شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
إبن رشد «فيلسوف التنوير»
 هو محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ولد في مدينة «قرطبة» بالأندلس سنة 520 هجري(1126 م)، وهي سنة وفاة جده الذي كان قاضي القضاة فيها، ولذا يعرف بابن رشد الحفيد، وهو من أسرة كبيرة مشهورة بالفضل والرياسة. عرفه الأوروبيّون معرفة كبيرة، وأطلقوا عليه اسم (Averroes) 
درس ابن رشد الفقه والأصول والطّب والرّياضيات والفلسفة، وبرع في علم الخلاف، وتولى القضاء سنوات عديدة في إشبيلية ثم في قرطبة. ومن أقواله: «من اشتغل بعلم التّشريح ازداد إيمانا باللّه تعالى». وكان طبيباً لبعض الخلفاء ثمّ في الفلسفة، فاهتم بدراسة المنطق والبحث عن الحقيقة وذلك بدرس «أرسطو» وشرحه.
عاش عدّة عقود من عمره في كنف خلفاء دولة الموحّدين يزيِّن مجالسهم في حلقات العلم والفلسفة والفقه عندما كان جوّ التّسامح كبيراً، ثمّ حوكم وأُبعد في نهاية زمن الخليفة «يعقوب المنصور»إلى أليسانة قرب قرطبة، ومن ثمّ إلى المغرب، نتيجة دسائس الحاقدين وانصراف المنصور الى مشايخ الطّرق الصّوفية. عفا عنه الخليفة بعد فترة ليست طويلة ولكن بعد أن كانت جميع كتبه عن الفلسفة قد اُحرقت.
تدور فلسفة ابن رشد على قِدَمِ العالم وعلم الله وعنايته والمعاد وحشر الأجساد. فعنده أن العالم مخلوق وأن الخلق خلق متجدد، به يدوم العالم ويتغير، وأن الله هو القديم الحقيقي، فاعل الكل وموجِده، والحافظ له، وذلك بتوسط العقول المحرِّكة للأفلاك. وعنده أن الله عقل ومعقول معًا، وأن علم الله منزَّه عن أن يكون علمًا بالجزيئات الحادثة المتغيرة المعلولة أو علمًا بالكلِّيات التي تُنتزَع من الجزئيات. فكلا العلمين بالجزئيات والكليات حادث معلول؛ أما علم الله فعلم يوحِّد العالم ويحيط به. فيكفي أن يعلم الله في ذاته الشيءَ ليوجد ولتدوم عناية الله به وحفظُه الوجود عليه.
يقول إبن رشد بعدم وجود تعارض بين الدّين والفلسفة ولا اختلاف بين الشريعة والحكمة وإذا كان هناك من تعارض فهو ظاهريّ بين نصّ ظاهري ديني وقضية عقليّة، ويرى بأن حلّه بالتأويل وفقا لقواعد وأساليب اللغة العربيّة. وقد عرّف إبن رشد الفلسفة في كتابه «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال» بأنّها تعني المصنوعات التي يصنعها الصانع تدلّ عليه، وكلّما عرفنا الموجودات معرفة أتمّ تكون معرفتنا بصانعها أتمّ. والشرع ندب إلى اعتبار الموجودات والنظر بها وبيان دلالتها بحجّة الآية الكريمة «واعتبروا يا أولي الأبصار».   
وعنده أن العقل الفعَّال، الذي يُفيض المعقولات على العقل الإنساني، أزلي أبدي. والعقل الإنساني، بحكم اتصاله بالعقل الفعَّال وإفاضة هذا العقل عليه، أبديّ هو الآخر. أما النفس فصورة الجسم، تفارقه وتبقى بعده منفردة. وأما الجسد الذي سيُبعَث، فهو ليس عين الجسد الذي كان لكلِّ إنسان في الحياة، وإنما هو جسد يشبهه، وأكثر كمالاً منه.
ويرى ابن رشد أن يعمل الإنسان على إسعاد المجموع، فلا يخص شخصه بالخير والبر، وأن تقوم المرأة بخدمة المجتمع والدولة، كما يقوم الرجل. والمصلحة العامة، في نظره، هي مقياس قيم الأفعال من حيث الخير والشر، وإن كان العمل خيرًا أو شرًّا لذاته. والعمل الخلقي هو ما يصدر عن عقل وروية من الإنسان. وليس الدّين عنده مذاهب نظرية، بل هو أحكام شرعيّة وغايات خلقيّة، بتحقيقها يؤدّي الدّين رسالته، في خضوع النّاس لأوامره وانتهائهم عن نواهيه.
