نحو أفق جديد
بقلم |
أ.د.عبدالجبار الرفاعي |
في الفلسفة كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده |
الدّهشة بصيرة الفلاسفة، يندهش الفيلسوفُ بالأشياء التي تحسّها هامشيّةً وبسيطة وعابرة، ليغوص فيها ولا يخرج منها إلاّ بأسئلةٍ مجهولة وإجابات ذكيّة. تنبعث الفلسفةُ لحظةَ إيقاظ العقل وانبعاثِ الأسئلةِ العميقة في الوعي. الإنسان الذي يندهش، وينقد، ويتأمّل، ويتساءل أسئلةً كبرى، لديه استعداد لأن يكون فيلسوفًا. لا معنى للفلسفة من دون الأسئلة الكبرى والنّقد العميق، الفيلسوف يمارس النّقد العقلي بلا قيود وحدود، تتوالد أسئلتُه في سياق النّقد، كما يتوالد نقده في سياق أسئلته. يلبث الفيلسوفُ يفكّر في جواب لا ينتهي إليه إلاّ بعد تأمّل، وتمحيص، ونقض الإجابات المتهافتة المختلفة. النّقد بوابةُ الدّخول للتّفكير الفلسفي، نشر فيلسوفُ الأنوار كانط أعمالَه الأساسيّة، وهو يصدّرها بكلمة نقد: «نقد العقل الخالص»(1781)، و«نقد العقل العملي»(1788)، و«نقد ملكة الحكم»(1790)، على التوالي، وخلص من هذه الأسفار العقلية الصبورة إلى نشر كتابه الثمين: «الدين في حدود العقل»(1793).
الفلسفةُ إيقاظٌ متواصل للعقل، وتحريرٌ له من تسلّط المعتقدات، والأيديولوجيّات، والهويّات، والخرافات، والأوهام، والسّلطات بأنماطها المتنوّعة. التّفكير الفلسفي يبدأ لحظة يتحرّر العقلُ من أنماط الوصايات المتنوّعة، والبداهات غير البديهيّة. تتجلّى قوّةُ العقل في معرفته لحدوده، وقدرته على التّفكير داخلَ فضائه، والخلاص من أوهامه، وممّا هو زائف من أحكامه. التّفكيرُ الفلسفي على الضدّ من الاعتقاد النّهائي المغلق، التّفكيرُ الفلسفي متحرّر من الحدود والقيود والشّروط والأسوار المغلقة.
كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده وتمحيصه، العقل نفسه يخضع لمساءلةِ العقل، وتمحيصِ مفاهيمه، وغربلةِ أحكامه، وطريقة تعريفه لنفسه، وتفسيره لحقيقة معرفته، ومصادرها، وقيمتها. لا يضع الحدودَ للعقل إلاّ العقلُ، العقل يرسم حدوده وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخّل ببيان حقيقةِ ما هو خارج حدوده. لا يصدق التّفكيرُ فلسفيًّا إلاّ لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، فيكون هو مرجعيّة تمحيصِ تفكيره، ومرجعيّة ما سواه، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقلُ ويكفُّ عن وظيفته، تدخلُ الرّوحُ والعاطفةُ في متاهات. العقل يريد ألاّ نستمع منه إلّا إلى صوته الخاصّ، من دون أن تشوّش عليه وتربكه وتنهكه أصواتٌ خارجَ حدوده. العقل يحكم بعدم إمكان أن يتخلّصَ الإنسانُ من تأثيرٍ خفيّ لذاته وعواطفه ومشاعره والمحيط الذي يعيش فيه بشكلٍ تام. العقل يحكم بوجود الدّين في الحياة ويحدّد مجالاته، ووجود المتخيّل ويحدّد مجالاته، والمثيولوجيات والأساطير ويحدّد مجالاتها، ويعلن بأنّها من الثّوابت الأبديَّة في الثّقافات البشريّة. العقل هو الذي يتولّى تصنيفَ هذه الموضوعات وتوصيفَها ويحكم عليها إثباتًا أو نفيًا، ويرسم خرائطَها ويضع حدودَها.
