أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
من مسألة البراكيستوكرون إلى قطارات الجاذبية
 تعريف بالمصطلح وبالمسألة 
البراكيستوكرون Brachistochrone مفردة مشتقّة من الكلمتين اليونانيتين brachistos (وتعني «الأصغر أو الأقصر») وchronos  (وتعني «الوقت أو الزمن»)(1)، وتعريف المسألة كالتّالي: لنفرض أنّ لديك نقطتين A وB مختلفتين فى الارتفاع لكنّهما ليستا عموديتين أي ليستا أسفل بعضهما (بمعنى آخر لا يجمعهما خطّ رأسي واحد) في مجال تثاقلي منتظم خلال فرق الارتفاع الذي يجمعهما، وهذا ممكن جدّا من النّاحية العمليّة، فالبرغم من اعتماد المجال التّثاقلي على البعد (الارتفاع) عن مركز الجسم مصدر التّثاقل إلاّ أنّنا نستطيع جعل ذلك الفرق في الارتفاع قليلا جدا (مقارنة بنصف قطر الجسم مصدر التّثاقل) بحيث يكون المجال التّثاقلي منتظما إلى حدّ بعيد خلال ذلك الفرق. والسّؤال ماهو المنحنى الذي يسلكه جسم صغير جدّا للانتقال بين تينك النّقطتين بحيث يصل من النّقطة الأولى إلى النّقطة الثّانية في أقصر فترة زمنيّة ممكنة؟ اشتراطات المسألة هو أنّ الجسم لا يخضع إلاّ لقوة الجذب الثّقالية المنتظمة.
تصميم تجربة فيزيائيّة
من الممتع حقّا أنّه يمكننا بالفعل تصميم تجربة فيزيائيّة بسيطة جدّا لذلك الغرض وهي موجودة بالفعل على مواقع كثيرة على الإنترنت، كرات صغيرة مصقولة ومتماثلة في الكتلة (كي تتماثل عليها قوى التّثاقل والاحتكاك مع السّطح) وسطوح متماثلة في الصّقل (كي تتضاءل قوّة الاحتكاك معها ما أمكن أيضا)، أحدها مستوي أي إنحناؤه صفر يمثّل حالة حلّ الخطّ المستقيم (وهو الحلّ الذي يتبادر إلى الذّهن بسرعة لكنّه في الواقع ليس الحلّ الصّحيح: وهو المنحنى الذي تسلكه الكرة الأولى من اليمين، وهو - وإن كان يمثل أقصر مسافة- إلاّ أنّه لا يمثّل أصغر زمن)، والثّالث يمثّل سطحا منحنيا يساوي إنحناؤه إنحناء منحنى السّيكلويد المعروف في الهندسة (وهو الحلّ الصّحيح للمسألة: وهو المنحنى الذي تسلكه الكرة الثّالثة من اليمين) وسطوح أخرى لها إنحناءات غير ذلك، أ
نبذة تاريخيّة [يعرف الأسد من مخلبه]  
طرح الرّياضي السّويسري «يوهان برنولي Johann Bernoulli» مسألة البراكيستوكرون Brachistochrone Problem  في يونيو  1696 في الدّوريّة العلميّة Acta Eruditorum والتي كانت أوّل مجلّة علميّة للدّول النّاطقة بالألمانيّة في أوروبا. وكان السّؤال: «ما هو المنحنى الذي يسلكه جسم تحت تأثير قوى التّثاقل المنتظم فقط، بحيث ينطلق من نقطة A ويصل إلى نقطة B في أقصر وقت ممكن في مستوى رأسي؟».
