الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
مفهوما الليّل والنّهار في القرآن (8) غِشيان اللّيل النّهارَ ج2 والأخير
 رأينا في العدد الأخير من المجلّة في الجزء الأول من المقال المعنون: «غِشيان اللّيل النّهارَ»، أنّ الالتزام بالمعنى الأكثر احتمالا للجذر (غشي)، وبما يسمح به اللّسان العربي من معان للجمل القرآنيّة، وبمفهوم النّهار القرآني (توفّر شرطي الشّمس وغازي الأكسجين والنّيتروجين بكثافة محدّدة)، أمكننا من قراءة علميّة لغِشيان اللّيلِ للشّمس والنّهار باستخدام فرضيّة أنّ القرآن يستعمل مفهوما للّيل يتضمّن كلَّ الظّلام الأرضي أي الظّلام الموجود في الحيز الفضائي الخاضع لجاذبيتها الثّقاليّة والنّاتج عن عدم توفّر أحد عنصري النّهار أو كليهما. سنواصل تناول الجملة ﴿يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ من الآية 53 من سورة الأعراف، لنركّز على الدّلالة العلميّة لكلّ مسألة من المسألتين التّاليتين: عدم ذكر غِشيان النّهارَ للّيل وكيفيّة طلب اللّيل النّهار طلبا حثيثا.
1. عدم ذكر غشيان النّهارَ للّيل
إنّ ما ذهبنا اليه يعطي إجابة علميّة للسّؤال الذي طرحه مفسّرون كثر والمتعلّق بمسألة عدم ذكر اللّه غشيان النّهارِ للّيل. فالإمام الطّبراني قدّم للسّؤال الإجابة التّالية: «قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ﴾؛ أي يُغْشِي بظلمةِ اللّيلِ ضوءَ النَّهارِ، ولم يقل: ويُغْشِي النّهارَ اللّيلَ؛ لأنَّ الكلامَ دليلٌ عليه، وقد بَيَّنَ في آيةٍ أخرى فقالَ: عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يُكَوِّرُ ٱللَّيْلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ﴾ (الزمر: 5)»(1) . 
وهذا ما قاله بن عاشور في نفس الموضوع: «ومن بديع الإيجاز ورشاقة التّركيب جعل اللّيل والنّهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي، ولهذا استغنى بقوله ﴿يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ﴾ عن ذكر عكسه ولم يقل والنّهار اللّيل، كما في آية ﴿يُكَوِّرُ ٱللَّيْلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ﴾، لكنّ الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّلُ هو الفاعل في المعنى، ويجوز العكس إذا أمِن اللّبس، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان»(2).   
أمّا الطّبرسي فله إجابة أخرى إذ قال: «ولم يقل يغشي النّهار اللّيل كما قال ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾(النحل: 81) ولم يقل تقيكم البرد للعلم بذلك من الفحوى»(3)، وهو ما ذهب اليه أيضا الشّوكاني بقوله: « ولم يذكر في هذه الآية يغشي اللّيل بالنّهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله تعالى ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾»(4). 
ورأينا فيما قيل هو التّالي: بالنّسبة للذين يستشهدون بالآية 5 من سورة الزّمر التي تشير الى تكوير اللّيل على النّهار والعكس، فهم ينطلقون من أنّ كلاّ من اللّيل والنّهار يصلح أن يكون غاشياً ومغشياً وهذا لا يمكن، ففي الطّبيعة اللّيل غاش كما رأينا، أمّا مغشيا فلا وجود لذلك. ولذلك فإنّ ما جاء في قول بن عاشور في شكل استدراك حيث قال: «الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّلُ هو الفاعل في المعنى» هو الأجدر بالبناء عليه للقول بأنّ اللّيل هو فاعل الغشيان كما سبق وأن بيّنا. 
أمّا أولئك الذين يعتمدون على الآية 81 من سورة النّحل، ويفسّرون عدم ذكر هذه الآية يغشي اللّيل بالنّهار بالاكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر للعلم بذلك من الفحوى، فنرى أنّه استسهال في التّعامل مع الآيات القرآنيّة، يوحي بالرّغبة في التّفسير الكامل للقرآن أكثر من الحرص على الاقتراب أكثر ما يمكن من مراد الآيات، وهذا منهج يجب تفاديه، وخطورته تتعلّق خاصّة بالآيات التي تشير الى ظواهر طبيعيّة من مشمولات المنهج العلمي الحديث. فالمعارف العلميّة قادرة على نسف أيّ تفسير لا يتوافق معها بسهولة لا توصف. إنّ النّهار يغطّي اللّيل ولا يغشيه، والدّليل بسيط: إنّ ضياء النّهار هو الذي يمنع رؤية ظلام الأرض (اللّيل بالمفهوم القرآني كما افترضنا) الذي يعلوه والذي يمتدّ فوقه الى ارتفاع مئات الكيلومترات. 
2. اللّيلُ يغشي النّهارَ يطلبه حثيثا
توصّلنا إذا الى أنّ اللّيل هو الذي يغشي النّهارَ، فما دلالة الجملة ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾(5) وهل لهذا الطّلب الحثيث حقيقة طبيعيّة؟.
