفقتها. وإن كان لا يستطيع في تلك المرحلة العمريّة التّعبير عن ذلك بالكلمات، فإنّه يعبر عنه جسديًّا برغم عجزه عن التّعبير اللّغوي. كلمات المحبّة الصّادقة، الصّادرة من إنسان يتقن صناعة المحبّة الأصيلة والاستثمار فيها، تبعث الطّمأنينة في القلب والسّكينة في الرّوح. عندما يفتقر الإنسانُ إلى المحبّة، يشعر كأنّه يعيش في منفى كئيب داخل أسوار مدينة موحشة، لكن حين يعثر على منبع للمحبّة، يسترد ما يفتقر إليه من سكينة وطمأنينة تصيّر عيشَه عذبًا.
مادام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ من المعاني وأغلاه، فإنّ نيلَه يتطلّب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الحُبّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر النّاس، لا يسكن الحُبّ الأصيلُ إلاّ الأرواحَ السّامية، ولا يناله إلا مَن يتغلّب بمشقّةٍ بالغةٍ على منابع التّعصّب والكراهيّة والعنف والشّر الكامنة في أعماقه. حُبّ الإنسان من أشقِّ الأشياء في الحياة، لأنّ الإنسان بطبيعته أسيرُ ضعفه البشري، يصعب عليه أن يتخلّص من بواعث الغيرة في ذاته، وما تنتجه غيرتُه من منافساتٍ ونزاعاتٍ وصراعات، وما يفرضه استعداده للشرِّ من كراهيّاتٍ بغيضة، وآلامٍ مريرة(2).
كما أنَّ أخطرَ شيءٍ على الفكرِ والأدبِ هو عبادةُ الأصنامِ الفكريّةِ والأدبيّةِ، فإنَّ أخطرَ ما يفتكُ بالقلبِ هو تحويلُ المحبوبِ إلى صنمٍ. الحُبُّ يُغذِّي النّرجسيّةَ ويُشبعُها، وأحيانًا يُضخِّمُها إلى درجةٍ تُفسدُ الحُبَّ، حين يُسرفُ بعضُ المحبّين في الثّناءِ على ذواتِهم، ويفرّطون في استعمالِ كلمةِ «أنا» بشكلٍ مبتذل، وتكرارِ الإعلانِ المُثيرِ عن مزاياهم وما يتفوَّقون به على غيرهم، بأسلوبٍ تسودهُ كثيرٌ من المبالغاتِ وحتّى الأكاذيب. ويظلُّ بعضُهم يُلحُّ، داعيًا حبيبَهُ للإصغاءِ إليهِ في كلِّ مرةٍ يثرثرُ بهذهِ الكلماتِ المُملّة، ولا يسمحُ لهُ بالتّحدثِ عن ذاتِه، وكأنَّهُ يُبلغهُ برسالةٍ مفادها التّفوّقُ عليهِ وعلى غيرهِ، حتّى يشعرَ مَن يُنصتُ إليهِ بالاشمئزازِ من الحديثِ وتنضبُ روافدُ التّواصلِ معهُ بالتّدريج.
الهوامش
(1) راجع «البنية الكلاميّة والفقهيّة للأخلاق»، الفصل الخامس من كتابي: «الدّين والكرامة الإنسانيّة».
(2) الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، ص 114، ط 2، 2022، دار الرافدين، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.
|