الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
مفهوما الليّل والنّهار في القرآن (6) 5.2. تجلي النهار وتجليته للشمس
 نواصل بحثنا في موضوع النّهار في القرآن، وسنتناول في هذا العدد قوله تعالى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّيٰ﴾(اللّيل: 2)، وقوله: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّيٰهَا﴾(الشّمس: 3). موضوع الآيتين كما هو واضح هو ظاهرة التّجلّي أي تجلّي النّهار وتجلية النّهار للشّمس. وللتّذكير فإنّ مفهوم النّهار القرآني الذي توصّلنا إليه(1)  هو المفهوم المطابق لمفهوم النّهار العلمي، إذ النّهار في القرآن هو، أوّلا نهار خاصّ بالأرض وثانيا هو الضّياء الذي يحدث بشرطين: وجود الشّمس وووجود غازات معيّنة بكثافة محدّدة، وثالثا هو جسم مادّي رقيق حيث يقول العلم في شأن شكله أنّه نصف كرة مقعّر محيط بالنّصف المواجه للشّمس، وهو شكل سنرى مدى حضوره في القرآن عندما نتناول آية تكوير اللّيل على النّهار وتكوير النّهار على اللّيل. 
1.5.2. الجذر (جلو) في اللّسان
«جلو: جلا الصَّيقلُ(2) السَّيف جِلاءً. والماشطةُ تجلو العروس جلوه وجِلوة، وقد جُليت على زوجها. واجتلاها زوجها، أي: نظر إليها. وأمرٌ جليِّ: واضح. وما أقمتُ عندهم إلاّ جَلاءَ يومٍ واحدٍ، أي: بياض يوم. وتقول: جلا اللّه عنك المرض، أي: كشفه. وجَليت عن الزَّمان، وعن الشّيء، إذا كان مدفونًا فأظهرته»(3). «(جَلَّى) السَّيْفَ (تَجْلِيَةً) كَشَفَهُ»(4). و«الجَليُّ: نقيض الخفيّ»(5). «ومِن المجازِ: جَلَا فُلانًا الأَمْرَ؛ أَي كَشَفَهُ عنه وأَظْهَره» (6) . «(جَلَوَ) الْجِيمُ وَاللَّامُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَقِيَاسٌ مُطَّرِدٌ، وَهُوَ انْكِشَافُ الشَّيْءِ وَبُرُوزهُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّمَاءُ جَلْوَاءُ أَيْ مُصْحِيَةٌ. وَرَجُلٌ أَجْلَى، إِذَا ذَهَبَ شَعْرُ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَهُوَ الْجَلَا» (7) . إنّ المعنى الأصلي للجذر (جلو) يتضمّن انكشاف الشّيء وبروزه وظهوره بوضوح بعد ما كان مخفيّا، فماذا عن استعمال لفظ التّجلّي في القرآن من خلال ما جاء في التّفاسير؟
2.5.2. التّجلّي في القرآن
ورد لفظ تجلّى في القرآن مرّتين، في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الأعراف: 143) وقوله:﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّيٰ﴾(الليل: 2). سنكتفي ببعض أقوال المفسّرين في الآيتين نقدّر أنّها تلخص ما قيل في شأنهما. نقتبس عن الماوردي قوله في الجملة ﴿فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ إذ يرى أنّ: «معنى تجلّى ظهر مأخوذ من جلاء العروس إذا ظهرت، ومن جلاء المرآة إذا أضاءت»(8)، ويذكر في تجلّي الرّبّ أربعة أقاويل نكتفي بإثنين لقربهما من المعنى الأصلي للجذر (جلو)، أحدهما: أنّه ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل والآخر: أنّه ظهر أمره للجبل. ويقول الرّاغب في شأن الآيتين أنّ «أصل الجلو: الكشف الظّاهر. والتّجلّي قد يكون بالذّات نحو: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّيٰ﴾(الليل: 2)، وقد يكون بالأمر والفعل، نحو: ﴿...فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ...﴾(الأعراف: 143)»(9). وعند القرطبي فإنّ «تجلّىٰ معناه ظهر من قولك: جَلَوْت العروس أي أبرزتها. وجَلَوْت السّيف أبرزته من الصّدإ جِلاءً فيهما. وتجلّىٰ الشّيء انكشف. وقيل: تجلّىٰ أمره وقدرته قاله قُطْرُب وغيره»(10). إنّ تجلّي الرّبّ للجبل فيه انكشاف وظهور واضح لأمر اللّه وقدرته وفعله وهو ظهور بما يحدثه من أثر من جهة وظهور لا يمكن حصر مصدره في حيّز مكاني محدّد من جهة ثانية. إنّ في الاستعمال القرآني للتّجلّي معنى انكشاف الشّيء وظهوره بعدما كان خفيّا وفيه أنّ الشّيء المنكشف يمكن أن يكون أثرا لشيء آخر يتعذّر على حواس الإنسان إدراكه. فاللّه سبحانه تجلّى بأمره وقدرته واستعمل التّجلّي ليصف النّهار، فهل هناك اشتراك في دلالة التّجلّي بين اللّه تعالى والنّهار؟ 
3.5.2. تجلّي النّهار 
القول بأنّ النّهار تجلّى يعني أنّ الضّياء انكشف وظهر بوضوح بعدما كان مخفيّا. فهل لهذا الكلام معنى علميّ؟ رأينا في العدد 201 من المجلة أنّ ضياء النّهار هو أثر فوتونات الضّوء المرئي عندما تنعكس على العين بعد سقوطها على هباءات غازي الأكسجين الحرّ (O2) والنّيتروجين (N2) وعلى سطح الأرض والأجسام فوقه. وهذه الفوتونات هي كميّات أوّلية من الطّاقة غير مرئيّة إذا تحرّكت في الفراغ، أمّا إذا دخلت في الغلاف الغازي وتشتّتت، يصبح لها أثر مرئي أي أنّها تنكشف وتظهر بوضوح من كلّ الاتجاهات بنقلها لصور الأجسام وألوانها الى العين، فهي تتجلّى حقيقة لا مجازا وتجلّيها هو بروز للضّياء الذي هو أثرها، وهذا الضّياء هو النّهار كما في اللّسان وفي القرآن: فعندما تقول الآية أنّ النّهار تجلّى فهي تصف بدقّة طبيعة الظّاهرة الأرضيّة التي بفضلها يبصر الإنسان وهي ضياء النّهار أو النّهار بتعبير أدق. يحيلنا تجلّي النّهار بهذا المعنى الى الآية 29 من سورة النّازعات التي تناولناها بالبحث في العدد 204. إنّ الرّجوع الى تلك الآية يظهر أنّ التّجلي هو ظاهرة طبيعيّة نتيجة لما يسمّيه القرآن إخراج الضّحى حيث رأينا كيف أنّ فوتونات الضّوء المرئي كانت تتحرّك في وسط كثيف وغير قادرة على إظهار أثرها فيه الى أن تغيّرت تركيبة الغلاف الغازي وخرجت من السّجن الذي كان مضروبا عليها، فانكشفت وظهرت من خلال أثرها الذي نسمّيه ضياء. إنّ مفهوم التّجلّي للنّهار وكذلك مفهوم الإخراج للضّحى يتضافران لوصف قرآني لظاهرة النّهار وهو وصف دقيق حسبما تظهر المعارف العلميّة حول الظّاهرة. ولا بدّ من النّظر في مسألة استعمال القرآن للفعل الماضي (تجلّى) مع النّهار في حين أنّه يستعمل المضارع مع الغشيان للّيل: ﴿ وَاللّيْلِ إِذَا يَغْشَيٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّيٰ ﴾(اللّيل: 1-2). سنعود لآية الغشيان لاحقا ونبقى مع مفهوم التّجلّي. إنّ استعمال الزّمن الماضي لفعل التّجلّي يعني أنّ القرآن يشير الى حدث وقع في الماضي من تاريخ الأرض وهذا ما وقع فعلا حيث أنّ التّجلّي هو نتيجة لإخراج ضياء نهار الغلاف الغازي، وهو حدثٌ وقع مرّة واحدة في الماضي قبل مئات الملايين من السّنين بعد أن أصبح للغلاف الغازي التّركيبة الكيميائيّة التي هو عليها الآن.  