وانطلق ابن رشد في آرائه الأخلاقية من مذهبَي أرسطو وأفلاطون، فقال بالاتفاق مع أفلاطون بالفضائل الأساسية الأربع (الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة)، ولكنه اختلف عنه بتأكيده أن فضيلتي العفة والعدالة عامتان لكافة أجزاء الدولة (الحكماء والحراس والصناع). وهذه الفضائل كلها توجد من أجل السعادة النظرية، التي هي المعرفة العلمية الفلسفية، المقصورة على «الخاصة». وقد قَصَرَ الخلود على عقل البشرية الجمعي الذي يغتني ويتطور من جيل إلى آخر. وقد كان لهذا القول الأخير دورٌ كبير في تطور الفكر المتحرِّر في أوروبا في العصرين الوسيط والحديث. وأكد ابن رشد على أن الفضيلة لا تتمّ إلا في المجتمع، وشدَّد على دور التربية الخلقية، وأناط بالمرأة دورًا حاسمًا في رسم ملامح الأجيال القادمة، فألحَّ على ضرورة إصلاح دورها الاجتماعي في إنجاب الأطفال والخدمة المنزلية. وقد بسط ابن رشد أهم آرائه الأخلاقية من خلال شروحه على الأخلاق إلى نيقوماخوس لأرسطو وجوامع السياسة لأفلاطون.
ألّف إبن رشد كتباً عديدة في الفقه والالهيات والفلسفة وأهم كتبه: تهافت التهافت وفصل المقال، الكشف عن مناهج الأدلّة، القسم الرابع من وراء الطبيعة، بداية المجتهد ونهاية المقتصد. وله عشرات المؤلّفات الأخرى التي ترجمت إلى العدد من لغات العالم.
وبالإضافة إلى الفلسفة، كان ابن رشد من أعظم أطباء زمانه، جيّد التّصنيف، حسن المعاني، حسن الرّأي، ذكيا، قوي النّفس، وكان قد اشتغل بالطّب على أبي جعفر بن هارون، ولازمه مدّة، وأخذ عنه كثيرا.
ألف ابن رشد نحو عشرين كتابا في الطّب، بعضها تلخيصات لكتب «جالينوس»، وبعضها مصنّفات ذاتيّة، وأشهرها كتاب «الكلّيات في الطب»، وهو موسوعة طبّية في سبعة مجلّدات، شرح فيها وظائف أعضاء الجسم ومنافعها شرحا مفصّلا دقيقا، كما شرح فيها الجوانب المتنوّعة للطّب في التّشخيص والمعالجة ومنع انتشار الأوبئة، وقد أجاد في تأليفه. كما شرح أرجوزة ابن سينا في الطّب؛ وقد اقترح في شرحه لابن سينا ما يصفه الأطباء الآن، وهو تبديل الهواء في الأمراض الرّئويّة.
ويفرض كتاب «الكلّيات في الطّب» لابن رشد نفسه كأوّل كتاب يطرح موضوع التّفكير العلمي في الطّب، فابن رشد «الذي كان يفزع إلى فتواه في الطّب كما يفزع إلى فتواه في الفقه» -كما يقول عنه كتاب التراجم- يتّخذ لنفسه في كتابه موقف المفتي فيما يجب أن يكون عليه الطّب، حتّى يسمو على مجرّد مجموعة من المعارف التي تراكمت عبر الممارسة القائمة على الخبرة، ويرتقي إلى مرتبة العلم الذي تؤسّسه «كليّات»، أي أنّ له أسسا ومبادئ ومناهج، كقواعد للفكر الطّبي. 
توفي ابن رشد في مراكش بالمغرب الأقصى أول سنة 595 للهجرة (1198 م) عن 75 سنة، وذلك في أول دولة الناصر، ثم نقلت جثته إلى قرطبة. وخلف ابن رشد ولدا طبيبا عالما يقال له أبو محمد عبد الله، كما خلف أيضا أولادا اشتغلوا بالفقه.