عظماء الأدب

بقلم
أ.د. ناصر أحمد سنه
«آرصوي»: الأديب العبقري
    ألمعي في دارسته وعمله، عبقريّ في شاعريّته ونظمه، شاعر الأمل في حِلّه وغربته، إنسانيّ في تعبيره وضميره. يُعدّ الشّاعر الأديب «محمد عاكف آرصوي» (Mehmet Âkif Ersoy) (1873 -1936) من أعظم الشّعراء والأدباء الأتراك المعاصرين. صاحب نشيد الاستقلال التّركي، الذي أرسى دعائم الشّعر والأدب والثّقافة التّركيّة الحديثة. نُفي إجباريّاً، فذاق مرارة الغربة، ممّا جعله مثقّفًا صادقاً، وشاعرًا عبقريّاً خلدت كلماته ومواقفه عبر العصور. ولد «آرصوي» في 20 ديسمبر من عام 1873 في إسطنبول، ووالدته «أمينة شريف هانم»، تنحدر عائلتها من «بخارى»؛ أمّا والده «محمد طاهر أفندي» فولد في «كوسوفا»؛ وكان من معلّمي جامع «الفاتح». أسماه والده  «راغيف» وفقاً للحساب الأبجدي المُعبّر عن تاريخ ولادته ولكن لصعوبة اللّفظ أطلقوا عليه اسم «عاكف».
   تعلّم في حي «الفاتح»، والتحق بالمرحلة الابتدائيّة، وتعلّم العربيّة من والده، وحفظ القرآن ـ على يد إمام جامع الفاتح ـ وهو في التّاسعة من عمره. كما درس الحديث، واللّغة الفارسيّة. والتحق بـ(إعداديّة الفاتح المركزيّة) عام 1882. وبعد الانتهاء من الإعداديّة عام 1885 سجّل في المدرسة الثّانويّة الملكيّة التي كانت من أفضل المدارس في وقتها. وخلال دراسته الثّانويّة، كان «آرصوي» مجيداً للتّركية والعربيّة والفارسيّة والفرنسيّة. وشغف ـ باكراًـ بالشّاعر الفارسي «سعدي الشّيرازي»، وترجم أكثر شعره إلى التّركيّة. كما تأثّر بالشّاعر الفيلسوف «محمد إقبال»، وأعجب بـ «سلطان العاشقين» الشّاعر المصري «ابن الفارض». 
ولمّا توفّي والده، رغب «أرصوي» في أن يحترف مهنة، أكمل دراسته في «مكتب حلقه لي للزّراعة والبيطرة». وتخرّج (1893) من المدرسة البيطريّة بمرتبة شرف وترتيب الأول على قسمه، ثمّ عمل مفتّشاً في وزارة الزّراعة. وبعد تخرّجه ساح في الأناضول والبلقان وسوريا والجزيرة العربيّة، فاقترب من النّاس، وعلم أحوالهم، وسبر شؤونهم. وخلال دراسته اهتم بالرّياضة(المصارعة والسّباحة والعدو)، وشارك في عدّة مسابقات. وتكرّس شغفه بالشِّعر في العامين الأخيرين من دراسته. وأصبح معلّماً للّغة التّركية في نفس مدرسته، ثمّ صار، ما بين 1906-1907، محاضراً في الأدب العربي وأصول التّرجمة بين العربيّة والتّركيّة في «دار الفنون» بجامعة إسطنبول.
انطلاقته الشّعرية والأدبيّة:
تمثّل الرّوافد الثّقافيّة الجانب الهامّ في حياة كلّ مبدع، وتسهم في تشكيل وعيه وحياته وأفكاره، ومن ثمّ صياغة قضاياه التي يتبنّاها فيما بعد. ففي عام 1895 نشر أوّل قصائده بعنوان: «خطاب للقرآن»، ثمّ اتبعها عشرات القصائد الرّنانّة الخالدة التي ألهبت مشاعر الأتراك، وطرحت موضوعات حيويّة متنوّعة. وبعد إعلان الحكم الدّستوري.. شارك ـ مع أصدقائه «أشرف أديب» و«أبو العلا ماردين»ـ في إصدار مجلة «الصّراط المستقيم» (تحوّل اسمها فيما بعد إلى «سبيل الرّشاد») ودشّنت في 27/8/ 1908. ونشر فيها أكثر أعماله الشّعريّة والأدبيّة والفكريّة. أمّا شعره الخالد فمجموع في دواوين سبعة ما زالت تروج بين الأتراك. وقد أبصر ديوانه الأوّل النّور عام 1911 وسماه بـ«صفحات»، وبعد عام صدر ديوانه الثّاني«محاضرة في السّليمانيّة/ في منبر السّليمانيّة»، جمع فيه مقطوعات من شعره الدّيني والأخلاقي. ثمّ بعد عام صدر ديوانه الثّالث «أصوات الحقّ» واحتوى إشارات حول تفسير القرآن العظيم وبيان بعض الأحاديث الشّريفة. وفي عام 1914 صدر ديوانه الرّابع « محاضرة في الفاتح/ في منبر الفاتح» وأورد فيه شعره عن ثورات البلقان ضدّ الأتراك ونتائجها السّيئة. وفي ذلك العام زار المدينة المنوّرة.. فكتب قصيدته: «من صحراء نجد إلى المدينة المنوّرة» وترجمها صديقه د. «عبد الوهاب عزّام»: 
«ما كنت لأقف معقود اللّسان..