عمليّةُ التّفكير وظيفةُ العقل، العقلُ لا غير هو الحاكمُ على صوابِ أو خطأ نتائجِ أيِّ تفكير. لا العلم ولا اللاّهوت ولا الأدب ولا الفنّ يضع حدودًا للعقل، لا يضع الحدودَ للعقل إلاّ العقل، إن كانت للعقل حدود. أيةُ محاولةِ نفي للفلسفة تتضمّن التّدليلَ على حضورِ الفلسفة في النّفي مثلما تحضر في الإثبات. نفيُ الفلسفة ضربٌ من التّفلسف، حتّى الغزالي الذي حاول في «تهافت الفلاسفة» نفيَ الفلسفة أخفق،كما اعترف تلميذه أبو بكر ابن العربي بقوله: «شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقيأها فما استطاع». الفلسفةُ لا تموت ولن تموت مادام هناك إنسانٌ يتساءل الأسئلةَ الكبرى حول المبدأ والغاية والمصير، ولا يجد جوابًا نهائيًا لها.
الإنسانُ واحدٌ بالرّغم من أنّه متعدّد، متعدّدٌ بالرّغم من أنّه واحد. طبيعة الإنسان تتَّسع للوحدة والتّفاعل الحيوي للعاطفة والرّوح والعقل. هذه الوحدة أحيانًا يتغلّب فيها أحدُ العناصر ويتراجع دورُ العناصر الأخرى. في الفلسفة يتغلّب العقلُ ليصير هو المرجعيّة في الحكم والقرار، وبتغلُّبه يتحقّق التّفاعلُ الخلّاق بين العقل والرّوح والعاطفة. يضع العقلُ الرّوحَ والعاطفةَ في حدودهما، وهو الذي يصحّح المسارَ لهما على الدّوام. تنحسر مرجعيّةُ العقل في مجتمعاتٍ غير متعلّمة تتفشّى فيها العبوديّةُ الطّوعيّة، واستعبادُ الوعي، والانقيادُ الأعمى، وتخديرُ الضّمير الأخلاقي. العاطفة والرّوح تعملان بخفاءٍ للتّأثير في العقل، والتّحكّم بتفسيراته وصناعة أحكامه وقراراته. يعود سوءُ الفهم بين الفلاسفة وطرائق فهمهم إلى تأثير الذّات والعاطفة والرّوح في تفسيرات العقل وأحكامه، على الرّغم من أنّ الفلاسفة هم الأكثر صرامةً في اعتمادِ العقل والعملِ على توظيفه في كلِّ شيء. لا خلاف في الفلسفة حول كون العقل هو الذي يرسم حدوده، ويحدّد وظيفتَه، ويكتشف مصادرَ معرفته. الخلاف بين الفلاسفة أنفسهم حول حدود العقل، وماهية هذا العقل وتعريفه، ومجالاته، وكيفيّة إدراكه، ونوع مدركاته.
العقلُ الفلسفي هو الذي أولدَ العقلَ الحديث، تَوالدَ هذا العقلُ وتشكّل في فلسفة «فرنسيس بيكون» و«ديكارت» و«كانط» وغيرهم من الفلاسفة، فكان العقلُ الفلسفي الحديث باعثًا أساسيًّا على وضع التّاريخ البشري في مسارٍ جديد، غادر فيه حالتَه الرّتيبة التّكراريّة الطويلة، بعد أن لبثت البشريّةُ آلاف السّنين لم تحقّق المكاسبَ العلميّة من الاكتشافات والاختراعات والتّكنولوجيّات المنجزَة في القرون الثّلاثة الأخيرة، وتحوّل عبرها الإنسانُ من الآلات اليدويّة إلى المحرِّكات الحديثة، ومن وسائل النّقل البدائيّة إلى القطار والسّيارة والطّائرة ووسائل النّقل المتطوّرة. وهكذا تواصلت هذه المكاسبُ بقفزات على شكل منعطفات، إلى أن وصلنا إلى هندسة الجينات، وتكنولوجيا المعلومات والذّكاء الاصطناعي والرّوبوتات.