يشتق اللّفظ «يطلبه» الوارد في الآية 54 من سورة الأعراف من «الكلمة: طَلَبَ يَطْلُبُ. الجذر: طلب. الوزن: فَعَلَ/يَفْعُلُ»(6). ويعود أقدم استعمال موثق لكلمة مشتقّة من الجذر (طلب) الى السّنة 150 قبل الهجرة  أي 476 م، في بيت شعر لخمعة بنت الخسّ تقول فيه: يفرّ الفَتى وَالموتُ يطلب نفسه * سَيدركه لا شكّ يوماً فيجهزُ»(7). فما هو معنى الجذر طلب؟ 
في معجم العين: « طلب: الطَّلَبُ: مُحاولةُ وجدانِ الشَّيء. والطِّلبة: ما كان لك عندَ آخَر من حقٍّ تُطالِبهُ به. والمُطالَبةُ: أن تُطالبَ إنسانًا بحقٍّ لك عنده، ولا تزال تُطالبه وتتقاضاه بذلك»(8). وفي تهذيب اللّغة عن اللّيث: « الطلَبُ: محاولةُ وِجدانِ الشيء وأخذه»(9) وهو ما نجده حرفيّا في تاج العروس ولسان العرب والمحيط في اللّغة. وعن الجذر (طَلَبَ) يقول بن فارس: «الطَّاءُ وَاللَّامُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى ابْتِغَاءِ الشَّيْءِ»(10). 
فطلب الشّيء هو محاولة من الطّالب وجدان حقّ له عند آخر وأخذه. هذا عن الطّلب، فماذا عن الكلمة حثيثا؟، «قال اللّيث: الحَثّ: الإعجال في الاتّصال والحِثّيثَى الاسم نفسه. قال والحُثحوث: السّريع، يقال: حثحِثوا ذلك الأمر أي حركوه»(11). وفي اللّسان: «حثث: الحَثُّ: الإِعْجالُ فِي اتِّصالٍ؛ وَقِيلَ: هَوَ الاستعجالُ مَا كَانَ. حَثَّهُ يَحُثُّهُ حَثًّا. وَرَجُلٌ حَثيثٌ ومَحْثُوثٌ: جادٌّ سَريعٌ فِي أَمره كأَنَّ نَفْسَه تَحُثُّه»(12). والحث: الإعْجَالُ والسُّرْعَةُ، والحَمْلُ على فِعْلِ شَيءٍ كالحضِّ عليه فالحثُّ والحضُّ أخوانِ، يقال: حَثَثْتُ فُلاناً فاحْتثَّ فهو حَثِيثٌ ومَحْثُوثٌ»(13). 
وقبل تقديم رأينا في دلالة الجملة ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾، دعنا نلقي نظرة سريعة على بعض التّفاسير. نبدأ بما قاله الطّبري حيث ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ عنده تعني: «يطلب اللّيل النّهار سريعاً»(14). أمّا الطّبراني فكتب في شأنها: «يَطْلُبُ سوادُ اللّيلِ ضوءَ النَّهار سريعاً؛ حتى يَغْلِبَ بسوادهِ بياضَهُ وَالْحَثُّ: السّريعُ في السَّوْقِ من غيرِ فُتُورٍ»(15). وعند القرطبي: «﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ حال من اللّيل أي يغشي اللّيل النّهار طالباً له. ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة ليست بحال. «حَثِيثاً» بدل من طالب المقدّر أو نعت له، أو نعت لمصدر محذوف أي يطلبه طلباً سريعاً. والحثّ: الإعجال والسّرعة. ووَلَّى حثِيثاً أي مسرعا»(16). ًوعن البيضاوي: « ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ يعقبه سريعاً كالطّالب له لا يفصل بينهما شيء، والحثيث فعيل من الحثّ وهو صفة مصدر محذوف أو حال من الفاعل بمعنى حاثاً، أو المفعول بمعنى محثوثاً»(17).
وبناء على ما تقدّم يمكن أن يفهم من الجملة ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ أنّ اللّيل محمول على الطّلب من النّهار، وبحركة سريعة لا تفتر، ما يمكن اعتباره على وجه المجاز حقّا له عنده ليأخذه. فماذا يحاول اللّيل أخذه من النّهار؟ وهل يمكن اعتبار ذلك حقّا للّيل عند النّهار يبتغيه؟ وما الذي يحمله على ذلك الطّلب؟
يتضمّن لفظ النّهار في أصل الوضع معنى الضّياء أساسا. وقد جاء اللّفظ في القرآن بهذا المعنى بل وأكّده حين استعمل لفظ الضّحى للتّعبير عن النّهار وهو أكمل فتراته في الضّياء. كما أعطى القرآن تفسيرا للنّهار حين أضاف ضياءه إلى الشّمس وإلى الغلاف الغازي، وهو ما يتقاطع مع التّفسير العلمي له. ويعتبر الضّياء الأرضي (النّهار) ظاهرة متأخّرة عن تشكّل الأرض بمئات الملايين من السّنين لأنّه ظهر عندما تغيّرت تركيبة الغلاف الغازي من غازات لا تشتّت الضّوء المرئي المنبعث من الشّمس الى غازي الأكسجين والنّيتروجين الموجودين الآن، وصار الفضاء شفّافا، وهو ما تشير اليه آية إخراج الضّحى كما سبق وأن بيّنا(18). 
