نوافذ

بقلم
د.علي رابحي
بناء المسجد بناء للأمّة
 تعريف المساجد
المسجد لفظة إسلاميّة لم تكن معروفة قبل ظهور الإسلام، فالاسم والمسمّى به جاءا مع ظهور الإسلام، والمسجد هو كلّ مكان يسجد ويتعبّد فيه(1) . ورد ذكر المسجد والمساجد والمسجد الحرام في القرآن الكريم – بلفظها – ثماني وعشرين مرّة، ووردت الإشارة إلى المسجد الحرام بلفظ بيت سبعة عشرة مرّة، ووردت الإشارة إليه باسم مقام إبراهيم ومصلّى مرّة واحدة، ووردت الإشارة إلى المساجد بلفظ البيوت مرّة واحدة ولكلّ مرّة مناسبتها(2). 
المساجد: جمع مَسجِد، إن أُريد به المكان المخصوص المعَدّ للصّلوات الخمس، وإن أُريد به موضع سجود الجبهة، فإنّه بالفتح لا غير «مَسجَد» (3). 
المسجد لغة: الموضع الذي يسجد فيه، ثمّ اتّسع المعنى إلى المكان المخصوص المُعَدّ للصّلوات الخمس. قال الزّركشي:«ولمّا كان السّجود أشرف أفعال الصّلاة لقرب العبد من ربّه اشتق اسم المكان منه فقيل مسجد، ثمّ إنّ العرف خصّص المسجد بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس حتّى يخرج المصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها فلا يعطى حكمه». وقال صاحب (تثقيف اللّسان): «ويقال للمسجد: مسيد، بفتح الميم، حكاه غير واحد»(4).
والمسجد في الاصطلاح الشّرعي: المكان الذي أُعِدّ للصّلاة فيه على الدّوام(5).  وأصل المسجد شرعاً: كلّ موضع من الأرض يُسجد للّه فيه(6)، لحديث جابر رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه ﷺ أنّه قال: «... وجُعِلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيُّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة، فليصلّ»(7)، وهذا من خصائص نبيّنا محمد ﷺ وأمّته، وكانت الأنبياء قبله إنّما أُبيحت لهم الصّلاة في مواضع مخصّصة: كالبِيَع والكنائس(8).وقد ثبت في حديث أبي ذرّ رضي اللّه عنه، عن النّبي ﷺ أنّه قال: «وأينما أدرَكَتْك الصّلاة فصلِّ، فهو مسجد»(9).
أمّا الجامع: فهو نعت للمسجد، سمّي بذلك؛ لأنّه يجمع أهله؛ ولأنّه علامة للاجتماع، فيقال: المسجد الجامع، ويجوز: «مسجد الجامع» بالإضافة، بمعنى: مسجد اليوم الجامع(10)، ويقال للمسجد الذي تُصلَّى فيه الجمعة، وإن كان صغيراً، لأنّه يجمع النّاس في وقت معلوم.
وينقسم المسجد الى ثلاثة أنواع، هي:
- المسجد المحلي أو مسجد القرب : أدركت المفاهيم الجديدة كمفهوم القرب مجال بناء المساجد، ومع توسع عمران المدن أصبح من حقّ كلّ مؤمن أن يجد مكانا للصّلاة قريبا من مسكنه ومقرّ عمله، وقد كان هذا التّوجه وراء مضاعفة الجهود لبناء المساجد في مختلف الأحياء والتّجمعات السّكنيّة، يعمل على توفير الخدمات الدّينيّة لها، ويوصى بأن تغطّي خدماته مساحة 600x600م (11). 
- المسجد الجامع أو الجامع : يقع داخل مركز المدينة، وتمثّل العنصر البارز فيه، ويوصى بأن تغطّي خدماته مساحة 1200x1200م (12).  
- مسجد العيد أو المصلّى : يقع على أطراف المدينة، وفي حالات المدن الكبرى قد يكون هناك أكثر من مسجد لصلاة العيد، وفي هذه الحالة يمكن الصّلاة في المسجد الجامع الموجود بالمنطقة السّكنيّة.
أخذ المسلمون أسلوب عمارة مساجدهم من عمارة الرّسول ﷺ لمسجده في المدينة المنوّرة، واستلهموا منها العناصر المعماريّة الأساسيّة والمضامين الرّوحيّة التي يجب مراعاتها عند بناء أيّ مسجد، وأضافوا إليها مع الزّمن عناصر تحسينيّة اقتضاها الزّمان والمكان وحرّية الابتكار والإبداع التي يضمنها الإسلام، ولكن بدون الخروج عن الضّوابط الشّرعيّة المعمول بها في هذا المجال.
