رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
السنوار.. على خطى القسَّام
 يبدو أنّ الصّهاينة لا يفهمون (ولا يريدون أن يفهموا) حركة التّاريخ، ولا يستوعبون سنن اللّه في الكون والأمم والجماعات.
أَنْ تقتل قائدا أو رمزا لحركة عقائديّة، متجذّرة وسط شعبها وأمّتها، وفي بيئتها الاستراتيجيّة، وهو مقبلٌ غير مدبر، مقاتلٌ في الميدان وفي الصّف الأول، باذلا روحه ودمه حتّى آخر قطرة، فإنّك أحببت أم كرهت، شئت أم أبيت، ستضع مسمارا في نعشك..!! فهذه ليست فقط الشّهادة التي يتمنّاها، وليست فقط مَعْبَره إلى أعلى درجات الجنّة، وإنّما أيضا شهادة المصداقيّة والثّقة بفكرته وحركته ومنهجه وسط شعبه وأمّته، ومصدر الاحترام والتّقدير والإلهام لأحرار العالم.
صحيح أنّ الصّهاينة زرعوا مشروعهم في قلب أمّة منكوبة بزعمائها وقادتها وأنظمتها السّياسيّة، وموبوءة بالتّخلّف والتّشرذم والضّعف، وتعاني من «الغثائيّة» ومن الوهن (حبّ الدّنيا وكراهيّة الموت).. لكن «الخيريّة» ما زالت فيها، وما زالت في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس (وبلاد الشّام بشكل عام) تلك الطّائفة المنصورة الثّابتة على الحقّ، التي لا يضرّها من خذلها ولا من خالفها. لم يفهم الصّهاينة أنّهم «وقعوا» في بيئة حضاريّة عريقة حَيَّة تملك مقومات الصّمود والنّهوض، بل وريادة الإنسانيّة من جديد؛ وأنّ المذابح والمجازر الوحشيّة وقوافل الشّهداء ليست عوامل تطويع وتركيع لأبناء فلسطين والأمّة، وإنّما هي عناصر إلهام وتحفيز للمواجهة، ولتوسيع دائرة المقاومة، وتعزيز دوافع التّثوير والتّغيير والنّهضة في البيئات العربيّة والإسلاميّة.
هنا (فلسطين وبلاد الشّام) أرض تكفّل اللّه لرسوله ﷺ بها وبأهلها، وهناعقيدة تكفّل اللّه بحفظها، وهنا شعوب تستعصي على الاستئصال والذّوبان، وهنا هويّة للأرض والإنسان تأبى التّزوير والتّشويه والنّسيان.. وهنا «وعد اللّه»، فليوفّر الصّهاينة جهودهم وأموالهم وأسلحتهم ومكرهم ونفوذهم «وخيلهم ورجلهم».. لأنّها ستكون «عليهم حسرة ثمّ يغلبون»؛ ومهما كانت موجة عُلُوِّهم فإنّ مصيرها «التّتبير».
السّنوار شهيدا
يحيى السّنوار (أبو إبراهيم) رئيس حركة حماس وقائد معركة طوفان الأقصى، قدَّر اللّه له شهادة يُتوّج بها جهاده، وتكون ضربة للاحتلال الإسرائيلي وإعلامه ودعايته، فكانت صوره الأولى المتداولة على أيدي جنود صهاينة لا يعرفون شخصيّته؛ ولم يتم التّعرّف عليه إلاّ بعد إتمام الفحوص المخبريّة والجينيّة، وبعد مضي يوم على استشهاده. وهو ما فوَّت على قيادة الاحتلال فرصة صناعة صورة كاذبة عن السّنوار وطريقة استشهاده، وهو سلوك غير مستغرب على الدّعاية الصّهيونيّة.
لم يكن ثمّة «شطارة» أو كفاءة مُتميّزة للاحتلال، فلم يكن استشهاد السّنوار رحمه اللّه نتيجة معلومات استخباريّة، ولا باقتحام لقوّات خاصّة، ولا بعمليّة اغتيال، ولا باختراق لنفق، ولا باستنقاذ لأسرى صهاينة، ولا بعمليّة مطاردة، ولم يكن محاطا بـ «دروع بشريّة».
