فقه المعاملات
بقلم |
الهادي بريك |
من فقه المعاملات المالية في الإسلام الحلقة 6 : أحاديث صحيحة يساء تنزيلها |
لا مناص من التّذكير مرّة من بعد مرّة بأنّ صحّة الحديث النّبويّ لا تكفي وخاصّة لإيجاب شيء أو تحريمه. لا مناص من فقه الدّراية. قال السّلف : المشتغل بالحديث وهو عن الفقه معرض حقّه الضّرب بالجريد. ومثله المشتغل بالفقه معرضا عن الحديث. تلازم الحديث مع الفقه هو تلازم الرّوح بالجسد. الفقيه الذي يحرّم على النّاس شيئا بغير دليل قاهر قويّ مثل الطّبيب الذي يبتر عضوا خطأ، بل أشدّ. كما أنّه لا بدّ من التّذكير مرّة أخرى أنّ أكثر الحديث النّبويّ في المعاملات المالية هو من باب التّرهيب أن يكون ذلك وسيلة إلى الرّبا المحرّم أكلا، أي أنّه منهي عنه وسائليا، لا مقاصديا. وأكثر ذلك يكون في ربا الفضل، وليس النّسيئة. لأنّ ربا النّسيئة مقطوع بحرمته ولا يحتاج إلى كثير قول.
من يفتي النّاس بحسب ما تميل نفسه هو إليه فهو يغشّهم. الفقيه لا تقلّ قيمته خطورة عن الدّولة: كلاهما يمكن أن ينزل بالنّاس بلاء يسأل عنه يوم القيامة. بل إنّ النّاس في الأعمّ يثقون بالفقيه وليس بالدّولة. تلك بعض التّذكيرات لعلّها تجد آذانا واعية.
الحديث الأوّل : لا تبع ما ليس عندك
ورد هذا الحديث بطرق كثيرة وروايات أكثر، وهو عند المحقّقين صحيح. المقصود منه هو نفي الغرر أن يبيع البائع سلعة لا يمكن له في العادة توفيرها، وخاصّة عندما يكون المبيع طعاما. ويقاس على الطّعام كلّ حاجة تعمّ بها البلوى ممّا لا بدّ منه لقيام حياة النّاس. ولذلك أخرج الشيخان عن إبن عمر ما يلقي أضواء مهمّة على هذا الحديث من حيث حسن درايته وذلك في قوله ﷺ: «إذا إبتعت طعاما فلا تبعه حتّى تستوفيه». حرص العلماء المحقّقون على حسن فهم الحديث دراية بعدما وقع الإطمئنان إلى روايته فقالوا : «أنّ المقصود هنا ليس العين (عين المبيع) إنّما المقصود هو (الصّفة)، أي إذا غابت العين المراد بيعها وغلب على ظنّ البائع أنه تجربة أو علما يوفّرها إلى صاحبه ويسلّمها إيّاه، فإنّ الحدّ الأدنى هو حضور صفة ذلك المبيع، وهو المسمّى : الموصوف في الذّمّة. ومعلوم أنّ كلّ ذلك مقصده نفي الغرر والجهالة بما يفضي إلى نشوء نزاعات بين النّاس وذهاب ريحهم. كمن يبيع جملا شاردا قد يفيء وقد لا يفيء. فسّر إبن حزم (العندية) هنا بالملكية حتّى لو كانت ملكية مؤجّلة ما كان الغرر والجهالة منفيين. ومنهم من قارن بين هذا النّهي وبين بيع السّلم الذي تعرّضنا إليه في حلقات سابقة، إذ أنّ بيع السّلم نفسه هو بوجه ما بيع لما ليس يملك البائع (حضور الثّمن وغياب المثمون). وخلصوا إلى أنّ بيع السّلم مستثنى من هذا. ولكنّه هو نفسه منضبط بما قاله فيه ﷺ:«في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم بثمن معلوم».