كانت الفلسفةُ وستبقى تتفاعل مع النّظريّات العلميّة والاكتشافات، تؤثّر فيها وتتأثر بها، تستجيبُ لما يستجدّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء والأحياء وغيرهما من العلوم. لعلم الفلك الحديث، الذي بدأ مع «كوبرنيكوس» (1473 – 1543) ونظريّتِه في مركزية الشّمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشّمسيّة حولها، أثرٌ مباشرٌ على التّفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده، وهكذا تأثّر هذا التّفكيرُ بقوانين الحركة والجاذبيّة العامّة في فيزياء «نيوتن» (1642–1727)، كما تأثر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لـ «ماكس بلانك» (1858–1947)، والنّظرية النّسبية لـ «أينشتاين» (1879– 1955)، وقبل ذلك تأثر بنظرية التّطور لـ «تشارلز داروين» (1809–1882).
الفلسفة لا تنتهي ولن تتوقفَ مادام الإنسانُ يندهش، ويفكّر، ويتساءل، ويشكّك، ويناقش، ويتحاور، ويختلف. لا تمثل الفلسفةُ مرحلةً من مراحل تطوّر الوعي، الفلسفةُ تواكبُ الوعيَ ولا تتخلّف عنه، حتّى لو سادَ العلمُ الحياةَ. العلمُ يطرح على الفلسفة أسئلتَه ومشكلاتِه العويصة، وما يعجزُ عن اكتشافِ طرق الخلاص منه في فضاء المادّة والمحسوس والتّجربة، الفلسفةُ لا سواها مَنْ يجيب عن ذلك. لم يولد العلمُ إلّا في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكبُ العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة، ومشكلاتِه وأزماته خارجَ حدود المادّة والتّجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرّؤية لما تنتجه تطوّراتُه من تساؤلات، ومشاكلَ معقّدة، وأزماتٍ روحيّة وأخلاقيّة ونفسيّة ومعرفيّة، سواء أكانت هذه المشكلات والأزمات فرديّةً أم مجتمعيّة. لن يكتفي العلمُ بذاته ويستغني عن الفلسفة، مهما بلغ تقدُّمُه وتنوّعت وتراكمت نتائجُه. حين يفكر الفيلسوفُ يقدّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظّواهر، يحاول أن يفسّر حقيقةَ العلم وماهيته، ويقدّم إجابات لمشكلات العلم وأسئلته العميقة خارجَ حدوده. الفيزياء والكيمياء والعلوم المختلفة تنشغل باكتشافِ قوانين الطّبيعة ومعادلاتِها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها، ولا تعرف حقيقةَ العلم وماهيته. الفيلسوف يحاول أن يفسّر حقيقةَ الوجود والظّواهر والأشياء والعلوم وماهيتَها، ممّا هو خارج حدود العلم.
إيقاعُ التّقدّم المتسارع للذّكاء الاصطناعي والرّوبوتات، والتّكنولوجيّات المتعدّدة التي تتحدّث لغةَ الذكاء الاصطناعي وبرمجيّاته، والهندسة الجينيّة، وتكنولوجيا النّانو، يخلقُ طورًا وجوديًّا بديلًا تعيد تكوينَه الأنماطُ المختلفة لصلاتِ الإنسان بالأشياء في المحيط الذي يعيش فيه، وصلاتِ الإنسان بالكائنات الحيّة المتنوّعة في الطّبيعة، وصلاتِ الإنسان بالإنسان. ينتجُ التقدّمُ المتسارِع حالةَ لايقين شاملة، تطول: القيمَ، والمعتقداتِ، والثّقافاتِ، والاقتصاداتِ، والنّظمَ السّياسيّة، والسّياساتِ المحلّية والإقليميّة، والعلاقاتِ الدّوليّة، والعلاقاتِ الاجتماعيّة، وكلَّ شيء في حاضر الإنسان ومستقبله.كلّما تضخّم اللاّيقينُ واتسعت مدياتُه اتسعَت الحاجةُ لحضورٍ فاعلٍ للعقل الفلسفي. الأسئلةُ الوجوديّة الكبرى، وأزماتُ العقل والرّوح والعاطفة ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادّة والتّجربة.