أقلّب الطرف فيما حولي
ولم يكن لي بدّ أن أنوح لأوقظ الإسلام
إنّما أريد أن تفور القلوب المرهفة الحسّ
الرّاسخة الإيمان... 
إنّي أنوح ولكن لمن؟ أين أهل الدّار؟ 
أقلب طرفي فلا أظفر إلاّ بأمم نائمة». 
فكان يدعو إلى اليقظة والنّهضة والوحدة الإسلاميّة في أشعاره وكتاباته. 
  وفي عام 1917 صدر ديوانه الخامس: « مذكرات/خواطر» وضمّ شعره عن رحلته إلى مصر وألمانيا. ثمّ صدر ديوانه السّادس: «عاصم» عام 1919 وشمل شعره عن حرب الاستقلال. ثمّ صدر ديوانه السّابع: «الظّلال» واحتوى أعماله من عام 1918-1933. وتعاظم دوره خطيباً مفوّهاً يثير حماسة الجنود في جبهات القتال خلال الحرب العالميّة الأولى. ولمّا هُزمت الدّولة العثمانيّة في هذه الحرب ودخل الحلفاء تركيا، شارك في تحرير بلاده بقصائد شعريّة حماسيّة. وفي سنة 1915 زار ألمانيا في مهمّة من قبل الدّولة فبقي في برلين ثلاثة أشهر، ورأى هنالك الأسرى المسلمين التّابعين للدّولة الرّوسيّة والإنجليزيّة، فتفقد شؤونهم، ثمّ عاد إلى بلاده.
نشيد الاستقلال
  انتسب إلى جمعيّة «الاتحاد والتّرقّي»، وبتكليف من «مصطفى كمال أتاتورك» انتخب نائباً في «المجلس الوطني الكبير»/مجلس النّواب (في دورته 1920-1923) ممثّلاً عن مدينته «بوردور»،جنوب غربي تركيا. ولمّا انتهت مدّة الدّورة عاد إلى إسطنبول، ولم يدعه الحزب الحاكم لخوض الانتخابات مرّة أخرى. وفي عام 1921، تمّ إعلان عن مسابقة شعريّة لاختيار نشيد الاستقلال، شارك فيها 700 شاعر (لم يفز أي منهم). لم يشارك «عاكف» في المسابقة الذي افتتحت بجائزة قيمتها 500 ليرة تركيّة. لكنّ وزير التّعليم، «حمد اللّه صبحي بك»، أصرّ على مشاركته وبتشجيع من صديقه «حسن بصري بيك»، شارك بنشيده الذي كان مخصّصاً للجيش (نشيد المارش). وتمّت الموافقة على نشيده كنشيد وطني رسميّ في 12 مارس 1921، بعد أن قرأه «حمد اللّه صبحي بك» في البرلمان واستمع له النّواب وقوفاً. ودار النّشيد ـ الذي ولد في منزل «آرصوي» بأنقرة ـ على ألسنة الأتراك حتى يومنا هذا، وتكمن قيمته في كونه قد عكس صفحة من صفحات التّاريخ التّركي، وجاء فيه:
لا تحزنْ، لن تخمدَ الرّايةُ الحمراءُ في شفقِ السّمــــاءْ
قبلَ أن تخمدَ في آخرِ دارٍ على أرضِ وطني شعلةُ الضّياءْ
إنّها كـوكبٌ سيظلُّ ساطعـاً فهــي لأمتــيَ الغّــراءْ
إنـّــها لي ولشعبي دونَ انقضــــــــــــــــــاءْ
هلالَنا المــــــدلّل، أرجوكَ لا تقطبْ حاجبَ الجمــالْ
ابتسمْ لعرقي البطلِ ! ما هذهِ الهيبةُ وذاكَ الجـــلالْ؟
وإلّا لن تصبحَ دماؤُنـــا الزّكيّـــةُ لكَ حــــــلالْ
من حقِّ أمّتـي التي تعبــدُ الحـــقَّ الاستقــــلالْ
كنتُ حـــرّاً منذُ الأزلِ وأحيـــا حـــــــــــــراً
أيُّ أرعنٍ يقيدُني بالسّلاســـلِ ، ما أعجبه أمـــراً !