والحاصل هنا أنّه كلّما إنضبطت جوانب العقد كيلا ووزنا وثمنا وأجلا ـ بما ييسّر على النّاس معيشتهم وحاجاتهم وبما ينفي عنهم الغرر والجهالة ويجعل من صفّهم واحدا ـ كانت العقود صحيحة. وقال الفقهاء في ذلك (بيع ما ليس عنده) قول الحرمة وقول الكراهة وقول التّهديد، وذلك بحسب غلبة ظنّ البائع تجربة أو علما : هل يوفّر المبيع إلى صاحبه كما وصفه له أو لا. فيكون من ذا تنازع لا تحمد عقباه. كما أنّ المقصود من هذا النّهي هو بيع المعدوم الذي لا يمكن توفيره كمن يبيع للنّاس سمكا مازال في بحره ولا يغلب على ظنّه تجربة أو علما أنّه يوفّره لهم في الآجال المضروبة. المقصود بالمعدوم هو الذي لا يمكن إخراجه من العدم إلى الوجود. كما تعلّق بهذا النّهي ما ورد فيه الحديث الآخر الصّحيح نهيا عن بيع الثّمار قبل بدوّ صلاحها، وهو يحمل المعنى ذاته : تجنيب النّاس كلّ غرر وجهالة وتنازع. ولكنّ الثّمار الذي لم يبد صلاحها. ولكنّ التّجربة تدلّ على أنّه ماض إلى صلاحه في أجله المعروف وأنّ حاجة الطرّفين المتعاقدين إلى ذلك حاضرة فلا شيء فيه. أمثلة كثيرة تشي كلّها بأنّ المقصد هو نفي الغرر والجهالة وتجفيف منابع التّنازع وسلّ فتائل الخصام بسبب أنّ أكثر شيء يسعّر الخصومات بين النّاس إنّما هي الدّنيا. كما يتّصل بهذا المنع ما ورد فيه معنى التّقابض. أي لا بدّ من إقباض البائع السّلعة (أو الخدمة) مشتريها. وكلّ ذلك يندرج تحت قيمة نفي ما لا تحمد عقباه بين النّاس ولحفظ الحقوق المالية للنّاس.
في معاملاتنا المعاصرة ـ وكثير منها عن بعد ـ لا يوجد تقابض بين المتعاقدين، وربّما تمرّ البضاعة من المصنع إلى أسواق الجملة ولا يراها بعينه لا صاحبها الذي باعها ولا صاحبها الذي إشتراها ولا حتّى محطّات السّمسرة بينهما. إنّما يرون منها موصوفات ترضيهم.
التّقابض إذن مقصوده نفي الغرر والغشّ والخديعة والجهالة التي يمكن أن تثير الحزازات، وليس هو تقابض ماديّ يد بيد، لأنّ هذا كان ممكنا في الأسواق التّجارية البدائية. هل نعوّق حركة التّجارة بين النّاس ـ بل بين الدّول والشّركات ومنها حاجات أساسية للحياة ـ حتّى يقبضها المشتري بنفسه أو يعانيها بنفسه أو لا يمكن له أن يشتريها حتّى تكون مصنوعة في المعمل جاهزة؟ لا. طبعا. ومن ذا جاءت العلاقة بعقد الإستصناع الذي تجري فيه اليوم عقود بالمليارات.
عقد الإستصناع هو عقد على معدوم، إذ هو توافق بين طرفين : أحدهما يطلب مواصفات محدّدة لسلعة ما والآخر يجهّز له ذلك. فإذا حضر الموصوف في الذّمّة ـ كما يقولون هم ـ وحضرت قيمة الثّمن توافقا وليس تسليما كان العقد صحيحا. ومن ذلك ما يعرف ببيع المرابحة الذي يقع توافقا بين المصرف الإسلاميّ والعميل، إذ يأمر العميل مصرفه بأن يوفّر له بيتا أو سيّارة أو أيّ حاجة، ومن ذا يكون العقد صحيحا رغم أنّ التّقابض يكون بعد أيّام أو أسابيع وشهور وأنّ المصرف ساعة التّوافق لا يملك (ملكية عندية) ذلك المطلوب. وغير ذلك من الأمثلة لا يحصى بسبب أمرين : أوّلهما شرعيّ وهو نفي الغرر والجهالة والغشّ والخديعة بما يجفّف منابع التّنازع على الدّنيا بين النّاس، وثانيهما عمليّ فرضته التّحوّلات وهو تيسير المعاملات بين النّاس وعدم تعويق الحركة التّجارية