التّشديدُ على العلم، واختزالُ العقل والمعقولات والتّفكير بحدوده، يشاكس العقلَ الفلسفي، وينتهي إلى افتقار العلم إلى إجاباتٍ لأسئلته الحائرة ومشكلاته العويصة، وكلِّ ما لا يجد له حلًّا في فضائه وسياقاته وحدوده. تختنق المعرفةُ حين توضع في الفضاء الذي يخضع لحدود العلم الطّبيعي ومجاله الحسّي خاصّة، وحين تعتمد مقاييسَه وأدواته التّجريبيّة ووسائله ومنطقه ولغته وأحكامه. تلك هي أدلجة العلم عندما يتحوّل العلمُ إلى «أيديولوجيا علمويّة» تعطّل العقلَ الفلسفي. حدود العلم الطّبيعي وحقله يتمثّلان في كلّ شيء في الطّبيعة والكون المادّي، الفلسفة لا حدودَ لها، بوصفها فعلَ تفكير عقلي يتجاوز الظّواهر للبحث في حقيقة العلم وماهية المعارف والموجودات.
الفيلسوف يجيب عن سؤالِ المبدأ والمصير، والحياة والموت، وغيرها من الأسئلة الوجوديّة الكبرى، ويجيب عن كلِّ سؤال خارج العلم بالمعنى التّجريبي. لا نهاية للفلسفة، يظلّ الإنسانُ يتفلسف مادامت الحياةُ والموت، وما دامت الأسئلةُ الوجوديّة التي لا تجيب عنها العلوم. العلم غير الميتافيزيقا، كلُّ سؤال وجواب ميتافيزيقي بالإثبات أو النّفي هو تفلسف خارج حقل العلم. عندما يقدّم أحدُ علماء الطّبيعة أجوبةً عقليّة للأسئلة الوجوديّة الكبرى، ينتقل تفكيره من حقل العلم إلى حقل الفلسفة بهذه الأجوبة. علاقةُ الفلسفة باللاّهوت ديناميكيّة، فمثلما يتغذّى ويتجدّدُ اللاّهوتُ بالفلسفة تتغذّى الفلسفةُ وتتّسعُ آفاقُها وتتنوّعُ حججُها بالسّؤال اللاّهوتي. السّؤالُ اللاّهوتي يبحثُ عن يقينيّات لا يظفر بها مهما توالدت الأجوبةُ وتواصلت الاستدلالات، إنّه سؤالٌ مفتوح، وكلُّ سؤال مفتوح مَنجمٌ ثمين للتّفلسف.كلّما ابتعد اللاّهوتُ عن الفلسفة وقع فريسةَ تفشِّي اللاّمعقول وتغوّل الأوهام. لا يضع اللاّهوتَ في حدوده ويمنع تغوّلَ الأوهام إلاّ الفلسفة، ولا يتجدّد اللاّهوتُ إلاّ عندما يعيد النّظرَ في الحقيقة الدّينيّة ويتأمّلها بعيون فلسفيّة. لا تداوي الفلسفةُ جروحَ الرّوح والقلب، العقل الفلسفي مشاغب لمن يمتلك قدرةً ذهنيّة على إيقاظه بالتّساؤل العميق حتّى في البداهات. التّاريخ والواقع يشهدان بأنّ الأذكياء جدًّا والعباقرة تعذِّب وعيَهم الأسئلةُ الوجوديّة الكبرى التي لا جواب نهائي لها، حياة كثير من الفلاسفة كانت تقلقها الأسئلة وتوالدها المتواصل من الإجابات.
من مظاهر افتقار الفلسفة لمعناها البدايةُ بمقدماتٍ فلسفيّة ومنطقيّة، بغيةَ ترسيخ اليقين بمسلمات لاهوتيّة. الفلسفة ضربٌ من التّفكير العقلي خارج اللاّهوت، لغةُ الفلسفة ومصطلحاتها تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةُ حدوده. لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاّهوت والمتخيَّل والمثيولوجيا واللاّمعقول. العقلُ معيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أنشطةِ الذّهن مهما كان. واحدةٌ من مشكلاتِ التّفكير الدّيني التّفكيرُ بالفلسفة ضدّ الفلسفة، والتّحدّث والكتابة بلغة تحاكي لغةَ الفلسفة إلاّ أنّها ضدّ الفلسفة. يجري توظيفُ التّصوّف واللاّهوت في الفلسفة، والتّفكيرُ في فلسفة الدّين بعقلٍ كلاميّ من شأنه أن ينقض كونها فلسفة، كما نقرأ لدى مَن يفكّرون في التّعدّدية الدّينيّة بعقل متكلّم، أو فقيه.