لا يمثل الضّياء الاّ طبقة رقيقة محاطة بالظّلام الأرضي، ولا يوجد الاّ في النّصف الأرضي المواجه للشّمس. إنّ الضّياء الأرضي (النّهار) طارئ بالنّسبة للظّلام وقد ظهر في حيز فضائي كان مظلما أي لم تكن فوتونات الضّوء المرئي قادرة على التّبعثر والانتشار في كلّ الاتجاهات في ذلك الحيز الفضائي. كان الغلاف الغازي ومنذ تشكّله يدور مع الأرض باعتباره مكوّنا من مكوّناتها، وكان مظلما أي لا وجود لعمليّة التّبعثر التي تعطي ضياء النّهار. وعندما خرج النّهار فقد الظّلام جزءا من الحيز الفضائي الذي كان يشغله، ولكن دوران الأرض حول نفسها جعله يسترد ذلك الحيز الفضائي وكأنّه حقّ له عند النّهار. 
لقد كان اللّيل يطلب النّهار بالمعنى الحقيقي للكلمة. فخسارة الظّلام لجزء من الفضاء لحساب النّهار لم تمنعه من أن يجدّ في أخذه، وما يحمله على ذلك فهو دوران الأرض حول نفسها بمتوسّط سرعة يقدّر بـ 1670 كم/س وهي سرعة عالية قياسا بالسّرعات التي تعوّد عليها الإنسان طيلة آلاف السّنين، وحتّى قياسا بالسّرعات التي تتحرّك بها وسائل نقله الحديثة. فالأرض عندما تدور يدور معها الغاز الذي يملأ الفضاء حولها ومن دورانه يتحقّق للظّلام ما يطلبه حيث يصبح الفضاء الذي كان مضيئا مظلما في عمليّة أطلق عليها القرآن اسم «السّلخ» وهو ما تناولناه في حلقة سابقة بالعدد 205 من المجلة. إنّ عمليّة استرداد الظّلام من النّهار للحيز الفضائي الذي تعود اليه ملكيّته، عند الانتقال من النّهار الى اللّيل، يسمّيها القرآن بـ «الطّلب الحثيث»، ويخبر في آية السّلخ عن الآليّة التي يسترجع بها الظّلام ما أخذ منه. 
3. خاتمة
كان الظّلام الأرضي أي الظّلام السّائد في الحيز الفضائي الخاضع لحقل الجاذبيّة الأرضيّة يحيط بالأرض قبل أن يخرج النّهار. وعندما خرج ضياء النّهار من سجن الكثافة العالية التي كان عليها الغلاف الغازي بقي الظّلام محيطا بالأرض من كلّ اتجاه. افترضنا في بحثنا أنّ القرآن يسمّي ذلك الظّلام ليلا ووضّحنا ما دعانا الى ذلك. وقد مكننا ذلك الافتراض من فهم العديد من الآيات ومن ضمنها الآية موضوع هذا المقال. فظلام الأرض (ليل) يغشي النّهار منذ خروجه الى يومنا هذا بلا انقطاع، بل ويعمل باستمرار وبسرعة لا تفتر على أخذ الحيز الفضائي الذي كان مظلما والذي شغله النّهار بعد أن لم يكن، وهو محمول على ذلك بتأثير دوران الأرض حول نفسها. 
الهوامش
(1) تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف ومدقق
(2) تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف ومدقق
(3) تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) مصنف ومدقق
(4) تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف ومدقق
(5) إِنَّ رَبَّكُمُ اُللَّهُ اُلذِے خَلَقَ اَلسَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ فِے سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ اَسْتَوَيٰ عَلَي اَلْعَرْشِ يُغْشِے اِليْلَ اَلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاٗ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِ بِأَمْرهِ أَلَا لَهُ اُلْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَٰرَكَ اَللَّهُ رَبُّ اُلْعَٰلَمِينَ (53)
(6)  شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
(7)  معجم الدّوحة التّاريخي للّغة العربيّة https://www.dohadictionary.org/dictionary
(8)  معجم العين (طلب) العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م
(9)  تهذيب اللّغة (طلب) تهذيب اللغة-أبو منصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
(10) مقاييس اللّغة (طلب) مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
(11) تهذيب اللّغة (حث) تهذيب اللغة-أبو منصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م 
(12)  لسان العرب (حثث) لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
(13) تفسير اللّباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف ومدقق
(14) تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف ومدقق
(15) تفسير التّفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق
(16) تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف ومدقق
(17)  تفسير أنوار التّنزيل وأسرار التّأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف ومدقق
(18)  راجع مقالنا بالعدد 204 من مجلة الإصلاح، جويلية 2024 ، من الصفحة 50 إلى الصفحة 54.
(19) راجع مقالنا بالعدد 205 من مجلة الإصلاح، أوت 2024 ، من الصفحة 58 إلى الصفحة 65.