تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
مبدأ الاعتدال
 يشكّل مبدأ الاعتدال، الذي وضعه الفيلسوف اليوناني الشّهير «أرسطو»، مبدأ تربويّا مهمًّا كمبدأ حاكم للفعل التّربوي الإنساني. يعتبر هذا المبدأ موجّهًا قيميًّا يحثّ على إيجاد التّوازن والوسطيّة بين مفاهيم متناقضة، يبرز «أرسطو» بأنّ الفضيلة والسّعادة تتحقّقان من خلال هذا التّوازن والاعتدال. في خضم بحثنا حول هذا المبدأ الشّهير، سنتناول بالتّفصيل مكوّنات مبدأ الاعتدال الأرسطي وأهميته وخصائصه.
من جهة، يجسّد مبدأ الاعتدال الأرسطي مفهوم التّوازن والوسطيّة في الحياة الأخلاقيّة. حيث يؤكّد «أرسطو» على أنّ الفرد لا ينبغي أن ينجرف إلى أحد الطّرفين المتطرّفين في السّلوك الأخلاقي، بل يجب عليه أن يسعى إلى التّوازن بين الرّذيلتين المتضادّتين. على سبيل المثال، ينبغي للشّخص أن يكون شجاعًا دون أن يكون جبانًا، وكذلك أن يكون متواضعًا دون أن يكون متكبّرًا.
ومن جهة ثانية، تبرز أهمّية مبدأ الاعتدال الأرسطي في تحقيق السّعادة والفضيلة. حيث يربط «أرسطو» بين الفضيلة والسّعادة، مشيرًا إلى أنّ السّعادة الحقيقيّة لا تتحقّق إلاّ من خلال ممارسة الفضائل والعيش وفقًا لأخلاقيّات متوازنة. بمعنى آخر، فإنّ الشّخص الذي يتبع مبدأ الاعتدال ويسعى للتّوازن في حياته الأخلاقيّة سيكون أكثر قدرة على تحقيق السّعادة الحقيقيّة والتّحقّق الشّخصي.
ومن جهة ثالثة، يتضمّن مبدأ الاعتدال الأرسطي عدّة خصائص أساسيّة تعكس فلسفة «أرسطو» في الأخلاق، وتتضمّن هذه الخصائص العقلانيّة والتّدرّج. فيما يتعلّق بالعقلانيّة، يؤكّد «أرسطو» على أهمّية العقل في توجيه السّلوك الأخلاقي واتخاذ القرارات الصّائبة. بينما يشير المدرّج إلى أنّ الفضائل ليست مطلقة، بل هي درجات تتراوح بين الرّذيلتين المتضادّتين، وهذا يعكس رؤيته للفضائل كمسار تطويري يتطلب جهدًا وتدريبًا مستمرًّا لتحقيق الاعتدال والفضيلة.
باختصار، يُعتبر مبدأ الاعتدال الأرسطي من أهمّ المبادئ الأخلاقيّة التي وضعها «أرسطو»، حيث يحثّ على إيجاد التّوازن والوسطيّة بين الرّذائل المتضادّة، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحقيق السّعادة والفضيلة. وتتجلّى أهمّية هذا المبدأ في إرشاد الفرد نحو حياة أخلاقيّة متوازنة ومرضيّة، حيث يتمتّع بالسّعادة الحقيقيّة والتّحقّق الشّخصي.
يمكن تقسيم البحث إلى جزأين؛ الأول نخصّصه للمبدأ في ذاته والثاني للمبدأ في موضوعه  
الجزء الأول: مبدأ الاعتدال في ذاته   
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأوّل نتحدّث فيه عن أساس المبدأ والثّاني نتحدّث فيه عن مبرّرات المبدأ.  
العنصر الأول: أساس المبدأ  
يستند مبدأ الاعتدال إلى فهم «أرسطو» للنّفس البشريّة وتركيبها. حيث يقسم النّفس إلى ثلاثة أجزاء رئيسيّة: النّفس العاقلة، والنّفس الشّهوانيّة، والنّفس الغضبيّة. هذا التّقسيم يعكس نظرته الشّاملة للطبيعة البشريّة ويمثّل أساسًا رئيسيّا لهذا المبدأ.
إذ تمثّل النّفس العاقلة جانب الإنسان الذي يتحكّم في التّفكير والمنطق. فهو القوّة العقليّة التي تمكّنه من تحليل الوضع بشكل صحيح واتخاذ القرارات الحكيمة. يعمل العقل كمرشد للإنسان، حيث يمنحه القدرة على التّمييز بين الخير والشّر، ويساعده على اتخاذ القرارات الصّائبة التي تعزّز الفضيلة والاعتدال.
أمّا النّفس الشّهوانيّة فتعبّر عن الجانب العاطفي للإنسان ورغباته الجسديّة. فهي تشمل المشاعر والرّغبات التي تدفعه نحو الاستمتاع بالمتع الجسديّة والمادّية. ومن خلال مبدأ الاعتدال، يدعونا «أرسطو» إلى توجيه هذه الرّغبات بحكمة وضبط، بحيث لا تتحكّم فينا بشكل مفرط، بل نحافظ على التّوازن ونسيطر عليها.