يتسيّد تفكيرٌ لاهوتيّ بالعربيّة يكتب الفلسفةَ برؤية علم الكلام للعالم ومقولاته، وذوقٌ صوفي يكتب الفلسفةَ بمرآة التّصوّف ومكاشفاته. صارت هذه صنعة جماعة من المفكّرين الذين نحتوا لهم أسماء كبيرة، أُغرم بهم شبابٌ عرب نفروا من تبسيط أدبيّات الجماعات الدّينيّة، فاحتلت كتاباتُ هؤلاء المفكّرين مواقعَ متقدّمة في الجامعات والدّراسات العليا، على الرّغم من أنّهم يفكّرون في الفلسفة بعقلٍ كلامي وفقهي، وأحيانًا صوفي، ويصدرون مقولات كلاميّة وفتاوى فقهيّة لا صلة لها بالتّفكير الفلسفي، وإن تدثّرت بلغة الفلاسفة. هذه المحاولات المتنوّعة تسعى لخلع غطاء ديني على الفلسفة وتعمل على أسلمتها. أسلمة الفلسفة ضربٌ من التّفلسف ضدّ الفلسفة، وإن كان مَن يدعو لذلك عبقريًّا. وهذا ليس غريبًا، فأحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا فذًّا في مجالٍ يقظٍ من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في مجالٍ نائمٍ من عقله. يتراجعُ العقل وينزاح بالتدريج أحيانًا، بعد أن تتسعَ المساحة النائمة للعقل فتعطّل ما هو يقظ. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم. المراوغاتُ الذهنية والثغراتُ المنطقية في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذهنية في الطبيعة البشرية. هذا هو السرّ الذي يجعل هؤلاء يبدؤون بمقدماتٍ عقليّة وينتهون بنتائجَ غير معقولة(1) .
على الرّغم من أنّ الفلسفةَ تستعمل العقل خارجَ الوصايات، إلاّ أنّ العقلَ وقع تحت وصاية علم الكلام، حين أجهضت المقولاتُ المغلقة لبعض المتكلّمين العقلَ الفلسفي في الإسلام. وتسيّد عمليّةَ التّفكير بكلِّ شيء هاجسُ الحرام، فصار سؤال المسلم عن كلّ صغيرة وكبيرة في كلِّ شؤون حياته، حتّى في نوع العلوم والمعارف والثّقافة، وفي أيّ شأن كان، عن كونه حرامًا أو ليس بحرام، وانتهى هذا المسار إلى تحريم الفلسفة. صدرت فتاوى من مختلف فقهاء المذاهب بتحريم تعاطي الفلسفة، أشهرها فتوى ابن الصلاح الشّهرزوري (577 - 643 هـ/ 1181م - 1245م) التي جاء فيها: «الفلسفة رأس السّفه والانحلال، ومادّة الحيرة والضّلال، ومثار الزّيغ والزّندقة، ومن تفلسف عميت بصيرتُه عن محاسن الشّريعة المؤيّدة بالحجج الظّاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبّس بها تعليمًا وتعلّمًا قارنه الخذلانُ والحرمانُ، واستحوذ عليه الشّيطان... وأمّا المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخلُ الشرِّ شرٌّ، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلّمه ممّا أباحه الشّارع ولا استباحه أحد من الصّحابة والتّابعين والأئمة المجتهدين والسّلف الصّالحين، وسائر مَن يقتدى به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمّة وقادتها، قد برأ اللّه الجميع من معرّة ذلك وأدناسه، وأمّا استعمال الاصطلاحات المنطقيّة في مباحث الأحكام الشّرعيّة فمن المنكرات المستبشعة والرّقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشّرعيّة»(2). عندما وقع العقلُ تحت وصاية فتاوى الشّهرزوري وأمثاله، انغلق على نفسه، واستنزف التّفكيرَ الدّيني في الإسلام التّكرارُ والاجترار المملُّ، ونامت الأسئلةُ الكبرى، واضمحل حضورُ العقل النّقدي الخلّاق.