4.5.2 تجلية للشّمس
هذا عن تجلّي النّهار، فماذا عن تجلية اللّه للشّمس كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّيٰهَا﴾(الشمس: 3)؟ لو استطعنا الذّهاب الى الفضاء وألقينا نظرة على الشّمس دون أن نفقد بصرنا، فسنجد الشّمس بيضاء صافية وليست صفراء اللّون كما تبدو لنا عندما ننظر إليها بعد شروقها أو قبل غروبها(11). لكن ضوءها الأبيض لا يرى الاّ في اتجاهها فقط، أمّا الفضاء من حولها وحولنا ونحن في الأعلى فهو حالك الظّلمة. وهذا عكس ما يحدث ونحن على الأرض. فالطّبقة السّفلى من الغلاف الغازي تلعب دورا مهمّا في بعثرة الضّوء القادم من الشّمس، حيث تمكّن كثافة غازي الأكسيجين والنّيتروجين العالية ذلك الضّوء من الانعكاس على جزيئاتها مرّات عديدة ممّا يجعل الفضاء حولنا مضاء ويعطي جسما نسمّيه النّهار. تلعب الجزيئات الغازيّة دور المصادر للضّوء. ونظرا لأعدادها التي لا تحصى فإنّ ضوء الشّمس يصبح واضحا للعيان عكس ما هو عليه في الطّبقات العليا من الغلاف الغازي وخارجه: إنّ الشّمس سراجا وهّاجا ولكن لا يمكن لضوئها الذي يملأ الفضاء حولها وينتشر في كلّ الاتجاهات أن يتجلّى أي ينكشف ويظهر ويصبح واضحا وبيّنا للنّاظرين إلاّ قريبا من الأرض. ولتقريب ظاهرة تجلية النّهار للشّمس للإدراك العقلي يكفي أن ننظر للشّمس في نهار فيه عاصفة رمليّة أو ضباب كثيف حيث ستبدو كقرص باهت عكس الهيئة التي تكون عليها في غياب كلّ الجسيمات المادّية في الجوّ ما عدا الأكسجين والنّيتروجين. 
إنّ الضّياء الذي أطلقه العرب على الحالة البصريّة التي يكون عليها الجوّ طيلة تواجد الشّمس فوق الأفق كان مختفيا وظهر، وبظهوره كشف الفوتونات الضّوئيّة المرئيّة من خلال أثرها الذي يتجسّد سواء فيما تبدو عليه الشّمس من تألّق لسكّان الأرض أوفي الضّياء الذي يعمّ الأرجاء ويجعل عمليّة الإبصار للأشياء والألوان ممكنة.
الهوامش
(1) مجلة الإصلاح الإلكترونية – العدد 202، ماي 2024
(2) الصَّيقَلُ: الصَّقَّال، من يجلو السُّيوف ويشحذها. صَقَلَ الإِنَاءَ: جَلاَهُ، أَزَالَ صَدَأَهُ. https://www.almaany.com/
(3) العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م (جلو)
(4) مختار الصحاح (جلا) مختار الصحاح-محمد بن أبي بكر الرازي-توفي: 666هـ/1268م
(5)منتخب الصحاح (جلا) منتخب الصحاح-أبو نصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م
(6)تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
(7)مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م (جلو)
(8) تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) مصنف ومدقق
(9) المفردات في غريب القرآن -الراغب 502 هـ أصل الجلو: الكشف الظاهر الجلو
(10) تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف ومدقق
(11)  https://nasainarabic.net/education/articles/view/color-of-the-sun