لقد استشهد «المطلوب الأوّل في العالم»، في أحد أخطر أماكن التّواجد والمواجهة في العالم في حيّ تل السّلطان في رفح، وهو يقاتل بما لديه من سلاحٍ يدوي محدود قوةَ مشاةٍ متفوّقة في سلاح الدّبابات وغيره.. أصيب إصابة بالغة في يده، لكنّه ألقى على جنود الاحتلال قنبلتين يدويتين.. وحتّى في لحظاته الأخيرة، وعندما لم يتوفّر لديه إلاّ عصا رماها بتحدٍّ وعزّةٍ وشموخ على الطّائرة المسيَّرة التي صوّرته وحدّدت مكانه، قبل أن تُطلق عليه قذائف دبّابات أدّت لاستشهاده. وعندما جاءت قوّة صهيونيّة لتمشيط المكان صوّرته وهو لابسٌ جعبته العسكريّة وشريط الرّصاص على صدره. ولم يعد ينفع بعد ذلك أن تنشر صور أو مقاطع فيديو أخرى، بعد نزع جعبته، لتخفيف الحالة التي ارتقى فيها.
وهكذا مضى السّنوار على خُطى الشّيخ عز الدّين القسّام (قائد حركة الجهاديّة الذي استشهد في ميدان المعركة في سنة 1935)، ليجدّد تلك الحالات النّادرة في التّاريخ، التي يستشهد فيها القادة الكبار وزعماء حركات التّحرّر والنّهضة في ميدان المواجهة العسكريّة مع العدوّ.
بين السّريّة والدّيناميّة
السّنوار الذي قاد معركة طوفان الأقصى بكفاءة استثنائيّة على مدى 376 يوما (7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حتّى 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2024) وهو تحت المطاردة الإسرائيليّة والعالميّة في مساحة جغرافيّة صغيرة، وبيئة عمل تكاد تكون مستحيلة، تمكَّن من المحافظة على منظومة تحكُّم وسيطرة سرِّية فعالة، ومن التّواصل مع كتائب القسام، وتزويدها بالسّلاح، وإعادة تموضعها، وإعادة تأهيلها وتفعيلها بعد عمليّات المجابهة الواسعة والمستمرّة واستشهاد الكثير من قادتها وكوادرها، وإعادة السّيطرة السّريعة على المناطق التي ينسحب منها الاحتلال، ومتابعة تنفيذ العمليّات العسكريّة النّوعيّة التي تهزّ الاحتلال بقوّة وكفاءة اليوم الأول في المعركة، كما في كفاءة اليوم المئتين، كما في اليوم 376، كما في كفاءة كلّ الأيام.
وبالرّغم من أنّ السّنوار حافظ على قدر كبير من السّريّة، واتخذ مجموعة من الإجراءات الأمنيّة مكَّنته من الاستمرار في العمل، بعيدا عن كافة محاولات الاحتلال وحلفائه الوصول إليه؛ إلاّ أنّ السّنوار كما يُنقَلُ عن بعض عارفيه، كان ذا طبيعة ديناميّة عالية، ولم يكن من النّوع الذي يستقرّ في مكان واحد أو في نفق منعزل؛ ولكنّه (وحتّى بمخالفة نصائح رفاقه ومرافقيه) كان يُصرُّ على الذّهاب بين فترة وأخرى إلى «العقد القتاليّة» أو أماكن تموضع كتائب القسّام ليتفقّدها، ويرفع معنويّاتها ويوجّهها، بل إنّه كان يتعمد عندما تسنح الفرصة أن يشارك في القتال المباشر في مواجهة قوّات الاحتلال؛ ولعلّ هذا يُفسِّر ما حدث معه يوم استشهاده رحمه اللّه.
حماس ما بعد السّنوار
لقي السّنوار الشّهادة التي يتمنّاها والتي تليق به كقائد ورمز كبير، والتي تليق بحركته المجاهدة، كما تليق أيضا بطبيعته الشّخصيّة. كانت خسارة حماس كبيرة باستشهاد السّنوار، فهو رئيس مكتبها السّياسي، وقائدها التّنظيمي والميداني في قطاع غزّة، وهو شخصيّة قياديّة مميّزة تجمع في طبيعتها (كما ينقل عارفوه وكما تشهد تجربته) العابد الزّاهد، والقويّ الأمين الحازم، والدّيناميّة العمليّة والقدرة على الحسم واتخاذ القرار، والخبرة الأمنيّة والعسكريّة، والبساطة والتّواضع والعيش مع النّاس وهموهم.
