نقاط على الحروف
بقلم |
د.عزالدين عناية |
الترجمة وقضايا العالم |
لا شكّ أنّ العالم اليوم يواجه جملة من القضايا المتنوّعة، آثارها جليّة على البشريّة جمعاء منها: مستحقّات التّعدّدية، بوجهيها الدّيني والثّقافي، ومستوجَبات السّلم في العالم، ومراعاة الأقليّات في مجتمعاتها الأصيلة، واحترام نظيرتها في المجتمعات التي طرأت عليها الهجرة، وغيرها من القضايا. وهي قضايا لا يمكن التّعاطي معها بمثابة أخبار عابرة، في وسائل الإعلام؛ بل ينبغي تطارح آثارها وأبعادها بعمقٍ، وإمعان النّظر فيها وحولها بالبحث والدّراسة والتّرجمة.
ومهما بدا المرءُ معزولا عن تلك القضايا الكبرى، حين يرزح تحت وطأة المشاكل الفرديّة، فالثّابت والجليّ أنّ ثمّة جدليّة وصِلة بين مشاكل الفرد الشّخصيّة وقضايا العالم الجماعيّة، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ مشاكل الفرد هي قضايا العالم، وقضايا العالم هي مشاكل الفرد. ولعلّ هذا ما يجعل التّرابط بين القضايا الإنسانيّة وصناعة النّشر اليوم من أوكد ما نحتاج لمعالجته لإدراك ذواتنا وللإحاطة بقضايا العالم.
الصّناعة الثّقافيّة وقضايا العالم
لعلّ من الصّائب، لو شئنا عنوانا لمقالنا في قالب تساؤل لقلنا: من يصنع الفكر والثّقافة اليوم؟ ومن تشغله قضايا العالم؟ مجالات النّشر والقضايا الإنسانيّة هما مسألتان تُسائلان أوضاعنا الرّاهنة، المعرفيّة والحضوريّة في العالم، بَيْد أنّهما تشكوان من المعالجة السّويّة والمعمَّقة. ذلك أنّ الجانب الأول، «النّشر والتّرجمة»، هو عملٌ غالبا ما تعكف على الاشتغال به مؤسّسات خاصّة لدينا، وهي مؤسّسات في أوضاعها الحاليّة قاصرة عن بلوغ المرجو، لأنّها باختصار تلاحق تحقيق الرّبح للحصول على عائدات مادّية لا غير، وقلّما يرتبط عملا النّشر والتّرجمة في تلك المؤسّسات الخاصّة بمعالجة قضايا ذات أبعاد إنسانيّة.
ذلك أنّ دُور النّشر العربيّة، في الغالب الأعمّ، ليست امتدادا لمراكز أبحاث أو مؤسّسات دراسات، أو هيئات علميّة ومعرفيّة، معنيّة بالاشتغال على نطاق محلّي أو دولي، بل هي شبه دكاكين تجاريّة محدودة الأنشطة، لم تتحوّل إلى ما يشبه المغازات أو المولات الثّقافيّة. ومحدوديّة النّشاط هذه فرضت عليها نمطا خُلقيّا في التّعامل مع الكتّاب والباحثين والمبدِعين، غالبا ما كان محكوما بمعادلتَيْ الاستغلال، وأدخلها في منظور للنّشر والتّرجمة محصورا بأهداف مستعجَلة وخاضعا لسياسات ربحيّة. لذلك يبقى دَوْر الانشغال بالقضايا الإنسانيّة بعيدا عن خياراتها وملقى على عاتق مؤسّسات ذات صبغة مقاصديّة تتجاوز الهدف التّجاري إلى هدف حضوري وتأثيري في العالم. ونقصد بالأساس مؤسّسات معرفيّة وعلميّة غير ربحيّة، تتمتّع بمستوى من الاستقلاليّة حتّى تقدر على التّحرّك والتّأثير.
ألمحنا بعجالة، في ما سبق، إلى نوعي المؤسّسات المنشغلة بالنّشر والقضايا الإنسانيّة في آن، ضمن السّياق العربي، وبيّنا أنّ التّعويل على دُور النّشر العربيّة في هذا الجانب هو من باب حلم اليقظة، لأنّ فاقد الشّيء لا يعطيه. فالمسألة أكبر من قدراتها وإمكانيّاتها، ولذا تبقى المؤسّسات الجماعيّة الفاعلة، أو ما بات يُعرف بـ (الثينك تانك/ Think tank) هي المقتدرة على تولّى هذه المهمّة وتطويرها. فالفكر العملي اليوم، والتّأثير الثّقافي بوجه عام، ما عادا صناعة فرديّة بل صناعة مؤسّسة جماعيّة.
أعود إلى الإشكال الجوهري في مقالنا: صناعة النّشر بوجهيها المعرفي والتّرجمي، من يصنعها اليوم في البلاد العربيّة؟ هل هي مؤسّسات الدّولة؟ أم مؤسّسات البحث والدّراسات ذات الطّابع المستقل؟ أم دُور النّشر الخاصّة؟ فخلال العقود الأخيرة خَبَت في الدّولة تلك الحماسة في صناعة «الثّقافة المنشورة»، ومن ثَمّ تراجع هاجس استقبال الجديد في العالم، حتّى لكأنّ الدّولة غادرت معترك هذا السّوق وتركته عرضة لتنافس صبياني محموم. تخلّت الدّولة عن تلك الرّيادة التي ميّزتها فجر الاستقلال وإلى غاية الثّمانينيّات من القرن الفائت. لكن هذا العبء، أو لنقل هذه المسؤوليّة التّاريخيّة، ثمّة دولٌ لا تزال تتحمّلها باقتدار وبطرق ذكيّة وفي مقدّمتها بعض دول الخليج العربي، ما عدا تلك الدّول، فقد تراجع فيها ذلك الدّور بشكل فاجع.