فرغم تنوّع التّشكيل، تجمع المساجد وحدة القصد. وحتّى التّشكيل نفسه فإنّه يحافظ وجوبا على تحقيق مجموعة من العناصر المعماريّة الأساسيّة مرتّبة ترتيبا مخصوصا، ومن أهمّها نجد المحراب الذي هو المكان المجوّف الذي يتوسّط جدار القبلة بمنشأة المسجد، يتقدّم فيه الإمام المصلّين، يهتم به أكثر من ناحية الزّخرفة الكتابيّة والهندسيّة والتّزيين بالجبس، ويستخدم الزّليج التّقليدي في كسوته، ليكون بارزا وتسهل رؤيته من أيّ مكان من المسجد؛ وعن يمين المحراب نجد مقصورة لركن المنبر، وعلى شماله مقصورة الإمام؛ يقابل المحراب قاعة الصّلاة التي كانت في الأصل تتكوّن من صحن وأربعة أروقة حوله، تقوم على أعمدة تحمل فوقها العقود والأقواس. وأعمق هذه الأروقة أو البلاطات وأكبرها هو رواق القبلة الذي غالبا ما تتوسّطه القباب، وتنفتح في جدرانها نوافذ وشمّاسات يتدفّق منها النّور. ولعوامل عقديّة، ثمّ بسبب صغر الوعاء العقاري المخصّص لبناء المسجد تأقلم التّصميم العام للمسجد حسب وضعية ومساحة البقعة الأرضية التي يشغلها المسجد، فانتشرت المساجد ذات القبة الواحدة بدون صحن، لأنها توفر للمصلين فراغا بدون عمد لضمان تواصل الصفوف، وتيسير إمكانية رؤية الإمام وخطيب الجمعة والواعظ بدون عوائق من البناء. كما أخذ المسجد شكلا طوليا متعامدا مع اتجاه القبلة ليحظى أكبر عدد من المصلين بفضل الصلاة بالصف الأول. واستحدثت بالغرب الإسلامي المنابر المتحركة التي لا تستخرج إلا عند الخطبة لضمان الصفوف المتواصلة. وأعرض المعماري المسلم عن فتح أبواب في حائط القبلة حتى لا يضطر الداخل إلى قطع الصفوف، ووضعت مداخل وولوجيات في مواجهة القبلة وعلى الجنبات لتيسير استكمال الصفوف من كل الجهات. ثم رفعت المآذن غالبا في الحائط المقابل لجدار القبلة، ووضع في أعلاها شرفات لتزيين نهايتها من جهة، وللحد من ضرر الاطلاع على السطوح من جهة أخرى.
فضل عمارة المساجد وإعمارها
لمكانة المساجد العالية، وعظم منزلتها عند الله تعالى أضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، حيث قال في محكم كتابه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (البقرة: 114)، وقال سبحانه ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (التوبة: 18). وقال جل جلاله: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا﴾ (الجن: 18)
وقد جاء الحث على عمارة المساجد في نصوص عامة كقوله تعالى: ﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران: 92)، فالآية تدعو إلى الإنفاق في سبيل الخير، ولا شك أن بناء المساجد من أعظم هذه السبل.
كما جاءت النّصوص الصّريحة، كقوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ...﴾ (النور: 36). فقد أذن سبحانه وأمر وقضى بأن ترفع، أي تُبنى وتُعلى ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة :127). وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...﴾ (التوبة: 18). وعمارة المساجد إمّا بلزومها وكثرة إتيانها، أو ببنائها وصيانتها.
ووردت الأحاديث الكثيرة عن النّبي ﷺ في عمارة المساجد وبنائها، منها: « من بنى للّه مسجدا، بنى اللّه له مثله في الجنّة»(13) وقال ﷺ: « من بنى للّه مسجدا صغيرا كان أو كبيرا بنى اللّه له بيتا في الجنّة»(14).
