نافذة على الفلسفة
بقلم |
![]() |
أ.د. عبدالرزاق بلقروز |
المساءلة النقدية للحداثة و العولمة في مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي |
يُعدّ مصطلح «الحداثة» من أكثر المصطلحات دورانا على الألسن وحضورا في المجال التّداولي الفلسفي المعاصر، وقد شكّلت هذه المفردة أرضا خصبة للدّرس الفلسفي والتّحليل، وإطارا معرفيّا مركزيّا للسّجال والحوار بين عموم المشتغلين في حقل الثّقافة والمنخرطين في عالم الفكر والحضارة .
وبما أنّ أرض الحدث مرتبطة بالمناخ الحضاري الغربي، فلا شكّ أن صداها قد بلغ نظائرها من مناخات العوالم الأخرى المغايرة لها نفسيّا ومكانيّا، وأكبر دليل على هذا الصّدى هو ما يُكتب أو يُقال عن هذه الظّاهرة الحضاريّة أو عن هذا الوصف الملازم للتّجربة الأوروبيّة في نسقها الوجودي التّطوري، الذي قام في مرحلته الجنينيّة الأولى بتفكيك أنظمة المعارف القائمة لتوسيع مجال التّفكير، وإدخال العقل إلى مناطق أو مجالات جديدة للتّفكير كانت ممنوعة أو مرذولة من قبل، كالطّبيعة لاكتشاف قوانينها أو المجتمع لإعادة بنائه، أو المساواة لتحقيق العدل في المجال السّياسي، وقد أفرزت هذه التّحولات الإنمائيّة والتّراكميّة نمطا حديثا من التّصوّر حول الإنسان، بأن جعلت منه مركزَ الوجود ومحور الكون كما بشّرت بذلك الفلسفة الهيومانيّة .
ولم يكن البحث في ظاهرة الحداثة مقتصرا على المجال التّداولي الغربي فقط، إنّما كان له حضورٌ أيضا في أدبيّات الخطاب الفلسفي العربي المعاصر، سواء كان على مستوى القراءة التّاريخيّة والتحليليّة، وذلك بتتبّع مساراتها وامتداداتها، وبيان محدوديّة نتائجها وقصور آليّتها التّفسيريّة ومضاعفاتها اللّاأخلاقيّة على الإنسان، كما هو الحال مع عبد الوهاب المسيري في مشروع رؤية نقديّة للفكر الغربي.أو قراءتها من منطلق الدّرس الإبستمولوجي للمعرفة العلميّة الغربيّة، التي حاولت إتباع منهج التّعميم؛ أي تعميم المادّة كمقولة تفسيريّة على مجالات أخرى غير مادّية، لتبدأ هذه المسيرة بثورة العلم على الفلسفة التي فكّكت المسلّمات الإنسانيّة لتصل في النّهاية إلى الخلاصة المادّية في شكلها الماركسي الجدلي التي فكّكت الذّات الإنسانيّة .
ووفقا لهذا التّصور، فإنّ الفلسفة الماركسيّة تمثّل النّتيجة المنطقيّة والحتميّة الوحيدة للكيفيّة الفلسفيّة التي انطلق بها الإنسان الأوروبي أو الحداثي، أو هذا هو قدره المحتوم ضمن اللاّهوت الأرضي المعتمد، وبالتّالي فكلّ قراءة للحداثة تستبعد النّموذج الماركسي كمفتاح للفهم محكوم عليها بالتّجزيء والتّذرير، وهي القراءة التي تفرّد بها أبو القاسم حاج حمد في كتابه«جدليّة الغيب والإنسان والطّبيعة».
كما تجدر الإشارة أيضا إلى بعض المحاولات التي سعت هي الأخرى لقراءة الخطاب الحداثي وتحديد الموقف منه، بعضها يغلب عليه طابع الاستهلاك الآلي لمنتجات هذا النّمط المعرفي الحديث، وبعضها الآخر يعمد إلى الطّريق الانتقائي التّفاضلي، إن استنادا عليه أو تكاملا معه، ونخصّ بالذّكر بعض الأسماء منهم محمد أركون، محمد عابد الجابري، وعلي حرب… .
والقراءة التي نخصّها بالتّحليل والعرض تتعلّق بواحد من الذين قدّموا إسهامات معتبرة فيما يخصّ الموقف من الحداثة، وهو المفكر المغاربي «طه عبد الرحمن» الذي بدأ يفتح حقلا معرفيّا خصبا، ويشقّ لنفسه خطّا فلسفيّا يناظر في قوّته النّقديّة والبنائيّة الاستدلاليّة المشاريع الأخرى المساهمة في تجديد المعرفة الإسلاميّة العربيّة. المفكر المغاربي «طه عبد الرحمن» اهتم هو أيضا بمسألة الحداثة وكرّس لها كتابا مستقلّا قدّم فيه أطروحته المتعلّقة بهذا الموضوع.
ومن بين الدّوافع التي جعلتنا نسعى إلى البحث في هذا الموضوع وعند «طه عبد الرحمن» بالذات :
- التّعرّف على رؤية «طه عبد الرحمن» لهذا النّمط الحضاري الحديث وكيف قرأه ؟
- الوقوف على أدوات النّظر النّقديّة والبنائيّة المعتمدة في هذه القراءة للحداثة ؟
- أن نقدّم للباحث خطابا جديدا في مضمونه محكما من النّاحية الاستدلاليّة والبرهانيّة.