يصعب جدًّا فهمُ الفلسفة الغربيّة الحديثة بعقليّة أرسطيّة، كلُّ محاولةٍ للفهم تفكّر في إطارٍ معرفي لا ينتمي لعالم مفاهيم الفلسفة الحديثة تفضي إلى نتائجَ تفرضها مقدّماتٌ تصوريّة وبراهين وأشكال قياسات المنطق الأرسطي. وهو ما سقطتْ فيه محاولاتُ جماعة من المهتمين بهذه الفلسفة في معاهد التّعليم الدّيني وغيرها من مؤسّسات التّعليم التّقليدي والحديث، ممّن أتقنوا المنطقَ الأرسطي وتشبّع ذهنُهم بمقدّماته التّصوريّة وبراهينِه وأشكالِ قياساته، وتمرّسوا في استعمالِ أدواتِه في محاججاتهم الفلسفيّة والكلاميّة والفقهيّة والأصوليّة. هناك خبراءُ ممّن يمتلكون تكوينًا أكاديميًّا جادًّا في الفلسفة والمنطق الحديث، لديهم معرفةٌ جيّدة باللّغات الفرنسيّة والألمانيّة والإنجليزيّة، يتسيّدون المشهدَ الفلسفي في بعض البلدان العربيّة، ويحتفي بكتاباتهم الغزيرة جامعيّون متديِّنون، غير أنّهم يتفلسفون على طريقة الغزالي وابن تيميّة، فيقدّمون قراءاتٍ موهِمةً ومضلّلة للفلسفة الحديثة، تُلوّنها بألوان مشوّهة، وتُقَوِّلها ما لا تقول، القارئُ الخبير يدرك أنّهم يتفلسفون ضدَّ الفلسفة.
الفلسفةُ تتطلّب مَن يمتلكُ موهبةَ التّفلسف. التّفلسفُ وعيٌ عقلي تأمّلي عميق، لا يجيده كلُّ عقل، يحتاج التّفلسفُ عقلًا ذكيًّا فطنًا مندهشًا متسائلًا. الموهبةُ لا تكفي وحدَها، يتطلّب التّفلسفُ إنفاقَ سنوات طويلة في التّعلُّمِ، وترويضِ الذّهن وتدريبه على التّفكير الصّبور، والشكِّ، ومساءلةِ المسلّمات وغربلتها، وتمحيصِ ما تَسَالم النّاسُ على أنّه من البداهات،كما يحتاج كلُّ علم ومعرفة وفنّ إلى التعلّم، والتّفكير، والمران المتواصل. مَنْ يريد تعلّمَ التّفلسف عليه أن يصغي لأحد المعلّمين الماهرين للفلسفة.
تعليم الفلسفة تعليم التّفكير الفلسفي، لا يتفلسفُ الإنسانُ بتعلّم تاريخ الفلسفة. التّفلسف يتطلّب التّعرّفَ إلى مفاهيم الفلاسفة الكبار في العصور المتوالية وآرائهم، بغضّ النّظر عن اتجاهاتهم، ومواطنهم، ومساءلتها، والحوار معها. تراكم المعلومات وتكديس الإجابات لا يوقظ بالضّرورة العقل، غير أنّ سؤالًا عميقًا واحدًا يمكن أن يوقظه، إن كان العقلُ نابهًا. تدريب التّلميذ على النّقد والتّساؤل ضروري لبناء مَلَكة النّقد والتّفكير الإبداعي. تَعلُّمُ التّلميذِ التّفلسفَ هو تعلُّمُ التّساؤل والتّفكير النّقدي، وليس استِظهار النّصوص، والمزيد من حفظ آراء الفلاسفة وتكرار أسمائهم. طريقة تعليم التّفلسف تعني تدريبَ الذّهن على التّأمل العميق والتّريث في التّفكير، والتّوقّفَ عن إصدار الأحكام المتعجّلة قبل الفهم والتّفسير والتّحليل والتّمحيص، والنظرَ للفلسفة بوصفها إيقاظًا للعقل بالتّساؤل والنقد، وغربلةً للوثوقيّات والجزميّات.