كانت بداية العمارة الإسلاميّة في بناء المسجد، لتمكين الدّولة الإسلاميّة النّاشئة من مؤسّسة بانية وجامعة ورابطة وراعية، فدور المسجد في الإسلام محوري في العلم والعمل، لهذا أوّل ما شرع به النّبي ﷺ لمّا قدم المدينة تأسيس المسجدين: مسجد قباء ومسجده النّبوي المنوه بهما بقوله تعالى: ﴿لمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ (التوبة: 108). ويجسّد البناء الجماعي للمسجد النّبوي آنذاك، الالتحام والتّعاون بين المسلمين أنصارا ومهاجرين في تشييد هذه اللّبنة الأولى لتأسيس الأمّة الإسلاميّة. واستخدم في بنائه اللّبن وجذوع النّخل وسعفه لما اشتهرت به طبيعة المدينة المنوّرة من كثرة نخيلها. ثمّ انتشرت إقامة المساجد في كلّ أنحاء العالم، وتنوّعت في عمارتها وفق طراز العمارة في الدّول التي دخلها الإسلام، لكنّها كلّها موحّدة في إطارها العام. 
تبرز أهمّية المسجد في المشروع الحضاري الإسلامي في الوظائف التي يؤدّيها في حياة المجتمع الإسلامي، فهو يلبّي حاجيات أفراده الأساسيّة من عبادة اللّه وإقامة الشّعائر الدّينيّة والتّواصل الاجتماعي وحراسة القيم الإسلاميّة والإنسانيّة. وقد كان دوره فيما قبل عظيما، حيث كان مركزا جامعا يتلقّى فيه المسلمون الوعظ والإرشاد، وصار مدرسة للتّربية والتّعليم والتّوجيه، وتعدّى ذلك فأصبح أيضا قاعدة لإدارة الشّأن العام والخاصّ، بحيث كانت تعقد فيه مجالس عديدة ومتعدّدة مثل مجالس القضاء والجهاد واستقبال الوفود وغير ذلك. ورغم أنّ المسجد فوّض كلّ مهامه التّاريخيّة التي كان يضطلع بها إلى مؤسّسات خارجيّة مستقلّة، فإنّ روح المسجد مازالت جارية بمحيطه، حيث أنّ المسجد ما زال ينظّم الإيقاع الزّمني للحيّ ووقت السّاكنة المحيطة به، ومازال يضطلع ببعض الأدوار التّعليميّة والاجتماعيّة والتّضامنيّة. كما أصبحت تشكّل المساجد -وخاصة بالأحياء الهامشيّة –حصنا منيعا لحماية السّكينة الرّوحيّة بعيدا عن كل ّغلوّ وتشدّد في الدّين يتنافى مع روح الإسلام ورحمته ويسره وسماحته.
الهوامش
(1) عبد الرحيم غالب، موسوعة العمارة الإسلامية، جروس برس، ط1، 1988م، ص: 381.
(2) محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الكتب المصرية، 1945م، ص:345.
- حسين مؤنس، المساجد، سلسلة عالم المعرفة، عدد: 37، الكويت، 1981م، ص: 13. 
(3)  ابن منظور، لسان العرب، م س، ص: 204 -205.
(4)  عمر بن خلف بن مكي الصقلي، تثقيف اللسان وتلقيح الجنان، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط1، 1990م، ص 186.
(5)  محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي، معجم لغة الفقهاء، دار النفائس، ط 2، 1988م، ص:397.
(6)  الزركشي، إعلام الساجد بأحكام المساجد، تحقيق أبو الوفا مصطفى المراغي، المكتبة الأزهرية للتراث، ط 3، 2007، ص27.
(7)  صحيح البخاري، كتاب التيمم، بابٌ: حدثنا عبد الله بن يوسف، برقم 335، 
       - صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 521.
(8)  القرطبي، المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، تحقيق محي الدين ديب، دار ابن كثير، ط1، 1996م، ج 2، ص: 117.
(9) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، بابٌ: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، رقم 425، 
       - صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 520. 
(10)  ابن منظور، «لسان العرب»، م س، ص: 55.
(11)       Référentiel d’architecture des mosquées du Maroc ; édition de l’ordre national des architectes ; conseil régional de l’oriental ; année 2013 ; page 61
 (12)  Même référence ; page 60
(13) «صحيح البخاري»، كتاب الصلاة، باب من بنى مسجداً، برقم 450، 
         - «صحيح مسلم»، كتاب الصلاة، باب فضل بناء المساجد، والحث عليها، برقم 533. 
(14) سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل بنيان المسجد، برقم 319، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/110