الحديث الثّاني : النّهي عن صفقتين في صفقة واحدة
ورد هذا الحديث كذلك بطرق مختلفة وروايات متنوّعة، وهو صحيح عند المحقّقين. فالمطلوب إذن حسن فقه درايته. من تلك الرّوايات النّهي عن الجمع بين سلف وبيع، أو عن بيعتين في بيعة واحدة. تكاد تجمع كلمة المحقّقين من أهل الدّراية هنا على أنّ المنهي عنه هنا قصدا هو الجمع بين بيع ناجز بثمن جاهز وبين بيع مؤجّل بثمن مؤجّل، كأن يقول البائع شرطا : أبيعك هذا الثوّب مثلا بعشرة ناجزات حاضرات جاهزات وبضعفها نسيئة، أي تكون البضاعة مشتركة بين جزء ناجز وجزء آخر نسيئة. هذا تحايل واضح على الرّبا لأنّ الجزء الذي فيه نسيئة محرّم قطعا، ولكن لو باعه ذلك الثّوب كلّه نسيئة بثمن محدّد إلى أجل محدّد ولو بزيادة الثمّن فلا بأس، إذ أنّه بيع مؤجّل. أمّا الصّفقتان أو البيعتان في بيعة واحدة فهما منهيّ عنهما بسبب ما قد يكون من الجهالة في الثّمن. إذ تتضمّن الصّفقة هنا أو البيعة ثمنين، فإذا توافقا على ثمن واحد فلا شيء عليهما.
ومثل ذلك النّهي بالصّيغة الأخرى عن الجمع بين سلف وبيع، إذ المحذور هنا هو الضّغط على المشتري بأن يقبل بسعر مرتفع للسّلعة التي إشتراها في مقابل ما سيحصل عليه من سلف. أي قرض.
المؤئل هو إذن في مثل هذه العقود الحرص على تنقيتها من كلّ غرر وجهالة للثّمن أو المثمون أو الأجل. فلا تظالم بين المتعاقدين، ولكنّ بعض الدّخلاء منعوا كلّ تعدّد للشّروط في العقد عملا بهذا النّهي، وهو تنزيل فاسد للحديث. ذلك أنّ المشكلة ليست في الشّروط مهما تعدّدت مادامت نائية عمّا فيه غرر وغشّ وخديعة وجهالة من شأنها شقّ صفّ النّاس وإحداث التّنازعات حول الدّنيا. ولا يكرّ كلّ هذا على بيع التّقسيط أو بيع الأجل، مادام محدّد الثّمن والمثمون والأجل. إذ أنّ من قواعد التّجارة أنّ الزّمن عامل من عوامل الثّمن لا يمكن تجاهله.
المطلوب هنا هو دقّة الفهم وتفكيك العقود وحسن أيلولتها إلى أصولها التّشريعية. وكلّ تعجّل هنا يحكم عليها بالحرمة وتعوّق الحركة التّجارية بين النّاس بإسم حرمة الرّبا. وهذا ـ ويا للأسف الشّديد ـ ما يجري عليه الإفتاء كثيرا.
تحرير الرّبا تحريرا جامعا مانعا
كم نحن بحاجة ماسّة وأكيدة إلى تحرير علميّ صحيح صريح للرّبا المحرّم نبذا لكلّ شغباب الدّخلاء الذين يحرّمون على النّاس ما لا يريدونه حتّى لأنفسهم، فيعالجون النّاس بما يعالجون به هم أنفسهم. والنّاس ـ لفرط جهلهم ـ ينصاعون لذلك. وبعضهم يستخدم ترهيبا أو ترغيبا في غير محلّه، كأن يفتي المستفتي بعدم قربان هذا العقد لأنّه أصين لدينه. ولكنّ المطلوب من ذلك المفتي ـ سيما في حالات إستثنائية وطارئة ـ البحث عن مخرج له وتحرير دقيق لشرعية تلك المعاملة، وليس صرفه عنها فحسب. عليه بيان الحقّ فيها، ثمّ يمكن له أن ينصحه، وليس يحرّمها عليه إبتداء بجهل حاملا ذلك على عدم قربان الشّبهات.