العقلُ الفلسفي ينبغي أن تكون آفاقُه رحبة، يفكّر خارجَ المعتقدات والهويّات والأيديولوجيّات المغلقة. الأُطر المقيِّدة للتّفكير العقلي الحرّ تمارس تَمْويهًا بعنوانات مراوغة عبر الأدب والفنّ والدّين، وأخطر أشكال التّمويه عندما تتخفّى المعتقداتُ والأيديولوجيّات والهويّات وتفرض أحكامَها وراء قناع الفلسفة والعلم والمعرفة. العقلُ الفلسفي قلَّما يتوطّن في بيئة الثّقافة الشّعريّة، الفلسفة تعكس أعمقَ تجليّات العقل البرهاني، الشّعر يتوالد ويزدهر في فضاء المخيّلة، ويعاند العقلَ البرهاني. إن كانت البيئةُ فلسفيّةً بالأصل، كما في ألمانيا في القرن الثّامن عشر والتّاسع عشر والعشرين، تصبح بيئةً خصبة لظهور شعراء يبدعون شعرًا مشبعًا برؤيا فلسفيّة، على غرار «هولدرلين» (1770 - 1843) في ألمانيا. وإن كانت بيئةُ الثّقافة شعريّةً بالأصل فنادرًا ما نرى فيها ولادةَ فيلسوف، كما في تمركز الثّقافة العربيّة على الشّعر قبل الإسلام. الإنتاج الثّقافي للبيئة يشبهها، في البيئة الفقيرة عقليًّا تسود ثقافةٌ تخيّلية، في البيئة الخصبة عقليًّا، تزدهر المعرفةُ المركّبة العميقة.
بعد عصر البعثة توالد التّساؤل والنّقد والتّفلسف في التّفكير الدّيني لدى المسلمين في سياق تأويلهم لآيات القرآن الكريم الاعتقاديّة، وما ولد في آفاقها من أسئلةٍ حول القضاء والقدر، وغير ذلك من المعتقدات. إثر ذلك ظهرت المدارس الكلاميّة المعروفة في القرون الأولى، وظهرت الفلسفة، فكان الكندي (185 هـ/805 - 256 هـ/873)، والفارابي (260 هـ/874 - 339 هـ/950)، وابن سينا (370 هـ /980 - 427 هـ /1037)، وغيرهم من الفلاسفة في الإسلام.
ما ينقل الذّهنَ للتّفكير الحرّ خارجَ الأسوار المغلقة هي الكتابةُ الفلسفيّة التي تدعو للتّفكير ضدّ المألوف والسّائد بلا دليل. لا تظهر قيمةُ الكتابةِ الفلسفيّة بمقدار ما تنتجُه من إجاباتٍ مكرّرة، قيمة هذه الكتابة بقدرتها على تحريض العقل على توليد أسئلةٍ عميقة، يتطلّب الخوضُ فيها الكثيرَ من التّأمّل والتّفكير غير المتعجِّل. لم تشهد المكتبةُ الفلسفيّة العربيّة غزارةً في الإصدارات كما يحدثُ في السّنوات الأخيرة نتيجةَ تعدّدِ المؤسّسات الرّاعية للتّرجمة، والمبادراتِ الفرديّة والجماعيّة في التأليف، واتساعِ التّعليم العالي وكثافةِ رسائل الماجستير والدّكتوراه في الدّراسات العليا للفلسفة وتنوعها، والنّشرِ الورقي والإلكتروني.
غزارةُ المطبوعات الفلسفيّة وتنوّعُها بقدر ما يثري المكتبةَ الفلسفيّة كميًّا، إلاّ أنّه قلّما يكشف عن عمق التّفكير الفلسفي والخروجِ من تكرار الشّروح، وشروح الشّروح، والتّعليقات الانطباعيّة، وأحيانًا العبثيّة، على أقوال الفلاسفة. لا يدلّنا رواجُ سوق كتابٍ على فرادته وقوّة مضمونه، ولا تعني غزارةُ الكتابة وكثافةُ الإصدارات القدرةَ على التّأملِ والتّفكيرِ المتمهّل، وامتلاكِ البصيرة الثّاقبة. أعرفُ مَنْ يتحدّث ويكتب بغزارة في الفلسفة من دون أن يدرسَ أو يقرأ أيَّ نصٍّ فلسفي، وكأن الكتابةَ والحديثَ في الفلسفة أمست مهنةَ مَنْ لا مهنةَ له. يتفلسف بعضُ هواة الفلسفة بحفظ النّصوص، وهو لا يدري أن الحفظَ شيءٌ والتّساؤلَ والتّفكير النّقدي والإبداع شيءُ آخر. الكتابةُ والحديث في الفلسفة يمارسها مثل هؤلاء من دون أيّ تأهيل أكاديمي، ولا قراءات معمّقة لتراثنا الفلسفي والفلسفة الحديثة. لستُ ضدّ تبسيط الفلسفة وتيسيرها للقرّاء، غير أنّ لغةَ الكتابة يفرضها نوعُ مفاهيمها، وغايةُ تفهيمها. تبسيطُ المعارف والعلوم الذي يتولاه خبراء في كلِّ حقل ضرورةٌ لفهمها وتنمية الوعي المجتمعي. التّدريس مثلًا ضربٌ من التّبسيط، إشاعةُ المعرفة تتطلّب تبسيطًا يتولاه المتخصِّصُ في كلِّ حقل معرفي، تبسيطُ غير المتخصِّص لأيّ علم ومعرفة يزيّفها.