- أن نعرّف بهذه الشّخصيّة الثّقافيّة العربيّة المطمورة في حقل الفلسفة العربيّة المعاصرة .
ودافع آخر – وهو ذاتي أكثر – متعلّق برغبتنا الاستفادة من الأدوات المفهوميّة والارتقاء بمستوى اللّغة إلى مرتبة أعلى، والاستفادة من هذا الثّراء المعرفي الذي يبشّر بعطاء وافر.
وبسبب موقف «طه عبد الرحمن» من الآليّات الاستهلاكيّة الغربيّة التي يتمرّس بها العقل العربي المعاصر، ومحاولته إنشاء نموذج خاصّ بالمجال التّداولي العربي الإسلامي هو ما دفع إلى تحليل الإشكاليّة إلى ما يلي :
- كيف قرأ طه عبد الرحمن الحداثة الغربيّة ؟
- لماذا التوسّل بالأخلاق الدّينيّة في عمليّة النّقد هذه ؟
- ما هي المظاهر التي طبّقت في عمليّة النّقد الأخلاقي للحداثة الغربيّة ؟
وللإجابة عن هذه التّساؤلات ارتأينا أن يكون المنهج التّحليلي مناسبا وملائما يخدم طبيعة الموضوع .
وتجدر الإشارة أيضا إلى اعتمادنا- أحيانا- المنهج المقارن؛ بخاصّة عندما يتعلّق الأمر ببعض المصطلحات الغربيّة لحظة ما يتمّ مقارنتها بنظيرتها الإسلاميّة لتوضيح الأفكار واستجلاء المعاني .
وإذا كان الغالب في رسائل البحث استجابة لمتطلبات الضّرورة المنهجيّة التّحدّث عن الصّعوبات التي واجهت البحث، فإنّ الصعوبات في هذه الرّسالة تحوّلت إلى تحدّيات تتطلّب دقّة تركيز وطول انتباه بخاصّة ما تعلّق منها بقراءة مشروع «طه عبد الرحمن» مباشرة ودون وسائط .
و بخصوص قلة المراجع التي تتناول هذه الشّخصيّة، فإنها كانت لنا حافزا على تقديم قراءة متواضعة تكون عونا لمن يرغب الاستفادة من فكر طه عبد الرحمن وإضاءة منهجيّة ومفتاحيّة للانخراط في فلسفته الأخلاقيّة على وجه الخصوص .
ومن المصادر التي شغلت حيّزا مركزيّا في هذا البحث كتاب : «سؤال الأخلاق» لكون الخطّة تدور حول أفكار مبثوثة أو متضمّنة في هذا الكتاب .إضافة إلى كتاب: «الحقّ العربي في الاختلاف الفلسفي» و«فقه الفلسفة» بجزأيه الأول والثّاني، وكتاب «تجديد المنهج في تقويم التّراث» و«العمل الدّيني وتجديد العقل» . ولقد توصلنا إلى بناء الهيكل المشكل لموضوع البحث على النّحو التّالي :
مقدّمة: وفيها عرّفنا بالموضوع، وعرجنا إلى الأسباب والدّوافع التي حفزتنا على تناوله، وإشكاليّة الدّراسة، والمنهج المعتمد عليه فيها، إضافة إلى الصّعوبات التي واجهتنا وخطّة البحث .
ومدخل تحدّثنا فيه عن الخلفيّة المعرفيّة والأرضيّة الفلسفيّة التي شكّلت الخطاب المابعد الحداثي الغربي وساهمت في نقضه وتفكيكه، وانتقينا فيه «نيتشه»، و«فرويد»، و«ماركس»، كأحد الذين طوّروا نماذجهم المعرفيّة كلحظة انعطاف جذري وعميق في تاريخ الثّقافة الغربيّة.
وثلاثة فصول متكاملة فيما بينها يكمل فيها اللاّحق جهد السّابق .
فالفصل الأول تناولنا فيه وحدة الخطابين المعرفي والأخلاقي أو المعرفة والادراكات الأخلاقيّة، مع ثلاثة نماذج تطبيقيّة يتجلّى فيها وبوضوح ازدواج الأخلاقيّة مع باقي الأفعال الأخرى كما يفهمها طه عبد الرّحمن .
والفصل الثّاني عرضنا فيه نظريّة طه عبد الرحمن في فلسفة الأخلاق بمعالمها المنهجيّة الأولية، حيث ردّت هذه النّظريّة الهويّة الإنسانيّة إلى الأخلاق، وردّت الأخلاق إلى الدّين، ليخرج منها أنّ الإنسان هو الكائن الحيّ المتعبّد .
الفصل الثّالث: نقد الأخلاق الدّينيّة لمظاهر الحداثة الأربعة، العقل الذي اعتبرته ناقصا والقول ظالما، ونمط المعرفة متأزّما، وأخيرا التّقنية وهي متسلّطة على الإنسان، مع الإشارة في كلّ مظهر إلى الاقتراحات البديلة التي يرى طه عبد الرحمن بأنّها كفيلة لتقويم الحداثة الغربيّة والخروج من مآزقها.
وفي الأخير خاتمة تضمّنت أهم النّتائج المتوصّل إليها من خلال هذا البحث ونسأل اللّه أن نكون قد أحطنا بالموضوع وأجبنا على إشكاليّة البحث،واللّه من وراء القصد وهو يهدي السّبيل .
|