وأخيرا نجد النّفس الغضبيّة التي تمثّل الجانب العاطفي المتعلّق بالغضب والانفعالات. وبموجب مبدأ الاعتدال، يدعونا «أرسطو» إلى ضبط هذه العواطف وتوجيهها بشكل مناسب، حتّى لا تتسبّب في أفعال نابيّة أو في فقدان التّوازن النّفسي.
بواسطة هذا الاقتران بين العقل والرّغبات والعواطف، يسعى مبدأ الاعتدال إلى تحقيق التّوازن الدّاخلي للفرد. فالعقل يمثّل القوّة التّوجيهيّة التي تساعدنا في السّيطرة على الشّهوات والغضب، وفي إدارتها بطريقة تعزّز الفضيلة والسّعادة. 
في النّهاية، يعبّر مبدأ الاعتدال عن رؤية شاملة للحياة الأخلاقيّة، تقوم على تحقيق التّوازن بين العقل والشّهوات والعواطف، ممّا يؤدّي إلى تحقيق الفضيلة والسّعادة الحقيقيّة في حياة الإنسان.
العنصر الثّاني: مبرّرات المبدأ
يعدّ مبدأ الاعتدال الأرسطي كما أسلفنا أحد الأسس الرّئيسيّة في فلسفة «أرسطو»، وقد وجد تطبيقاً واسعاً في مجموعة متنوّعة من المجالات الحياتيّة. يُبرر «أرسطو» هذا المبدأ من خلال عدّة حجج ترتكز على الحفاظ على التّوازن، تحقيق السّعادة، وضمان الاستقرار الاجتماعي.
أولاً، يرى «أرسطو» أنّ الحفاظ على التّوازن يُعدّ أمراً حيويّاً لحياة الفرد والمجتمع. فالتّطرّف في أيّ سلوك قد يؤدّي إلى نتائج ضارّة ومدمّرة. على سبيل المثال، قد تتحوّل الشّجاعة المفرطة إلى تهوّر، ممّا يعرض الشّخص للخطر دون وجود مبرّر أو توازن، بينما يمكن أن يؤدّي الجبن المفرط إلى الهزيمة وفقدان الفرص. لذا، يعتبر «أرسطو» التّوازن بين الرّذائل المتضادّة أساساً لتجنّب الانحرافات السّلبيّة وضمان استمراريّة التّطوّر الإنساني.
ثانياً، يعتقد «أرسطو» أنّ السّعادة تتجسّد في العيش وفقًا للفضائل، وهي الخصائص الأخلاقيّة التي تساعد الفرد على تحقيق التّوازن والازدهار الشّخصي. من خلال مبدأ الاعتدال، يتحقّق التّوازن بين الرّغبات والمشاعر والعقل، ممّا يؤدّي إلى تحقيق الفضيلة وبالتّالي السّعادة الحقيقيّة. 
إذاً، يُعَدّ مبدأ الاعتدال طريقًا للسّعادة والتّحقّق الشّخصي، إذ يسمح للإنسان بالتّوازن بين مختلف جوانب حياته وتطلّعاته الأخلاقيّة.
ثالثاً، يسهم مبدأ الاعتدال في تحقيق الاستقرار الاجتماعي. فالكيان الذي يتبنى الاعتدال ويحافظ على التّوازن بين مختلف القوى والاتجاهات يكون أكثر استقرارًا وتماسكًا. بالمقابل، قد تتعرّض المجتمعات التي تسودها التّطرفات والانحرافات السّلوكيّة لاضطرابات وصراعات داخليّة. لذا، يُعَدّ مبدأ الاعتدال أساسًا لبناء مجتمع متماسك ومزدهر، حيث يسود التّعاون والتّفاهم بين أفراده.
باختصار، يتّضح من خلال هذه الحجج أنّ مبدأ الاعتدال يمثل أساساً أخلاقيّاً واجتماعيّاً مهمّاً، حيث يسهم في حفظ التّوازن، وتحقيق السّعادة، وضمان الاستقرار الاجتماعي. وبذلك، يبرّر «أرسطو» استخدام هذا المبدأ كأداة أساسيّة لتوجيه السّلوك الإنساني نحو الخير والازدهار.
الجزء الثّاني: مبدأ التّعارف في موضوعه   
يمكن تقسيم الجزء الثاني إلى عنصرين؛ الأوّل نتحدّث فيه عن نتائج المبدأ والثّاني نتحدّث فيه عن حدود المبدأ.