إنّني كالسّيلِ الهائجِ أكسّرُ السّدودَ وأندفــع فــوراً
أحطمُ الجبــــالَ ، أملأُ الأرجــاءَ ، أنتفض فيضـاً
لو أحاطَ الجــدارُ المدرعُ آفــــاقَ الغــــــــربِ
فإنّ حدودَ بـــلادي في صــدري كالإيمـانِ الصلـبِ
لا تخفْ فأنت الأعـزُّ وليست لخنقِ الإيمانِ بالغالـبِ
تلك الحضارةُ التي ما هي إلاّ وحــشٌ وحيدُ النّــابِ
يا صاحبي، إيّاكَ أن تجعلَ الوطنَ عرضةً للأدنيـــاءْ
كن سدّاً منيعاً أمامَ الغزوِ السّافرِ كالأقويـــــــاءْ
فستشرقُ تلكَ الأيامُ التي وعدَها اللّهُ للعظمــــــاءْ
ومـــن يدرِ لعــلَّ غــداً أو قبلَــه ينتشرُ الضّيــاءْ
لا تحسبــنَّ مـــا تحتَ رجليــكَ ترابــاً وأيقـــنْ
واحتسـبْ لآلافِ الرّاقديــــــنَ مــن دونِ كفــنْ
أنتَ ابــنُ الشّهيـــدِ لا تــؤذِ الأجــــدادَ واركــنْ
لا تفرّطْ بجنّتكَ ولو أعطـــوكَ الكــــونَ بلا ثمـنْ
من منّا لهذا الوطــنِ الجنّـــةِ لا يقــدّمُ نفســا ؟
تفيضُ الأرضُ بالشّهـــداءِ لــو لمستَهـــا لمســا !
بــــروحي وحبّي وملكـــي للّهِ طبــتُ نفســـا،
إلاّ الوطنَ لا أستطيعـــُ دونَـــه العيـــشَ أنســا
تتضرّعُ نفسي لــكَ يــا إلهــــي بالدّعـــــــاءْ
لصون المعابدِ من الأيــدي الملطّخــــةِ للأعــــداءْ
ليبقـى الأذانُ بالشّهـــادةِ صادحــــاً في العـــلاءْ
فهو عمادُ دينــي يتخلّـــدُ في وطنــــي بالجـــلاءْ
ويسجدُ لكَ شاهدُ قبري وإن يـكُ حينئـذٍ بالوجـــــدْ
بدموعٍ داميةٍ يا إلهـــي من كــلِّ جـــرحٍ للفـــؤادْ
فيقفــــزُ نعشي مــن الأرضِ كالـــرّوحِ المجــــرّدْ
وتسمــو هامتـــي لذرا العـــــرشِ بامتــــــدادْ
رَفرفْ كالشّفقِ الأحمــــرِ يـــا أمجــــدَ هــــلالْ
لتكـــنْ دماؤُنـــا كلُّهـــا لــكَ حـــــــــــــلالْ
لــــن يصيبَــــك ولا عرقــــيَ الاضمــحـــــلالْ
والحرّيــــةُ من حــــقِّ رايتـــي الحـــرّة لا جـدالْ
ومن حقِّ أمّتي التـــي تعبـــدُ الحـــقَّ الاستقـــلالْ
نشيد يمثّل تحفةً رمزيّة ثقافيّة فريدة، فيه روعة الكلمات وأناقتها، وتنوّع الصّور وبلاغتها، وبوح بالمشاعر الوطنيّة والدّينيّة وحرارتها، نُظّم بأوزان العروض التّركي وقافيتها. ونظراً لهذا الحضور الأدبيّ الثّقيل، فشلت ثلاث محاولات (آخرها في تسعينيّات القرن الماضي) لتغيير هذا النّشيد الوطنيّ. وقد تبرّع «آرصوي» بجائزة النّشيد التي مُنحت له للجمعيّات الخيريّة، متجرّداً مُخلصاً لأفكاره وقضاياه التي ضحّى من أجلها، فكان مثالاً يحتذي.
