بحوث
بقلم |
لسعد سليم |
الكبائر في القرآن الكريم(2) عدم الإحسان بالوالدين، وأكل مال اليتيم |
تطرّقنا في الجزء الأول(1) إلى الكبائر الثّلاث: الشّرك باللّه، وقتل النّفس، والفواحش، التي وعد اللّه سبحانه وتعالى مقترفها بالخلود في العذاب، وذلك منذ السّنة الثّالثة من بعثة الرّسول ﷺ (سورة الفرقان): ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(الفرقان:68-70).
ثم نزلت سورة الأسراء ومن بعدها سورة الأنعام(2)، ليؤكّد اللّه جلّ جلاله على هذه الكبائر الثّلاث: «الشّرك باللّه، وقتل النّفس، والفواحش» مع إضافة أربع كبائر أخرى لأوّل مرّة، وهي: «عدم الإحسان بالوالدين، وأكل مال اليتيم، وعدم توفية الكيل وَالْمِيزَانَ، وعدم الوفاء بالعهد» وذلك بصيغة القضاء في سورة الأسراء وبصيغة التّحريم في سورة الأنعام :
* ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا* رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا* وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا* وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا * وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا*وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا * وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾(الأسراء:23-35)
* ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(الأنعام:151-152)
عدم الإحسان بالوالدين
تكرّر الأمر بالإحسان للوالدين في عدّة سور وبمختلف صيغ الأمر: القضاء، والتّحريم، والوصيّة منذ السّنوات الأولى من البعثة إلى آخر سورة مكّية (العنكبوت)، وقد قرن اللّه سبحانه الأمر بتوحيده وعدم الشّرك به بالإحسان للوالدين في إشارة واضحة لعظمة هذه الكبيرة.
فالإحسان بالوالدين مع تجريم الزّنا/العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزّواج، أساس لقدسيّة العائلة (الرّحم) وهو في نفس الوقت تعليم (عملي) للأبناء، حتّى يحسنوا لآبائهم عند كبرهم.
والإحسان هو الزّيادة (في الحسن) على المعاملة بالمثل (المعروف)، فلو وقع تقصير من الوالدين فلا يجوز معاملتهما بالمثل، بل أمر اللّه بالتّجاوز عن هذا التّقصير، وذلك حرصا على سلامة المنظومة العائليّة التي هي أساس سلامة المجتمع.
في هذا الإطار يأمر اللّه سبحانه بصحبة الوالدين حتّى لو كانا مشركين (تعدّد الآلهة). فهذا الاستثناء (المشرك لا يصاحب ولا يتزوّج منه ولا يأكل طعامه إلخ...) يحافظ على الرّابط العائلي حتّى في أسوإ الأحوال، فصحبة الوالدين هي أساس تنمية الأبناء وتراكم الخبرات عبر الأجيال، ذلك لأنّ الوالدين أحرص النّاس على مصلحة أبنائهما. فاللّه لم يأمر الوالدين برعاية أبنائهما لأنّها غريزة، وهما الوحيدان اللّذان يعطيان أبناءهما بدون مقابل(فهما يشتركان مع اللّه عزّ وجل في هذا الأمر، وهذه إشارة لاقتران التّوحيد بالإحسان للوالدين).
و يتجلّى هذا الأمر في عديد من السّور المكّية، حسب التّرتيل (ترتيب النّزول):
*﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾(الأسراء:23-25)
*﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(الأنعام:151)
*﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(لقمان:14-15)
* ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(الأحقاف:15)
*﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(العنكبوت:8)
وتواصل الآيات المدنيّة خلال السّنوات الأولى من الهجرة الحثّ على تجنّب كبيرة عدم الإحسان للوالدين، مبيّنة أنّها من المواثيق التي أخذها اللّه سبحانه وتعالى من بني إسرائيل، أيّ أنّها أساس الدّين وبالتّالي النّهضة/الحضارة، مع الأمر بجعل الأولويّة في الإنفاق والوصيّة للوالدين:
* ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُـوا لِلنَّاسِ حُسْنًـا وَأَقِيمُوا الصَّـلَاةَ وَآتُوا الزَّكَــاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيــلًا مِّنكُـمْ وَأَنتُـم مُّعْرِضُونَ﴾(البقرة:83)
* ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:180)
* ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾(البقرة:215)
* ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾(النّساء:36)
فالإحسان للوالدين (مع تجريم الفواحش) ركيزة من ركائز سلامة منظومة العائلة والتي عاضدتها حدود اللّه(3) المتعلقة بالطّلاق والميراث التي نزلت في السّور المدنيّة.