 اشتق كلّ من «يوهان» وأخيه «يعقوب برنوليJakob Bernoulli»  نفس الحلّ، ولكن استنتاج «يوهان» «صاحب المسألة التي تحدّى بها علماء عصره» كان خاطئًا، وحاول أن ينسب حلّ «يعقوب» لنفسه. ثمّ تحدّى أعظم رياضيي أوروبا لحلّها في غضون ستّة أشهر. وفي 29 يناير 1697، وجد «إسحاق نيوتن Isaac Newton» التّحدّي في رسالة من «يوهان برنولي» في الدّوريّة العلميّة المذكورة. فطوّر «نيوتن» فرعًا جديدًا في الرّياضيات يسمّى حساب التّغايرات calculus of variations  لحلّ المشكلة «تحديد المنحنى الذي يصل بين النقطتين المشار إليهما في تعريف المسألة». أرسل «نيوتن» البالغ من العمر حينها 55 عامًا، الحلّ ليُنشر، يقول البعض إنّ «نيوتن» حلّ هذه المشكلة في اليوم التّالي لطرحها، وعلى الرّغم من أنّ «نيوتن» قدّم حلّه دون الكشف عن هويته، ولكن التّميّز البارز في العمل كشف هويّته، حيث علّق «برنولي» عندما رأى الحلّ قائلاً: «يعرف الأسد من مخلبه We recognize the lion by his claw». 
تُظهر هذه القصّة بعضًا من قوّة «نيوتن»، حيث استغرق «برنولي» الأخ أسبوعين لحلّها. في النّهاية، قدّم خمسة من الرّياضيّين المشهورين حلاّ للمسألة: «نيوتن»، «يعقوب برنولي»، «جوتفريد لايبنتز Gottfried Leibntiz»، «إهرنفريد فالتر فون تشيرنهاوسEhrenfried Walther von Tschirnhaus»، و«جيوم دو لوبيتال Guillaume de l›Hôpital». 
البعض أيضا يدّعي أنّ هذه مجرّد حلقة واحدة ممّا يسمّى بالعداء المرير بين «نيوتن» و«لايبنتز» (2)، حيث ادّعى كلاّ منهما أنّه حلّ المشكلة قبل الآخر. يعتمد اشتقاق الحلّ بشكل كبير على معادلة «أويلر-لاجرانج»، ومتطابقة «بلترامي» في حساب القيم القصوي (العظمي/الصّغري) لدالي الفعل. كما أنّ له علاقة بمبدأ «فيرما».
  قطار الجاذبية [براكيستوكرون داخل الأرض]  
في القرن السّابع عشر، قدّم «روبرت هوك R. Hooke» فكرة التّحرّك بسرعة فائقة داخل الكوكب في رسالة إلى «إسحاق نيوتن». وتمّ تقديم مشروع قطار الجاذبيّة جديًّا إلى الأكاديميّة الفرنسيّة للعلوم في القرن التّاسع عشر. وتمّ إعادة استكشاف الفكرة ثانية في ستينيّات القرن الماضي عندما نشر «بول كوبر P. Cooper» بحثًا في المجلّة الأمريكية للفيزياء American Journal of Physics  يقترح فيه أنّ يُنظر إلى قطارات الجاذبيّة على أنّها مشروعات نقل مستقبليّة (3). 
تخيّل أنّنا حاولنا استخدام الطّاقة الكامنة في التّثاقل وصمّمنا شبكة من الأنفاق تحت الأرض على هيئة براكيستوكرونات تربط بين المدن على سطح الأرض، وبالتّالي يمكننا بناء مترو أنفاق دون الحاجة إلى الإنفاق على الطّاقة للتشغيل مثل الكهرباء والبترول وغيرها، وبافتراض عدم وجود احتكاك في كلّ مكان. سينزل النّفق تحت الأرض، ثمّ يستوي قليلا، ثمّ يصعد مرّة أخرى، كلّ ذلك فقط من خلال تبادل الطّاقة الكامنة لجهد الجاذبيّة «التّثاقل» وطاقة الحركة. يتحرّك قطار الجاذبيّة متسارعا باستخدام قوّة الجاذبيّة فقط، حيث إنّه في أثناء النّصف الأول من الرّحلة (من نقطة المغادرة حتّى منتصف الرّحلة تقريبا)، تجذب قوّة النّزول للأسفل تجاه مركز الجاذبيّة القطار إلى الوجهة المطلوبة. وأثناء النّصف الثّاني من الرّحلة، قد يكون التّسارع في الاتجاه المقابل للمسار، ولكن (مع تجاهل آثار الاحتكاك) ستكون السّرعة المكتسبة سابقًا كافية لإلغاء هذا التّباطؤ تحديدًا (بحيث يصل القطار إلى الوجهة المقصودة بسرعة صفر(4). 