من ناحية ثانية، فإنّ حماس حركة عقائديّة رساليّة، لا يزيدها استشهاد قياداتها إلاّ صلابة وقوّة، ويعطيها المزيد من المصداقيّة والثّقة الشّعبيّة بمنهجها ومساراتها، وهي تنمو وتكبر بتضحياتها ودماء شهدائها. حماس فكرة.. والفكرة تنبعث فيها الحياة وتتألق عندما تجد من يُضحّي لأجلها. ولحماس تجربة طويلة في مسيرة الصّعود بعد ارتقاء قياداتها أمثال الشّيخ احمد ياسين وعبد العزيز الرّنتيسي وإسماعيل هنيّة وغيرهم كثير. كما أنّ عمليّة الاغتيال لا تؤدّي إلى تغيير هويّة حماس ومنهجها وثوابتها، وهو ما أثبتته كلّ محاولات السّحق والتّدمير والمطاردة والسّجن والحصار والتّضييق والتّهميش منذ إنشائها، وعلى مدى الـ37 عاما الماضية.
وحماس، شبَّت عن الطَّوق، ولديها مئات الآلاف من الكوادر والأنصار في داخل فلسطين وخارجها، وهي تتصدّر العمل العسكري المقاوم، كما تتصدّر استطلاعات الرّأي في الشّعب الفلسطيني، ولديها حاضنة شعبيّة واسعة في العالم العربي والإسلامي، لا يحظى بها أيّ زعيم أو حركة أو حزب في المنطقة. ولديها حظٌّ وافر من القيادات التي أثبتت قدرتها وكفاءتها في استلام الرّاية ومتابعة المسيرة ومراكمة الإنجازات. ولذلك فإن ّحديث نتنياهو عن سحق حماس أو استسلامها ليس إلاّ نوعا من الهذيان أو أحلام اليقظة!!
من ناحية ثالثة، فإنّ لحماس بيئة تنظيميّة قويّة متماسكة، تعتمد الشّورى والتّصعيد القيادي، وتجري انتخاباتها كلّ أربع سنوات، ولا يرتبط أداؤها وفعاليتها بشخصٍ واحد مهما كانت رمزيته. ولذلك، فمن الطّبيعي أن تتمكّن من ترتيب أوراقها وأن تُفرز قياداتها من خلال بنيتها المؤسّسيّة الفعّالة.
ومن ناحية رابعة، فإنّ الإعلام الإسرائيلي والأمريكي والغربي سعى بعد استشهاد السّنوار إلى ملء الأجواء بالحديث عن إمكانيّة وقف الحرب وإطلاق أسرى الصّهاينة، وفق الشّروط الإسرائيليّة التي تفترض احتلال قطاع غزّة، وشطب حماس، وفرض التّصوّر الإسرائيلي لحكم القطاع؛ مع محاولة تسويق ذلك بالحديث المبهم عن حلّ الدّولتين، والادّعاء بأنّ السّنوار كان هو «العقبة» أمام مسار «السّلام» والتّسوية. وأمريكا وحلفاؤها والعالم الغربي يعلمون قبل غيرهم أنّ دولة الاحتلال هي التي قتلت مسار التّسوية، وهي التي دمّرت حلّ الدّولتين، وأنّ هذا المسار أخذ فرصة تزيد عن ثلاثين عاما، أدّت لنتائج كارثيّة على القضيّة الفلسطينيّة. ويدرك الجميع أنّ الذي عطّل تحقيق صفقة تنهي الحرب على غزّة هو نتنياهو الذي أفشل المفاوضات عدّة مرّات وأفشل حتّى المشاريع التي اقترحها الرّئيس الأمريكي نفسه.
وما يجب أن يعلمه الجميع أنّ استشهاد السّنوار لا يفتح المجال لفرض الشّروط على حماس، فحماس نهج وفكرة ومسار مقاومة يلتف حوله الشّعب الفلسطيني، والعرب والمسلمون وأحرار العالم. وإن استشهاد السّنوار لم يزد قادتها إلاّ اقتناعا بمنهجه ومساره، كما زاد من عناصر التّثوير والرّغبة في تصعيد التّحدي، والانتقام للشّهيد ولكلّ الشّهداء. ولذلك، ستستمر حماس في المقاومة، وفي الإصرار على شروطها في وقف الحرب على غزّة، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع، وعمل صفقة تبادل أسرى مُشرِّفة، ورفع الحصار وإعادة إعمار القطاع، وعودة المهجَّرين.