إصداراتُ الكتب والدّوريات التي تحملُ عنوانات فلسفيّة لا أقرأ فيها غالبًا رؤيةً فلسفيّة، ولا أرى أكثرَها يتحدّث لغةَ الفلسفة. عندما يصادفني كتابٌ أو مقال فلسفي يتحدّث لغةَ الفلسفة وينقد ويتساءل أشعر كأنّي عثرتُ على كنز مفقود. يبهرني العقلُ اليقظ البارع بمحاكمته لآراء فلاسفة كبار وتقويضه لها، مثلما تبهرني براعتُه ببناء رؤىً فلسفيّة ينفرد بها، وإن كنتُ لا أتّفق مع كلِّ نقاشاته وأدلّته ورؤاه وآرائه ونتائجه. ليس المهمّ أن نتفق أو نختلف مع طريقة تفكير مَنْ يتفلسف ومحاججاته وتقويضاته ونتائجه، المهمّ أن نقرأ عقلًا يفكِّر فلسفيًّا بطريقته الخاصّة، ويكتب الفلسفةَ بلغة الفلسفة. الفيلسوف يفرض على قارئ الفلسفة المتمرّس الاعترافَ بعبقريّته الفلسفيّة. عبقريّته يعكسها خروجُه على طريقة التّفكير المتداولة، ولأكثر مَنْ نقرأ لهم من كتّاب اليوم.
بعض مَن يكتبون تحت عنوانات فلسفيّة يراكمون عنواناتٍ بلا مضمون فلسفي، يكتبون موضوعاتٍ عويصة، وهم عاجزون عن التّفلسف وخلق الأسئلة الفلسفيّة. تتكدّسُ في كتاباتهم كلماتٌ تتخبّط في دلالتها ولا تفصح عن وجهتها، لا تقرأ فيها ما يشي بشيءٍ يصنَّف على الفلسفة. في أقسام الفلسفة بجامعاتنا قلّما نجد أستاذًا يتفلسف خارج النصِّ الذي يقرّره لتلامذته، مَنْ يعجز عن التّفلسف يعجز عن تعلّم الفلسفة وتعليمها، التّفلسفُ غايةُ تعليم كلّ فلسفةٍ تنشد لنفسها إيقاظَ العقل.
كتابُ: «الدّرس الفلسفي في المدارس الدّينية» وُلد في سياق مخاضٍ طويل لكاتبه في دراسة الفلسفة وتدريسها لمدّة طويلة تجاوزت الأربعة عقود من حياته. تمخَّضت هذه الممارسةُ بتعليم الفلسفة عن رؤيةٍ تقدّم للقارئ تقويمًا لواقع الدّرس الفلسفي في الحوزة وآفاق انتظاره، وقراءةً تواكب الدورَ الذي اضطلع به العلاّمة محمد حسين الطباطبائي ببعث الفلسفة في معاهد التّعليم الدّيني، وتنمية نطاق تدريسها والكتابة فيها، وحضورها اللاّفت عبر مؤلّفاته، وما نسجه تلامذتُه من تعليقات وشروح لتلك المؤلّفات، وأثرهم في تعليم الفلسفة داخل معاهد التّعليم الدّيني والجامعات.
الهوامش
(*) مقدمة كتابي: «الدرس الفلسفي في المدارس الدينية»، صدر الكتاب حديثا عن منشورات تكوين الكويتية، ودار الرافدين بيروت – بغداد.
(1) الرفاعي، عبد الجبار، مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، ص 301، منشورات تكوين بالكويت، دار الرافدين ببيروت.
(2) فتاوى ابن الصلاح (1/209-212) .
|