لقد طرح هذه الفكرة الشّيقة أحد الباحثين الكبار في الفيزياء وهو «جولدشتاين» في كتابه المعنون بالميكانيكا الكلاسيكيّة (5) في السّؤال التّالي: ما هي المدّة التي تستغرقها الرّحلة من نيويورك إلى لوس أنجلوس (على مسافة 4800 كيلومتر على طول الطّريق المفترض على سطح الأرض)؟ على طول نفق قصير المدى (بافتراض عدم وجود احتكاك) وإلى أيّ مدى سيكون تحت السّطح أعمق نقطة في ذلك النّفق؟ 
بعيدا عن الرّياضيات الشّيقة تعطي الحسابات أنّ الزّمن اللاّزم لمثل تلك الرّحلة باستخدام براكيستوكرون داخل الأرض يربط بين المدينتين عبر نفق تحت الأرض يساوي تقريبا  42.24 دقيقة وسوف تكون أعمق نقطة في النّفق على بعد 1528 كيلومتر، وسوف يكون الطّول الإجمالي للنّفق حوالي 5380  كيلومتر. لكن ومع كونها فكرة مثيرة إلاّ أنّه يمكننا أن نستنتج أنّ العمق المنخفض لا يفرض بالضّرورة وقت عبور منخفض بشكل غير مقبول. 
الاعتراضات
في الواقع، هناك سببان لعدم وجود قطارات الجاذبيّة. السّبب الأول، نظرا للعمق الرّهيب الذي ينبغي أن تصمّم عليه الأنفاق فإنّ النّفق والقطار قد يخترقا باطن الأرض في منطقة تكون فيها الصّخور مائلة إلى السّيولة أكثر من الصّلابة. ولا يُعرف مواد قد تقاوم الحرارة والضّغط الهائلين في اللّب الدّاخلي فيها. حيث تُقدّر الحرارة هناك 5430 درجة مئويّة ويتراوح الضّغط من (3300000 حتّى 3600000 ضغط جوي). والسّبب الثّاني، قد تكون الخسائر النّاتجة عن الاحتكاك هائلة للغاية. وقد يتمّ تقليل خسائر الاحتكاك النّاجمة عن الدّوران عن طريق استخدام قطار مغناطيسي معلّق. ومع ذلك، ما لم يُفرغ جميع الهواء من النّفق، قد تؤدّي خسائر الاحتكاك النّاتجة عن مقاومة المائع إلى عدم استخدام قطار الجاذبيّة على أرض الواقع. 
إنّ عملية تفريغ الغلاف الجوي ليُصبح قطارًا مُفرغًا قد يُلغي هذا العائق ولكنّه قد يتطلّب قوّة إضافيّة. قد لا تنطبق هذه الاعتراضات على الكواكب والأقمار الصّلبة التي لا تحتوي على غلاف جوي.
الهوامش
(1) أنظر  Weisstein, Eric W. Brachistochrone Problem.From MathWorld-A Wolfram Web Resource
       http://mathworld.wolfram.com/BrachistochroneProblem.html
(2)  Ferguson, James.  A Brief Survey of the History of the Calculus of Variations and its Appilcations. http://arxiv.org/ftp/math/papers/0402/0402357.pdf
(3) To Everywhere in 42 Minutes
(4) Newton. Philosophiæ Naturalis Principia Mathematica
(5)Goldstein, Poole and Safko. Classical Mechanics, 3rd edition, 2001