أكل مال اليتيم
كما تقدّم ذكره، أمر اللّه جلّ جلاله بعدم القرب من مال اليتيم (إلاّ بالتي هي أحسن) في سورة الأسراء ثمّ في سورة الأنعام:
* ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ..... وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾(الإسراء:34)
* ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ... * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(الأنعام:152)
وفي المدينة تنزل الآيات في أوّل سورة (البقرة) يأمر اللّه فيها عزّ وجلّ بالإحسان إلى اليتامى والإنفاق عليهم:
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ﴾(البقرة:83)
*﴿لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِب وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلْكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّنَ وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُوا وَٱلصَّٰبِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ﴾(البقرة:177)
* ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾(البقرة:215)
ثمّ يأمر عزّ وجلّ، في أول آيات سورة النّساء، بترك مال اليتيم على حدة وعدم خلطه بمال الكفيل (حتّى ولو لغرض تنميته) مع وجوب الاستعفاف في حالة الغنى، وفي هذا إشارة للمجموعة بتتبّع (محاسبة) كفالة اليتيم وسنّ القوانين اللاّزمة للغرض:
*﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا* وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾(النّساء:1-2)
*﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾(النّساء:6)
*﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾(النّساء:10)
فالطّفل اليتيم هو رجل المستقبل، وأكل ماله في صغره (ضعفه) يولد عنده نقمة تجاه الكفيل، الذي يكون في أغلب الأحوال قريبه، فيقطع صلة الرّحم به، عوض التّآزر والتّراحم الذي هو غرض كفالة اليتيم في الأصل.
وعلى هذا الأساس أباح اللّه تعدّد الزّوجات، وجعل القسط في اليتامى (مع العدل) شرطا لذلك:
* ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا﴾(النّساء:3)
وهذا الحثّ على الزّواج بأمّ اليتيم (الأرملة) يرفع كفيل اليتيم إلى درجة الأبوّة، وما يترتّب عنها من حفظ أكبر لحقّ اليتيم (لكن في نفس الوقت، يفتح لزوج الأمّ باب التّساهل في الإنفاق من هذا المال بدعوى تحمّل المسؤوليّة مع القرابة، لذلك جاءت شدّة تحريم أكل ماله إلاّ للضّرورة التي بيّنها اللّه، وهي الأكل بالمعروف وفي حالة الفقر فقط، فلا يتاجر بماله ولا يستدان منه ألخ...)، كما يتيح هذا الزّواج لليتيم العيش في كنف أسري من جديد ويخفّف من حدّة فقدان الأب، ظاهرة تساعد المجتمع على مواجهة تبعات الفتوحات وما يترتّب عنها من خسائر في الأرواح.
لكن للأسف الشّديد وقع التّغاضي في موروثنا الفقهي عن «القسط في اليتامى» كشرط للزّواج الثّاني والثّالث والرّابع كما ورد في الآية (يلاحظ هنا دقّة التّعبير، فـ «المثنى» أوّل ما ذكر وبالتّالي لا يدخل شرط الأرملة في الزّواج الأول)، وصار تعدّد الزّوجات بلا قيد أو شرط، وبلغ الأمر حتّى تحريف الآية الكريمة فاشتهرت بـ «وانكحوا ما طاب لكم من النّساء....» وغاب اليتيم عن المشهد كلّيّا، بالرّغم من ذكر اليتيم/اليتامى 8 مرّات في سورة النّساء وحدها (من مجموع 23 مرّة في القرآن الكريم، أي الثّلث) ناهيك عن الأمر بإكرام اليتيم وعدم قهره في أوّل ما نزل من القرآن:
* ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾(الفجر:16-17)
* ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾(الضحى:9-11)
* ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾(البلد:11-15)
* ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾(الماعون:1-2)
فلا عجب أنّ الغرب قد أدرك عند نهوضه أهمّية العناية باليتيم، فقام بسنّ القوانين اللاّزمة لذلك مع تحسيس المجتمع لأهمّية هذا الأمر عن طريق الأدوات المتاحة آنذاك، خاصّة الرّوايات (من أشهرها «البؤساء» و«شارل ديكنز»).
نواصل بحول اللّه في العدد القادم التّطرّق إلى كبيرتي «عدم توفية الكيل وَالْمِيزَانَ، و«عدم الوفاء بالعهد».
الهوامش
(1) انظر مقالنا : «الكبائر في القرآن الكريم، الجزء الأول: الشّرك بالله/قتل النّفس/الفواحش»، مجلة الإصلاح العدد 206، صص 90-98
(2) انظر ترتيب نزول السّور كما ورد في كتاب «التّفسير الحديث» بإذن من مشيخة المقارىء المصريّة والذي يطابق في أغلبه ما أشار إليه الشّيخ الطاهر بن عاشور في «التّحرير و التّنوير»
(3) انظر مقالنا : «حدود الله في القرآن الكريم» مجلة الإصلاح عدد 189
|