وبعضهم يحطب بليل، فيقول للنّاس كلاما لا أسّ له من مثل أنّ كلّ قرض جرّ نفعا فهو ربا. هذا كلام ساقط لا أصل له، إذ المعتبر هنا هو منفعة مشروطة من صاحب اليد العليا سواء في أثناء العقد أو بعد بلوغه أجله وعجز المقترض عن الوفاء. أمّا المنفعة التي ليس عليها توافق لا إبتداء ولا إنتهاء فهي سنّة من سننه ﷺ. إذ اقترض جملا فلمّا رده إلى صاحبه أوفى له بأكثر ممّا أخذ منه. وعندما يكون الفضل بين النّاس ربا في أذهان العامّة فيا حسرة على العباد.
يكاد ينحصر الرّبا المحرّم ـ نسيئة وليس فضلا وأكلا وليس ضرورة ـ في بيع الدّين. إذ المعاملات بين النّاس إمّا تجارة أو دين. كما قال الله سبحانه في أصل هو أصل الأصول لحسن تحرير الرّبا المحرّم ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(البقرة: 275). فلا مجال في الأصل ـ إلاّ إستثناءات تجري عليها الحيل الفاسدة ـ لربا محرّم في أيّ عقد بيع وتجارة سواء كان ناجزا أو مؤجّلا أو جاهز الثّمن وغائب المثمون أو الصّورة المقابلة لذلك أو صور أخرى كثيرة ربّما عالجنا منها هنا ما عالجنا.
تحريم الرّبا محلّه بيع الدّين، لأنّ المال لا يلد مالا إلاّ بعمل. ولذلك كان خير بديل عن الرّبا المضاربة بشتّى صورها وحتّى أسمائها، سواء كانت مغارسة في أرض أو إشتراكا بين المال والعمل في أيّ عملية تجارية أو صناعية أو زراعية أو خدمية.
كلّ معاملة في الأصل مشروعة ما خلت من بيع الدّين، إذ الدّين لا يلد مالا وربحا في الأصل، ولا مناص من تعاضد المال والعمل ليغنم المتعاقدان معا أو يغرما معا. ومن هنا لا مناص للمفتين من تحرّي الحقّ ما إستطاعوا إلى ذلك سبيلا أو عدم حشر الأنوف فيما لا يحسنون أن يقولوا على الله بغير علم، فيؤاخذوا كلّ مؤاخذة يوم القيامة. ومعلوم أنّ الخطأ في الإباحة أقل سوء من الخطإ في المنع قياسا على أنّ الخطأ في العفو خير من الخطإ في العقوبة، وتحريم ما أحلّ الله بسبب جهل أو عدم تحرّ أو صرف لشبهة فحسب دون ثبوت حرمة هو وأد معنويّ للنّاس. وأيّ وأد للنّاس عندما تحول بإسم الله دونهم ودون معيشتهم. والحقّ أنّي لم أجد كمثل إباحة بيع السّلم دليلا على أنّ ما يحتاجه النّاس يباح ما لم يكن بيعا لدين أي ربا نسيئة صحيحا صريحا. ومثله بيوعات لا تكاد تحصى وكلّها قياسا ممنوعة ولكنّ الحاجة أباحتها.
هذا دليل أعظم على أنّ الشّريعة إنّما جاءت لتيسير حياة النّاس وعدم تعويق معاملاتهم، وخاصّة فيما سمّي قديما طعاما، أي ما تعمّ به البلوى بالتّعبير القديم ممّا يقوم مقام مؤسّسات الحياة. ولذلك أبيحت صور لا تكاد تحصى ما نبذت عنها أضرار الغرر والجهالة والغشّ والخديعة والحيل الممقوتة أو التّحايل الصّريح على الرّبا (بيع العينة مثلا رغم إباحة الشّافعيّ له). ومثله بيع التّورّق تغليبا لوجهة محتاج في ضائقة لم يجد مالا سائلا يسدّ حاجته المؤكّدة فلجأ إلى طلب الورق.
المطلوب كلّ المطلوب هو حسن التّحرّي وحسن تكييف الواقعات فقهيا وعلميا، وحسن التّمييز بين صور الرّبا الصّحيحة الصّريحة التي لا تحتمل عدا ذلك وبين صور لا تكاد تحصى من المعاملات التي لا يفقه المفتي تراكيبها وتفاصيلها فيفتي النّاس بالأحوط فحسب. لا يا صاحبي، أفت نفسك بالأحوط، أمّا غيرك فإمّا أن تفتيه بالأيسر ما لم يكن إثما أو أصمت ولك في منارة الفقه العظمى (لا أدري) خير وقاية. |