ترجمته معاني القرآن للتّركيّة، وطلبه إحراقها:
في عام 1925، أصدر البرلمان التّركي قراراً بإصدار أوّل ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللّغة التّركيّة «لتيسير فهم القرآن»، وتوكيل رئاسة الشّؤون الدّينية بالمهمّة. وعليه فقد أحالت المهمّة إلى الشّاعر «أرصوي» باعتباره الأفضل للمهمّة. لكنّه رفض المهمّة في البداية، حتّى أقنعه أقاربه وأصدقاؤه. فبدأ التّرجمة ـ وهو في مصرـ في شهر «أكتوبر 1925، وأنهى مسودّتها الأولى عام 1928، واستمرّت عمليّة تنقيحها ومراجعتها نحو أربع سنوات، لتنتهي كاملة عام 1932. وخشية أن يصلّي الأتراك بالتّركيّة، تراجع «آرصوي» عن اتفاقه، ورفض تسليم ترجمته، وأعاد المال الذي استلمه، ما دفع لإسناد المهمّة لأديب آخر هو «إسماعيل حقّي». ونُقل عن «آرصوي» قوله: «التّرجمة كانت جيّدة جدّاً، بل كانت أجمل ممّا توقّعت. لكنّي أخشى إن سلَّمتها أن تُقرأ للنّاس في الصّلاة، فحينها لن أتجرّأ على المثول أمام اللّه، والنّظر إلى وجه نبيّنا». 
وكتب رسالة أخرى أنّه: «لم يعجب بترجمته، ولا توجد إمكانيّة نجاح هذه المهمّة، ويؤكّد تراجعه عنه ليصرف السّلطات عن هذا الأمر المراد منه تسطيح معاني القرآن، ليغدو باهتاً وليس إعجازاً مقدّساً!». ويُقال إنّ «آرصوي» سلّم مسودّة الأجزاء التي قام بترجمتها إلى صديقه المقرّب (محمد إحسان أفندي)، وأخبره: «إن عدت إلى مصر فسننشرها سويّا، وإن لم أعد فأحرقها». ولمّا دنت منيّة «إحسان أفندي» دعا ـ عام 1961ـ ابن صديقه «أكمل الدّين إحسان أوغلو» فأوصاه بحرق النّسخة. لكنّ «مصطفي ريون» تلميذ الأستاذ «إحسان أفندي» خبّأ نسخة منها حتّى سلّمها لجامعة «ابن خلدون» فنشرت عام 2017.
وفاته
بعد توالي الأحداث، آثر «آرصوي» الخروج من تركيا فيمّم وجهه شطر مصر، التي زارها مرّتين ـ عامي 1914و1924ـ مدعوّاً من صديقه الأمير «عبّاس حليم باشا». ووصلها في المرّة الثّالثة عام 1925. ومكث فيها نحو عقد من الزّمن، وتوطّدت صلته بالأديب «عبد الوهاب عزّام» الذي مهّد له طريقاً ـ ما بين 1923- 1936ـ لتدريس اللّغة التّركيّة وآدابها في جامعة «فؤاد الأول» (القاهرة حاليّاً). كما هيّأ له التّواصل مع مثقّفي مصر، وكان «آرصوي» قد تأثّر بـ «الأفغاني»، والأمام «محمد عبده» (ترجم له «الإسلام بين العلم والمدنية»1901)، وأفرد لمقالات الأستاذ «محمد فريد وجدي» حيّزاً كبيراً في جريدته، وترجم كتابه: «المرأة المسلمة». 
لكن زوجته عانت من حدّة المزاج، وعانى ـ هوـ من الفقر والغربة. فأصيب بمرض عضال سنة 1935. ثمّ غادر إلى لبنان للاستجمام، وقرّر العودة إلى إسطنبول، لتوافيه منيّته هناك في 27/12/ 1936. وجرى تشييعه شعبيّاً، ليدفن بمقبرة الشّهداء بـ «أدرنة قابي»، دون حضور رسمي رغم كونه من مؤسّسي «المجلس الوطني الكبير»، ومؤلّف «نشيد الاستقلال». لكنّ مجلس الأمّة التركي ـ في 4/5/ 2007ـ سنّ قراراً باعتبار يوم 12 مارس من كلّ عام «يوماً وطنيّاً للاحتفال بذكرى قبول النّشيد الوطني التّركي والاحتفاء بشاعره». وأصبحت قاعة الطّعام التي كان يستخدمها مع أصدقائه في جامعة «اسطنبول» «قاعة شرفيّة» يزيّنها نشيد الاستقلال وصورة له. ويوجد أيضاً متحف زراعي له داخل حرم الجامعة. كما افتتحت جامعة باسمه في «بوردور»، وأعيد طبع دواوينه. ولما صدر العدد الأول من مجلة «سيزنتي»(الرّشحة) في فبراير 1979، وعلى غلافها لوحة «الطّفل الباكٍي» ذيّلت بمقطع من قصيدته: «استيقظ» وفيها:  «فلنفترض أنك لا تبغي لنفسك رحمة، أفلا تريدها لأولادك؟». ولعلّ في هذا ـ وغيره ـ شيئاً من الاحترام (من جميع التّوجّهات الفكريّة) والوفاء لـ «آرصوي».. شاعر الوطن والوطنيّة.