وعلى هذا الأساس نُقدّر أنّ صناعة النّشر والتّرجمة التي تنظر إلى العالم، وتتفاعل معه، تحتاج إلى عين الدّولة، ولكن بروح وثّابة ومسؤولة (مشروع كلمة في أبوظبي، والمركز القومي للتّرجمة في مصر، ومؤسّسة ترجمان التّابعة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات في قطر، هي نماذج حيويّة لهذه العين السّاهرة والرّاعية). لأنّ المؤسّسات المدعومة من الدّولة هي الأقدر على إرساء المشاريع الهيكليّة، الهادفة والواضحة، مثل ترجمة القواميس، والموسوعات، وكبريات مراجع المدوّنة العالميّة، في الفكر والآداب والفنون وفي شتّى حقول المعرفة، وإلاّ فمن أين يأتي استقبال ما يجري في العالم والتّعاطي معه؟
مقتضيات الإحاطة بالقضايا الإنسانيّة
من الجليّ أنّ الانشغال بالقضايا الإنسانيّة لا يمثّل هاجسا لدى الجميع، وإن حضر هذا الانشغال لدى البعض، فإنّه غالبا ما يطغى عليه الطّابع السّياسي، لغلبة التّوتّرات والصّراعات ذات الأثر المعولَم، فتَتوارى قضايا حارقة مثل التّفاوت الاجتماعي، والإمعان في تفقير الشّرائح المحرومة، وطمس حقوق المظلومين، والتّغاضي عن قضايا الهجرة العالميّة وغيرها. مع هذا بات الوعي بالعالم، وبقضايا العالم، اليوم، مدعوّا لتجاوز التّعاطي الإخباري لما يجري إلى التّعاطي المعرفي. ولا سبيل إلى بناء تعاط معرفي مع العالم، سوى بإنتاج الأبحاث والدّراسات المعمّقة فيه، وردف ذلك بتفعيل عمل التّرجمة وتكثيفه. ومن جانبنا العربي نحن في أمسّ الحاجة إلى «استغراب» (يعانق الغرب معرفيّا) وبالمثل إلى «استشراق» (يعانق الشّرق الصّيني والياباني والهندي معرفيّا). ولْنكنْ صرحاء مع أنفسنا، علومنا التي تُدرَّس في المؤسّسات الجامعيّة العربيّة هي علوم منكفئة على الدّاخل العربي في مجملها، رغم وجود قدرات لغويّة في الجامعات العربيّة تفوق القدرات الجامعيّة الغربيّة أحيانا، بحوزة مدرّسي علم الاجتماع والفلسفة والحضارة والتّاريخ وغيرهم، لكن تلك القدرات مجمَّدة أو معطَّلة جرّاء خمول ذاتي أو جراء مناخ أكاديمي موبوء سائد في جامعاتنا، وهو ما يتطلّب مصارَحة حقيقيّة للخروج من هذا الانحصار في الدّاخل.
فالوعي بالقضايا الإنسانيّة يقتضي الانفتاح على مجالات معرفيّة متنوّعة في التّرجمة، وفي واقعنا الحالي، تحوز ترجمة الأدب، وتحديدا الرّواية، نصيب الأسد ممّا نستجلبه من الخارج، ولكنّ الرّواية وحدها لا تكفي لبناء رؤية صائبة ومكتملة عن الآخر. إنّ علماء الاجتماع لدينا، والمنشغلين بالفلسفة، والمنشغلين بالتّاريخ والسّياسة ونظراءهم كثيرون، هؤلاء ممّن ينبغي أن يرصد ويترجم نحو العربيّة وينقل رؤيتنا إلى العالم، لأنّهم وببساطة الأدرى بالعالم في مجالاتهم وتخصّصاتهم، وليس انتظار غيرهم ليقوم بذلك الدّور بدلا عنهم.
فالتّرجمة لدينا اليوم مطالبَةٌ بتصحيح مساراتها لتتحوّل من ترجمة ممّا يدرُّ ربحًا إلى ما يُؤسّس وعيًا. ومن ملاحقة الصّراعات العالميّة للـ «باست سالر» وأفضل القوائم لدى دُور النّشر، إلى تلبية احتياجاتنا وسدّ النّقص لدينا. فنحن في أمسّ الحاجة في التّرجمة إلى ما يزيح الغشاوة عنّا في رؤية العالم رؤية صائبة وواضحة. وبالتّالي فالتّرجمة الفاعلة، والحاضرة في الحراك الثّقافي، والتّغيير الاجتماعي، لا تصنعها دُور النّشر المتلهّفة على تحقيق الرّبح المستعجل.
تحيين المعارف بالغرب والشّرق، عبر النّشر والتّرجمة، ضروري للإحاطة بقضايا العالم. والجامعة منوط بها دَورٌ محوري في تنشئة القدرات البحثيّة والمعرفيّة وإنمائها. لذا في الواقع الحالي الجامعة والمؤسّسات الأكاديميّة العربيّة في حاجة ماسّة، في تخصّصات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والدّينيّة، إلى تكثيف التّواصل مع الفضاءات الثّقافيّة والمعرفيّة الأخرى من أجل تحفيز الوعي بالآخر. حيث تلوح الرّؤية العربيّة للآخر متقادمة أو مبتورة، لا تفي بشروط الإحاطة والإلمام بما يجري في العالم.
|