قبل الوداع

بقلم
علي عبيد
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف من سيطرة التقاليد إلى تعظيم الشعائر
 يتزامن صدور هذا العدد من مجلّة الإصلاح مع حلول شهر ربيع الأول وهو الشّهر الذي يحتفل فيه المسلمون بذكرى المولد النّبوي الشّريف، وأردّنا من خلال هذه المصافحة أن نعالج طريقة احتفالنا بهذه الذّكرى عبر مقارنتها بطريقة احتفال الرّسول الأكرم ﷺ  بها.
أوّل ملاحظة نشير إليها عند مراجعتنا للأحداث التّاريخيّة أنّ المسلمين في عهد الصّحابة والتّابعين لم يدرجوا هذه المناسبة في أعيادهم الدّينيّة، ولكن بعد انتشار الفتوحات الإسلاميّة واحتكاك المسلمين بالنّصارى الذين يحتفلون بذكرى ميلاد المسيح عند رأس كلّ سنة ميلاديّة، رآى المسلمون أن يخصّصوا يوما للاحتفال بذكرى مولد الرّسول محمد ﷺ ، فهو لديهم أفضل المرسلين وسيّد النّاس أجمعين. وهكذا انتشرت هذه العادة وأصبحت من تقاليد المجتمعات الإسلاميّة مقابل انتشار الاحتفال بذكرى ميلاد المسيح في المجتمعات المسيحيّة. 
وتحتفل الشّعوب الإسلاميّة كلّ عام بهذه الذّكرى بطرق عدّة يغلب عليها الطّابع الفلكلوري التّقليدي، (زينة وأضواء، حلوى ومأكولات شعبيّة، جلسات مدح وذكر، أعلام ومواكب شموع...)، ففي تونس على سبيل المثال يستعدّ التجّار لهذه المناسبة قبل فترة من بلوغها بتوفير كلّ ما يلزم من فواكه ومستلزمات لإعداد طبق «عصيدة الزّقوقو» صباح يوم الثّاني عشر من ربيع الأول، وتعادل تكلفة هذا الطّبق - نتيجة ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة - الأجر الشّهري الأدنى المضمون للطّبقة الشّغيلة، فما يتقاضاه الأجير بعد شهر من العناء والعمل المتواصل لا يكفي لاقتناء كلّ مستلزمات طبق العصيدة المذكور.
لا نستطيع أن ننكر ما يحدثه هذا الاحتفال بهذه الطّريقة من حركة في الأسواق ونشاط للحياة التّجاريّة، ولكن إذا نظرنا إلى واقع أمّتنا وخاصّة معاناة إخوتنا الفلسطينيّين من الجوع والعطش والألم والموت الذي يقابله عجز كامل للحكومات والشّعوب عن مدّ يد العون إليهم وإيصال الغذاء والماء والدّواء لهم، وكذلك ما تعانيه أغلب الشّعوب العربيّة من عجز في تحقيق أمنها الغذائي رغم الثّروات الهائلة التي تملكها، فإنّ من الواجب ترك هذه العادات التي تثقل كاهلنا ولا تحقّق مقاصد شريعتنا السّمحة.
ولكن هل يعني ذلك إلغاء الاحتفال بذكرى مولد الرّسول ﷺ خاصّة وأنّ هناك بعض الآراء الفقهيّة التي تفتي بعدم جواز الاحتفال بالمولد باعتباره بدعة؟ إذا تأمّلنا في سيرة الرّسول الكريم ﷺ فإنّنا نلاحظ أنّه كان يحتفل بذكرى مولده، لكن بطريقة مختلفة من حيث الشّكل والمقصد.
ثبت عنه ﷺ أنّه سُئل عن صوم الإثنين، فقال: «فيه ولدت وفيه أنزل عليّ». وهذا يعني أنّه ﷺ كان يحتفل بذكرى مولده أسبوعيّا كلّ يوم إثنين وذلك بالقيام بشعيرة الصّوم أي أنّ الاحتفال يكتسي صبغة تعبديّة بربطه بشعيرة من أقدس الشّعائر ألا وهي شعيرة الصّوم. وعبادة الصّوم حسب السّنّة النّبويّة تتطلّب التّفكّر في الجائعين، وقد ورد في الأثر « مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا»  وورد في الأثر أيضا « ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به». 
إذن ليس من البدعة في شيء أن نحتفل بمولده ﷺ ، بل يمكن أن نحتفل به كلّ أسبوع، ولكن يجب أن يكتسي هذا الاحتفال صبغة تعبّدية كما فعل الرّسول ﷺ، وبذلك نحقّق من خلال هذا الاحتفال مقصدا أساسيّا من مقاصد ديننا الحنيف ألا وهو تكريس قيمة التّكافل الاجتماعي، وذلك عبر إطعام الصّائمين والمحتاجين، يقول تعالى : ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ (الإنسان:8-9)
هذا التّوجيه الإلهي ينبغي احترامه والالتزام بتعليماته في كلّ المناسبات والأعياد، وهكذا نستطيع أن نرتقي باحتفالاتنا من طقوس وعادات وتقاليد إلى التّذكير بآداب شعائرنا التّعبديّة من صلاة وزكاة وصوم وحجّ، ﴿ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج:32)