العنصر الأول: نتائج المبدأ  
إنّ لتطبيق مبدأ الاعتدال نتائج إيجابيّة تؤثّر بشكل كبير على الفرد والمجتمع بشكل عام، حيث يسهم في تحقيق السّعادة الشّخصيّة، والحفاظ على التّوازن الدّاخلي، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
أوّلاً، يعمل مبدأ الاعتدال على تحقيق السّعادة للفرد. فعندما يتبنّى الفرد مبدأ الاعتدال، يتمكّن من إيجاد التّوازن بين رغباته ومشاعره، ممّا ينعكس إيجاباً على حالته النّفسيّة ويساهم في شعوره بالرّضا والسّعادة. فعلى سبيل المثال، من خلال السّيطرة على الشّهوات وضبط العواطف، يصبح الفرد قادرًا على تحقيق التّوازن والاستقرار الدّاخلي، الأمر الذي يعزّز شعوره بالسّعادة والرّاحة النّفسيّة.
ثانياً، يُساعد مبدأ الاعتدال على الحفاظ على التّوازن في جميع جوانب حياة الفرد. فالتّوازن الذي يتحقّق من خلال مبدأ الاعتدال ليس مقتصرًا على الجوانب النّفسيّة والعاطفيّة فقط، بل يشمل أيضًا الجوانب الاجتماعيّة والمادّية. فعندما يتمكّن الفرد من إدارة حياته بشكل متوازن، يصبح قادرًا على تحقيق النّجاح في مختلف مجالات حياته بما في ذلك العمل والعلاقات الاجتماعيّة والصّحة والعافية.
ثالثاً، يسهم مبدأ الاعتدال في تحقيق الاستقرار الاجتماعي بمجتمع الفرد. فعندما يعيش الأفراد وفقًا لقيم الاعتدال والتّوازن، يتمكّنون من بناء علاقات صحّية ومستقرّة مع بعضهم البعض، ممّا يعزّز التّعاون والتّضامن في المجتمع. وبالتّالي، ينعكس هذا الاستقرار الاجتماعي على جميع جوانب الحياة في المجتمع، من خلال الحدّ من الصّراعات والانقسامات وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والسّياسي.
بهذه الطّريقة، يتّضح أنّ مبدأ الاعتدال يحمل آثاراً إيجابيّة متعدّدة على الفرد والمجتمع، حيث يساهم في تحقيق السّعادة الشّخصيّة، والحفاظ على التّوازن الدّاخلي، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي. وبالتّالي، يعد ّتبنّي هذا المبدأ مفتاحًا لبناء مجتمعات متوازنة ومزدهرة.
العنصر الثاني: حدود المبدأ  
رغم أهمّية مبدأ الاعتدال الأرسطي وفوائده، إلاّ أنّه يواجه بعض التّحدّيات التي قد تؤثّر على فعّاليته وتطبيقه العملي. من بين هذه التّحدّيات، يأتي تحديد التّوازن المثالي بين رذيلتين متضادّتين كمنطلق رئيسي، حيث قد يكون ذلك أمرًا صعبًا. فالتّوازن ليس مفهومًا ثابتًا وقابلًا للتّطبيق بنفس الطّريقة في جميع الحالات، بل قد يختلف تعريفه وتفسيره من شخص إلى آخر ومن ظروف إلى أخرى. وبالتّالي، يمكن أن يواجه الأفراد صعوبة في تحديد المعايير الدّقيقة للتّوازن والاعتدال في حياتهم.
علاوة على ذلك، تمثل التّغيّرات في القيم الأخلاقيّة مع مرور الزّمن تحدّيًا آخر لمبدأ الاعتدال. فالقيم الأخلاقيّة ليست ثابتة بل تتغيّر وتتطوّر مع التّقدّم الاجتماعي والثّقافي، ممّا يجعل تفسير مبدأ الاعتدال أكثر تعقيدًا وضبابيّة. على سبيل المثال، قد يختلف تطبيق مبدأ العدالة  من كيان إلى آخر ومن عنصر  إلى آخر، ممّا يجعل من الصّعب تحديد ما إذا كان التّوازن يتحقّق بالفعل أم لا.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدّي التّركيز المفرط على مبدأ الاعتدال إلى إهمال بعض القيم المهمّة الأخرى مثل الشّجاعة والعدالة. فقد يتجاوز الفرد في بعض الأحيان الحدود بحجّة تحقيق التّوازن، ممّا قد ينتج عنه فقدان التّوجّه والقدرة على اتخاذ القرارات الصّحيحة في بعض الظّروف المهمّة.
بالنّهاية، على الرّغم من هذه الحدود والتّحديات، فإنّ مبدأ الاعتدال الأرسطي لا يزال مبدأً أخلاقيًّا هامًّا ذا قيمة كبيرة. فهو يوفّر إطارًا أساسيًّا للتّفكير الأخلاقي ويشجّع على البحث عن التّوازن والتّعقّل في تصرفات الفرد وكيانه. ومع التّحديات التي قد تواجه تطبيقه، يبقى من الضّروري استيعاب هذه الحدود والعمل على تجاوزها بحكمة وتفهّم، لتحقيق الفوائد والنّتائج الإيجابيّة التي يقدّمها هذا المبدأ.